كتب - أمجد مصطفى: خرجت جريدة «لوموند» الفرنسية بعنوان يقول: «عندما تغنى آلهة الفن المصرى أم كلثوم تهتز الرؤوس من شدة النشوة، كما تهتز أغصان النخيل على النيل» هذا هو وصف تلك الجريدة الكبرى لأم كلثوم عندما زارت فرنسا لأول مرة للغناء على مسرح الأوليمبيا فى باريس، يومى 13و 15 نوفمبر عام 1967. هذه هى كوكب الشرق ام كلثوم التى تحل ذكرى رحيلها اليوم. وكان من الغباء ان يقارن الاعلام بين زيارة المطرب الشعبى حكيم للغناء على هذا المسرح قبل عدة اشهر، وبين وقوف أم كلثوم عليه. فالفارق كبير بين الهرم الرابع وبين كل من غنوا على هذا المسرح فيما بعد. اختلفت مبادئ «الأوليمبيا» عمّا كان عليه فى السابق، وهو شأن مسارح كثيرة وكبيرة، حيثُ تحكمت لغة المال فى مبادئه لتغير خارطته وتجرفه لمنحى آخر، لا أحد كان يتوقعه، فالمسرح الآن بدأ يستقبل كل من هب ودب ممن يدعون أنفسهم مطربين، مقابل المال، فأصبح بإمكان أى مطرب الغناء فى أى قاعة كبرى بأمواله أو أموال منظم الحفل، أما فى الماضى فكانت المسارح تفتح لمن لهم قيمة فقط. «برونو كوكاتريكس» مدير مسرح الأوليمبيا الذى وجه الدعوة لام كلثوم للغناء، لم يقدم على تلك الخطوة إلا عندما ايقن انه أمام سيدة الشرق الاولى واهم مطربة فى العالم. أما الآن فلا نعرف كيف وعلى أى اساس تتم دعوة المطربين للغناء داخل القاعات الكبرى؟. ابدا لن نقارن مطرب «حلاوة روح» بأم كلثوم ومن العيب ان نذكر ان هذا الكيان الذى وقفت على خشبته أم كلثوم غنى فيه حكيم، الزمن غير الزمن والمكان لم يعد كما كان، كل ما تبقى من الأوليمبيا مجرد ذكريات. وإن كنا نتمنى ان يدقق من يديرون هذا المكان العريق فى الاسماء التى يتم ترشيحها للغناء هناك. ام كلثوم تلك القيمة الكبيرة لا يجب ان يتعامل معها الاعلام المصرى بهذا الجهل ويدخلها فى مقارنات مع أى مطرب. أم كلثوم وصلت الى العالمية بقصائدها وأغانيها الشجية والكلاسيكية الطويلة التى تصل مدة الأغنية الواحدة إلى 60 دقيقة فى الوقت الذى كانت فيه أوروبا تقدم الأغانى فى 5 دقائق فقط، ورغم ذلك كان يجلس الاوروبيون والعرب للاستماع والاستمتاع بأم كلثوم لأكثر من 3 ساعات وهى تشدو بأغانيها، دون كلل أو ملل من جانبهم، بل على العكس كانوا يطالبون بالمزيد، كوكب الشرق كانت تقدم غناء مختلفا تماما عما يقدمه الاوروبيون الذين دائما يبحثون عن السرعة فى كل شيء. لتقطع المسافات والأميال قادمة من مصر إلى بلاد الفرنجة بفنها وفكرها لترغمهم على احترامها. فهذا الممثل الفرنسى جيرار ديبارديو الذى تحدث فى كتابه «البرىء» عن أسباب اعتناقه الإسلام, وفيما يتعلق بحياته الروحية، حيث قال ديبارديو إن أغانى المطربة المصرية أم كلثوم ألهمته للتعرف بالقرآن الكريم، ومن ثم اعتنق الإسلام. وفى تفاصيل القصة، حضر جيرار ديبارديو الحفل الذى أقامته كوكب الشرق أم كلثوم على مسرح الأوليمبيا الشهير عام 1967 بصحبة أصدقاء له مسلمين، وأثر صوتها الشجى فيه بشكل كبير وبعد هذه الحفلة قرر اعتناق الإسلام. وقد أشاء بأدائها شارل ديجول، رئيس فرنسا آنذاك الذى أرسل إليها برقية تهنئة قال لها فيها: «مرحبا بك فى فرنسا.. حققتِ نجاحاً عظيماً، وانت تقدمين فناً راقياً.. وتقاليد فنية لها أصول وجذور فى التاريخ.. ونحن نرحب بك فى بلدنا». ام كلثوم فى هذا الحفل حصلت على أعلى أجر، حيث طالبت كوكب الشرق بأجر اعلى من أديث بياف, مطربة فرنسا الأولى وحصلت على رقم يعادل حوالى 250 الف يورو الآن. ما اضطر مدير المسرح وقتها إلى رفع قيمة التذكرة إلى 300 فرنك، وكان يخشى من عدم بيع التذاكر لكنه فوجئ ببيع الحفلتين، فقد نجحت أم كلثوم بحفلاتها هناك فى انتعاش الحركة السياحية فى باريس، حيثُ ازداد عدد رحلات الطائرات القادمة من أوروبا وبعض دول الخليج لحضور أول حفل لام كلثوم فى عاصمة النور. تلك هى عالمية ام كلثوم التى وصلت اليها بأسلوبها وفكرها الذى اعتمد على موسيقانا العربية. المؤسف الآن، أننا أصبحنا عاجزين عن تقديم نموذج مثل «أم كلثوم» يحترمه العالم ويجمع عليه اصحاب الثقافات المختلفة. لان كل الاصوات التى خرجت من اصحاب الحناجر القوية اعتبروا الحنجرة مصدر دخل وربح، ولم ينظروا الى القيمة التى من الممكن ان يحققوها من وراء مواهبهم. الآن الاصوات ترفض الغناء فى الاوبرا من اجل الانشغال بالغناء فى قصور الامراء، ومن اجل اقتناء المجوهرات والسيارات الفارهة، الآن أصبح الغناء مشروعا استثماريا وليس غنائيا. لم ينتهِ عطاء «أم كلثوم» فى حنجرتها التى تطرب بها جمهورها وعشاقها، وإنما فى إخلاصها وحبها لتراب بلادها، حيثُ تبرعت بأجرها بالكامل من حفل الأوليمبيا لصالح المجهود الحربى، فقديما كانت رموز مصر الفنية تتبرع لصالح بلادها دون أن يصاحبها ضجة إعلامية، عكس الحفلات التى تخصص الآن للخير التى تُقام من أجل الشو الإعلامى. مصر الآن فى حاجة إلى اعادة بناء الساحة الغنائية ووزارة الثقافة مؤهلة الآن لعمل ذلك بعد ان أصبحت على رأسها الدكتورة ايناس عبد الدايم وهى فنانة قادمة من رئاسة الاوبرا، ولذلك عليها ان تتبنى مشروعا لتقديم مائة صوت جديد لمصر يكون من بينها أصوات تمتلك موهبة أم كلثوم، وعبد الوهاب، وعبدالحليم وغيرهم، يسند أمر هذه الاصوات لقامات موسيقية كبيرة يكون هدفها تقديم شيء للبلد من خلال صوت مدرب على الغناء السليم وليس مدربا على فنون التجارة. فقد كانت أغلب الأصوات التى حولت صوتها لمشروع استثمارى كان وراءها ملحن يجيد فن الاستثمار وليس قواعد الغناء. وبالتالى تحول الصوت الموهوب الى صوت موهوم، اصبح مريضا بمرض العصر ألا هو الربح. الأموال قادمة قادمة لأى صوت، أم كلثوم جاءت من بيئة فقيرة وعبد الحليم عاش فى الملجأ لكنهم عاشوا حياة كريمة بعد ذلك ولم يفقدوا قيمتهم. وهذا هو الفارق بين الفنان والمستثمر.