رغم أننا فى القرن الواحد والعشرين ودخول التكنولوجيا الحديثة جميع المنازل وارتفاع نسب التعليم وانتشار المدارس بالنجوع والقرى والمراكز بكثافة عالية، فإن مشاكل الثأر لا تنتهى ولم تفلح معها كل وسائل الردع القانونية، الثأر تلك العادة الجاهلية المترسخة بقوة فى الثقافة الجمعية لأهل الصعيد ولم تفلح كل وسائل التحديث أن تقاوم أو تحاصر ثقافة الثأر فرغم ازدياد أعداد المتعلمين وارتفاع نسبة الحاصلين على أعلى الشهادات الجامعية وزيادة عدد الجامعات والمدارس، فإن عادة الثأر لا تزال موجودة بقوة لا يمكن مقاومتها. صعيد مصر منطقة وعرة حالكة الظلام فبين سواد الفقر وهوان الجهل والمرض الذى تقبع فيه أكثر القرى فى جنوب مصر تنفجر الأوضاع من آن لآخر لنفتح أعيننا على حادث غدر يسمونه الثأر وأخطر مكامن زائر الموت الذى يأتى من حيث لا تحتسب ويقتل من لا يستحق القتل ومن آن لآخر تنعقد جلسات صلح هنا وهناك لتصفية الخصومات الثأرية لكنها غالباً ما تكون عبارة عن «فض مجالس» بحسب التعبير المصرى الدارج وتشير المعلومات إلى تربع محافظة سوهاج على رأس محافظات الوجه القبلى بل وعلى محافظات الجمهورية كافة فى حوادث الثأر. وعلى الرغم من انتشار التعليم فى محافظة سوهاج فى السنوات الأخيرة ووصول معظم الخدمات من مياه وكهرباء واتصالات، فإن عادة الثأر لم تتراجع عن واجهة الحياة فى تلك المنطقة القاسية والمقفرة من جنوب مصر بل إن هذا التعليم وتلك الخدمات تم توظيفها لتطوير عملية الأخذ بالثأر وتحول المتعلمون إلى ما يمكن أن نسميه «جناحاً سياسياً» لعائلات وقبائل سوهاج حيث يقوم هؤلاء بالتخطيط وإدارة عملية الثأر وما يعقبها من إجراءات قضائية أمام المحاكم بينما يتولى الأفراد الأقل تعليماً فى العائلة دور «الجناح العسكرى» حيث يقومون بشراء الأسلحة وإخفائها حتى تحين ساعة «أخذ الحق» والانتقام لقتلاهم، فى حين يتولى التمويل أثرياء العائلة من التجار وملاك الأراضى كما يقوم هؤلاء بالإنفاق على أسر من يقتلون أو يسجنون فى مسلسل الثأر الدامى. وتختلف عائلات سوهاج فى تعاملها مع قضية الثأر بحسب قربها أو بعدها عن المناطق الجبلية، فالقرى القريبة من المدن تقتصر عملية الثأر داخلها على الدائرة الضيقة القريبة من القاتل ولا يخرج الأمر عن القاتل أو أحد إخوته أو أبنائه وكذلك الأمر بالنسبة لأولياء الدم، فمن يقوم بالثأر هو ابن أو أخ القتيل أو أحد أبناء عمومته الأشقاء ويطلق الصعايدة على هذا الأمر مقولة «المعركة عيلة.. والقتيل بيت» بمعنى أن العائلة تشارك بأكملها فى التشاجر ولكن حين يقع القتيل يقتصر الأمر على بيت القاتل والقتيل فقط وينحصر دور باقى أفراد العائلتين فى الدعم والتعضيد. وعلى الرغم من أن الدراما التليفزيونية والسينمائية أظهرت المرأة الصعيدية فى صورة المقهورة والمظلومة التى تحرم من طفولتها ومن حقها فى التعليم ومن ميراثها الشرعى وغيرها من الصور السلبية التى ترسخت فى الأذهان عن نساء الصعيد، فإن الواقع يختلف كثيراً، فالمرأة ربما تكون مقهورة ومحملة بالكثير من الهموم والأعباء ولكن هذا الأمر ينطبق أيضاً على الرجل الصعيدى فالطبيعة القاسية فى جنوب مصر من فقر وبطالة وجهل ونقص فى الخدمات لا تفرق بين رجل وامرأة فالكل يحرق بشمس الصعيد اللاهبة ويعانى من تقاليده الجامدة الصارمة ولا يملك أحد التملص من تلك التقاليد إلا اتهم بالجبن والعقوق. ومن المفارقة أن المرأة الصعيدية تلعب دور الحارس على تلك التقاليد وعلى رأسها بالطبع الثأر فالمرأة تكاد تهب حياتها بالكامل للثأر لأب أو زوج أو أخ أو ابن قتل غدراً وتتصدى لأى محاولة من أفراد أسرتها للتهرب من «الدم» وشهد الصعيد عشرات النسوة اللاتى ينمن وهن يدعون الله ليل نهار أن يحفظ لهن الابن والأخ لا لشيء إلا ليأخذ ثأر عائلته، فالمرأة الصعيدية ترضع ابنها وتربى شقيقها على أن الثأر مرادف للرجولة وانه قدر محتوم لا مفر منه وفى إحدى حوادث الثأر استدرج شقيقان قاتل أخيهما لتناول العشاء ثم ذبحوه وقدموا رأسه هدية لأمهم. وبشكل عام، فإن الحزن لدى سكان سوهاج ليس بالأمر الطارئ أو العابر بل انه نسق حياة متكامل ويحتل الثأر بما يخلفه من موت وخراب ديار مكان القلب منه والمرأة الصعيدية تكاد لا تخلع السواد طوال عمرها ولا تقتصر مراسم الحداد على الملبس فقط بل يمتد إلى المأكل وكل أوجه الحياة المتعددة فتغلق أجهزة التليفزيون ويتوقفون عن أكل اللحوم وعمل الكعك فى الأعياد، وتتوقف حفلات الزفاف وتختفى كل ملامح الفرح. ولا تقل فترة الحداد لدى المرأة الصعيدية عن عام كامل وربما يمتد الحزن مدى الحياة إذا كان الفقيد زوجاً فى منتصف العمر أو ولداً فى مقتبل الحياة وإذا ما حاول أحد الخروج عن تلك التقاليد الصارمة يعتبر ذلك خيانة لذكرى وروح الفقيد والمرأة الصعيدية هى الحارس على خزانة الأحزان والمقاوم بعنف لأى محاولة لخرق تلك المراسم العتيقة. وأكد رئيس لجنة المصالحات بمحافظة سوهاج أن لجنة فض المنازعات تمكنت من إنهاء 275 خصومة ثأرية من إجمالى 370 حالة خلال الأشهر الماضية وأضاف أن الخصومات الثأرية العامل الرئيسى فى إعاقة تقدم مسيرة التنمية والاستثمار داخل المحافظة ومن جهة أخرى تضعف العائلات القوية وتميت العائلات الضعيفة وأضاف أن الخصومات الثأرية تحتاج لوقت لكى تجف آثارها السلبية ولكن يجب الحرص على عدم إطالة هذه المدة حتى يعم السلام محل النزاع ويخلف الثأر من خلفه بحاراً من الدم، وأسراً مهجرة وأطفالاً يتيمة ونساء ثكالى ومجتمعات متخلفة وبيئات لا تصلح للنمو ولا تساعد على الاستقرار. وقال اللواء دكتور حسن محمود، مساعد الوزير مدير أمن سوهاج: إن النزاعات الثأرية فى سوهاج لا تستدعى أن يكون هناك ثأر بين الطرفين لأنها أسباب بسيطة يمكن حلها بأقل مجهود وتحكيم العقل فى ذلك ولكن طبيعة الرجل الصعيدى حامية وشهامة زائدة ما يجعله فى كثير من الأحيان يندفع فى بعض الأمور والتى لا يحمد عقباها فقد يكون الثأر على أولوية سير بالطريق أو أولوية رى الزراعات بين الفلاحين أو أولوية السير بالسيارة قبل الآخرين فى طريق ما أو شجار ناتج عن لهو أطفال ينتهى بمقتل أحد الطرفين أو معاكسة فتاة، أو شجار على قطعة أرض أو مبلغ من المال. وأكد مدير الأمن أن لجان المصالحات بالمحافظة من رجال الأمن وكبار العائلات بالاشتراك مع الأزهر الشريف والأوقاف وبعض المؤسسات والجهات الداعمة للدولة نجحت فى فض كثير من المنازعات فى الفترة الماضية من خلال مبادرة «سوهاج خالية من الثأر» وما زال هنالك بعض النزاعات جار حلها وخاصة أن الثأر لا يسقط بالتقادم حتى لو ظل القاتل سنوات طويلة مختفياً أو خلف القضبان. وأضاف اللواء حسن محمود أنه يتم تقديم القودة «الكفن» من أهل القاتل إلى أهل القتيل وسط تجمعات من أهالى الطرفين وبعض أهالى القرية والقرى المجاورة والمطالبة بالصفح والسماح ونعمل بمديرية أمن سوهاج على إزالة تلك الخلافات بأقل الخسائر ونتدخل فى الوقت المناسب لإخماد النار بين المتخاصمين وأن للأزهر دوراً كبيراً فى فض المنازعات بمحافظة سوهاج، بقيادة الإمام الأكبر أحمد الطيب والدكتور عباس شومان وكيل شيخ الأزهر، والشيخ محمد زكى، رئيس لجنة الدعوة بالأزهر الشريف والدكتور على عبدالحافظ، وكيل أزهر سوهاج، وغيرهم. وفى النهاية، نجد أن القاسم المشترك الذى يجمع كافة حوادث الثأر هو الدموية والتشدد والتباس مفاهيم الشرف بالدم وعدم تغليب مبادئ العفو والتسامح بين البشر ويكاد يقع أغلب من تنزلق قدماه لهوة الثأر أسيراً لعادات وتقاليد اجتماعية ومفاهيم بالية تدفعه دفعاً لسفك الدم وعلى هذا النحو تظل مناورات الدفع نحو ما يعتبرونه القصاص وهو انتقام أعمى ولعلك تعجب إذا علمت أن جريمة الأخذ بالثأر لا توجه فى الغالب للقاتل بل إن الأسرة التى لها ثأر عليها أن تختار أقوى وأعلى شخصية من عائلة الخصم حتى يحترق قلب العائلة عليه وتكون خسارتهم فادحة وعلى هذا النحو يدفع الصالحون الناجحون «اللى عليهم العين» كما يقال ثمن جريمة لم يقترفوها، بل ربما ارتكبها أحد أقاربه المنبوذين المحسوبين عن طريق الخطأ لعائلته وهم قلة معروفون بالبلطجة وإحداث المشاكل لأتفه الأسباب.