تأتي أهمية قراءة التاريخ بإمعان من الدروس المستفادة من تجاربه سواء كانت عظيمة أو مريرة.. هذا وإلا فإن لم يحسنوا الإفادة من أخطاء الماضي سيكتب عليهم أن يكرروها ربما في ظروف أسوأ.. هذا يجعلنا نتدبر الخلاف حول موضوع المنظمات الأهلية الأجنبية بين القيادة المصرية والولاياتالمتحدة.. نحن هنا لا نتحدث عن الموقف القضائي الذي له كل التقدير لكننا نركز باهتمام واجب علي كيفية إدارة الصراع السياسي بحسابات شاملة ودقيقة للموقف حتي لا نتعرض لانفجار ألغام لا تحمد عقباها مع تحفظنا من حيث المبدأ علي السياسة الأمريكية لارتباطها الكامل بإسرائيل. تاريخياً من المعروف أنه كان للولايات المتحدةالأمريكية دور كبير في استدراج قادة انقلاب يوليو 1952 إلي فخ المعونات الأجنبية والاعتماد عليها، أيضاً نعرف أن الضباط الأحرار الذين تولوا الحكم كان لديهم سعيا متلهف علي هذه المعونات التي لم تعرفها مصر في الحكم الملكي.. وقد فعل القادة العسكريون الجدد بعد 1952 ذلك دون شفافية أو مصارحة للشعب وأصبحت الميزانية المصرية غير مسموح لها بالمناقشة أو الحساب. قبل 1952 كان من حق مجلس النواب المصري أن يستجوب أكبر قامة في البلاد إذا ما أساء استخدام المال العام، حدث هذا في برلمان الوفد عام 1936 حين تم سؤال الملك فاروق عن ارتفاع تكاليف إصلاح اليخت «المحروسة» وعن أسباب طلبه قرضاً من الدولة إبان زواجه الثاني من ناريمان، وقد وجه له السؤال فؤاد سراج الدين وزير داخلية الوفد عام 1951.. تعرض للمحاسبة العاصفة كذلك زعيم الوفد مصطفي النحاس عندما واجهه مكرم عبيد بالكتاب الأسود الذي كان يطعن في ذمته المالية، فوجئ أعضاء مجلس النواب بالزعيم الجليل يدخل البرلمان حاملاً معه فراء السيدة زوجته ومعه شهادة جمركية مما جعل القاعة تضج بالتصفيق وتذرف الدموع إعزازاً لخادم الأمة الأمين. ذلك كان ما وصلت إليه مصر قبل أن تتعرض بلادنا للحكم العسكري عام 1952 وما اتسم به أسلوب الانفراد بالحكم واعتماد التجربة والخطأ دون محاسبة. نتيجة هذه السياسة دخلت مصر علي يد الضباط الأحرار في لعبة الأمم الكبري، فهي لعبة شديدة الخطر لا سيما علي الجانب الأضعف.. كان نتيجة ذلك الإفراط في الثقة والتذاكي انتهاء حكم جمال عبدالناصر بكارثة 1967 التي لا نزال ندفع أثمانها رغم نصر أكتوبر 1973. لم تكن مصر تعرف قبل يوليو 1952 مسألة المعونات الأجنبية لا سيما السرية منها وكانت مصر تنتج القمح والقطن وتصدرهما، فضلاً عن قاعدة صناعية عظيمة أسس لها زعيم التحرر الاقتصادي طلعت حرب باشا. أجدني مهتمة بإعادة ما نشرته من قبل عن الركيزة التي أرستها حكومة يوليو من إمكان اتباع سياسة علنية تباهي بالاستقلال وأخري سرية تتسم بالتواطؤ.. من ذلك نص الوثيقة التي أثبتت اتصال الرئيس محمد نجيب ورجاله بأمريكا عن طريق محمد أمين وهي تتضمن أن القضية الأولي لمجلس القيادة هي كيف يبيعون الولاياتالمتحدة لجمهور المصريين وذلك مقابل مساعدات أمريكية.. ومن جهتهم فهم علي استعداد لتقديم تعهدات سرية بصدد الأهداف البعيدة لحلف الأطلنطي بالمشاركة مع الولاياتالمتحدة مع تأكيد بعدم رغبة مصر في تجديد العداء مع إسرائيل وبريطانيا «الوثيقة مسجلة في رسالة الكاتبة للدكتوراه والمنشورة في كتاب موقف الصحافة المصرية من القضايا الوطنية». لا شك أن إظهار هذه الدرجة من المسالمة التي توحي بالتواطؤ مع الولاياتالمتحدة - وهي حليف لبريطانيا وإسرائيل - مسألة أبعد ما تكون عن الدراية السياسية بل والواجب.. لا يقلل من هذا المعني انقلاب ثورة 1952 لا سيما جمال عبدالناصر علي السياسة الأمريكية ووقوفه ضد الأحلاف العسكرية لأن ذلك التطرف في الاتجاه المضاد استفز الولاياتالمتحدة ضد مصر وكانت له عواقبه الخطيرة. إذا عدنا للمعونات الأمريكية فنجد منها في البداية شحنات من القمح، بينما كان لدينا ما يكفي منه ويفيض، وقد تلي ذلك تجميد المساعدات الاقتصادية لمصر كعقاب علي تأميم القناة ثم العودة مرة أخري في سياسة شد وجذب متصلة.. كان لجوء مصر إلي الاتحاد السوفيتي من أجل التسليح يعد نوعاً من التهديد والاستنفار للولايات المتحدة فيما أسماه د. علي الدين هلال تعظيم دائرة المناورة.. الواقع أن استخدام الضغوط علي دول كبري في ظل الاحتياج لمعونتها الاقتصادية أو العسكرية يعد موقفاً متناقضاً ولعبة قد لا تسلم نتائجها دائماً.. كان الأفضل هو أن تظل مصر علي موقفها المستقل الحر من البداية وتنأي عن المعونات كبديل عن التنمية الذاتية لا أن تدخل الفخ وتستمر فيه دون حساب.. مثال ذلك ما اتخذته حكومة الوفد، والأخيرة برفض اتخاذ مواقف معادية للاتحاد السوفيتي لحساب الأمريكان، بينما اقتربت مصالح القصر الملكي آنذاك من الولاياتالمتحدة وهو ما مضت فيه سياسة الضباط الأحرار بعد انقلاب يوليو الذي بدأوا فيه مقتربين بشدة من الولاياتالمتحدة ثم انتهي الأمر بنهاية درامية. يجيء في دراسة للأستاذ جمال يونس بجريدة الوفد أن جمال عبدالناصر طالب أكثر من مرة بتجديد اتفاقية التعاون مع الولاياتالمتحدة في ظل الانحياز المفرط من ناصر للسوفييت إلا أن الرئيس الأمريكي جونسون تحدث ضمناً عن مناورة ناصر بين المعسكرين بقوله «إن المقصلة لا يمكن استخدامها سوي مرة واحدة». ظلت المساعدات متوقفة مع رفض أمريكا للطلبات المتكررة لعبدالناصر، بينما ظل هو يتحدث للجماهير أنه لا أحد يستطيع أن يجعل من المعونات وسيلة للتحكم فينا، وقد صدق الشعب المصري قائده ولكن الكارثة أن الآخرين في أمريكا كانوا يعرفون الحقيقة كاملة! عبر الدكتور علي الجريتلي الاقتصادي الشهير في كتابه «التاريخ الاقتصادي للثورة» 1952 - 1966 أن حصول مصر علي معونات هائلة من الكتلتين الشرقية والغربية كان نتيجته أن القروض جعلت الشعب المصري عاجزاً عن تحمل التضحيات اللازمة وأن ثورة يوليو تمثل رأسمالية الدولة فثمار عمل الشعب وموارده الطبيعية تصب في خزانة الدولة لتنفقها حسب تقدير الحكام. لقد أفرط حسني مبارك في التبعية للولايات المتحدة فتدخلت في كل شئوننا وفقاً لشروطها المجحفة وتولت أمر تسليح الجيش وقطع الغيار وخلافه وأثرت علي سياساتنا المفرطة في ممالأة إسرائيل ببيع الغاز الطبيعي لها بثمن بخس علي حساب الشعب المصري.. منذ ثورة 25 يناير 2011 من حقنا أن نشعر بأهمية استقلال الموقف ودعم الاعتماد علي الذات الوطنية، نتمني أن نستغني عن فخ المعونات الأمريكية التي تصب في معظمها في صالح الأمريكان وأن نفعل ذلك حقاً وفقاً لرؤية متكاملة ومستفيدة من تجارب التبعية المهنية أو الاستعداء الاستفزازي غير المدروس. نتفق مع ما يطرحه د. ضياء رشوان في عموده مع العمل مع الولاياتالمتحدة؟.. إجمالاً منبهاً إلي أهمية مشاركة كل الأطراف علي رأسها القوات المسلحة والأحزاب والقوي السياسية في اختيار السياسة الأصوب تجاه الولاياتالمتحدة، خاصة أن قطع المعونة الأمريكية يتشابك بالضرورة مع احتياجنا إلي قروض وإلي مساندة أمريكية بشأن ما نحتاجه من البنك الدولي وصندوق النقد، وهما مؤسستان تخضعان للقرار السياسي الأمريكي.. إذا أضفنا إلي هذا ما نشره د. حسن نافعة تحت عنوان «لاتزال عملية النهب مستمرة»، وما جاء في رسالة الحملة الشعبية لمراجعة وإسقاط ديون مصر، أن القروض قد تزايدت خلال الفترة الانتقالية الحالية «بمقدار 8 أمثال» القروض في المرحلة السابقة للمخلوع، هذا طبقاً لما نشر علي لسان بعض الوزراء وعلي رأسهم وزيرة التعاون الدولي نفسها!! المشكلة تبدو سياسية بامتياز وتتمثل في غياب المشاركة الشعبية والشفافية عن الموقف الاقتصادي في مصر. بهذا فإن أسباب القلق تتفاقم إزاء التناقض الكبير بين ما يراد لمصر من استقلال وما هي رازحة تحته من قروض وديون وتبعية مضطردة للولايات المتحدة وغيرها.