لم تكن الملكة المصرية الشهيرة «شجرة الدر» تعلم أن رحلتها قاصدة بيت الله الحرام للحج على هودج محمول على جمل ومغطى بقماش يحيط به من كل جهة، سيكون بداية رحلة روحية وإيمانية يتخذ فيها الهودج رمزًا للخروج بكسوة الكعبة الشريفة من مصر إلى الأراضى الحجازية وأن هذا الهودج سيصبح طقسًا مصاحبًا لمناسك الحج، يحتفل الناس به ويطاف به فى أرجاء القاهرة ليتبركوا به وبما يحمله من كسوة حيث كان يصاحب طوفانه العديد من الاحتفاليات كتزيين المحلات التجارية والرقص بالخيول وكان الوالى أو نائب عنه يحضر خروج المحمل بنفسه الذى يحمل كسوة الكعبة التى تعتبر أقدس الأماكن عند المسلمين وفى البداية كان المحمل يسافر إلى السويس ثم إلى قلعة النخل وسط سيناء ثم العقبة وبعد ذلك يتجه جنوبًا ويسير بحذاء البحر حتى «ينبع» ثم إلى مسكنه. وبعد الحج يعود المحمل حاملاً الكسوة القديمة للكعبة بعد إبدالها بالكسوة الجديدة وتقطع إلى قطع وتوزع على النبلاء والأمراء وما زالت هذه القطع موجودة فى متحف كسوة الكعبة وبعضها فى قبور العائلة الملكية فى مصر حيث زينوا بها أضرحتهم كنوع من التبرك. غير أن دور مصر فى كسوة الكعبة بدا قبل ذلك بقرون وفى عهد ثانى خلفاء المسلمين الصحابى «عمر بن الخطاب» رضى الله عنه، حيث كان يوصى بكسوة الكعبة بالقماش المصرى المعروف بالقباطى الذى اشتهرت بتصنيعه بالفيوم. والقباطى نسبة إلى قبط مصر، وكان المصريون ماهرين فى نسج أفضل وأفخر أنواع الثياب والأقمشة. والمحمل الشريف عبارة عن هودج من عدة قطع من القماش المزخرف بالآيات القرآنية يحمل على جمل خاص يخرج من مصر كل عام حاملاً كسوة الكعبة، كما كان يسيّر من بلاد تركيا وسوريا متزامنًا مع مناسك الحج ابتداء من عصر المماليك وحتى ملك آل سعود، وتحديدًا فى عهد الملك عبد العزيز آل سعود لتقوم السعودية منذ ذلك التاريخ بصناعة الكسوة المشرفة. ويعد الملك اليمنى أسعد تبع أبى كرب ملك حمير، هو أول من كسا الكعبة المشرفة بشكل كامل فى العام 220 قبل هجرة النبى (صلى الله عليه وسلم). ثم أخذت قريش فيما بعد تتولى هذه المهمة وكانت تقسم أموال كسوة الكعبة على بطونها الكبرى باعتبار أن الكعبة كانت رمزًا دينيًا يجلب لهم الحجيج من جميع أنحاء الجزيرة وينشط كذلك حركة التجارة ويحفظ لقريش مكانة دينية دونها أى مكانة أخرى، وكان ذلك يتم فى يوم عاشوراء. وبعد فتح مكة وفى أول عام يحج المسلمون فى العام التاسع من الهجرة، أصبحت كسوة الكعبة مهمة بيت المال فى المدينةالمنورة. ولقد صف كثير من الرحالة الذين زاروا مصر خروج كسوة الكعبة من مصر كابن بطوطة وناصر خسرو وغيرهما ومن أهم المشاهد التى سجلتها نصوص الرحالة والمؤرخين أيضًا صورة المحمل أو قافلة الحج عبر عصورها المختلفة، إذ تعتبر تلك النصوص من أكثر المصادر التى حفظت لنا تفصيلات دقيقة عن المحمل وكسوة الكعبة فيذكر لنا الرحالة ابن بطوطة عن هذا المشهد المهيب وكيفية خروج المحمل المصرى من القاهرة فى حضور أرباب الدولة: يوم المحمل هو يوم دوران الجمل وهو يوم مشهود حيث يركب القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمحتسب ويركب معهم أعلام الفقهاء وأمناء الرؤساء وأرباب الدولة ويقصدون باب القلعة فيخرج إليهم المحمل على جمل وأقامه الأمير المعين لسفر الحجاز (يقصد به أمير الحج) ومعه عسكره.. ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء ثم يطوفون بالجمل بمدينة القاهرة ويكون ذلك فى شهر رجب. أيضًا من أندر الكتابات التى قدمت وصفًا دقيقًا للمحمل الشريف ما نقله لنا المؤرخ «العياشى» الذى عاش فى القرن السابع عشر فهو يكتب عن وصف المحمل الشريف بتاريخ سنة 1073ه/1662م فيذكر بأنه: عبارة عن قبة من خشب رائعة الصنع ملونة بأنواع الأصباغ وعليها كسوة من رفيع الديباج المخوص والجمل الحامل للمحمل فى غاية السمنة وعظم الجتة وحسن الخلقة مخضب جلده كله بالحناء ويقوده سائقه، وقد خصص لهذا الغرض ولا يستخدم الجمل لأى أغراض أخرى ما بقى على قيد الحياة ويوجد عن يمينه وشماله جمل آخر على مثل صنعته. أما فى القرن العشرين فيمدنا الدكتور « فؤاد الماوى» فى كتابه: العلاقات الاقتصادية والمالية بين مصر والحجاز بتفاصيل كثيرة عن نفقات الكسوة التى كانت تعلق على الكعبة الشريفة، فهى غطاء مطرز بالذهب، ونهاية حوافه مطرزة بالفضة وملبسة بقشرة من الجواهر، وكانت يشرع فى صنعها فى شهر ربيع الثانى لتصبح جاهزة خلال ستة أشهر، وكان الوالى يفتش عليها بين الحين والآخر، ويقوم بوزنها الذى كان يصل عادة إلى سبعة عشر قنطارًا من الحرير، وثلاثة قناطير من الفضة الخالصة. وكان المسئول عن حماية القافلة وحمل الكسوة شخصية عسكرية كبيرة هو الذى لقب بأمير الحج، وبلغ من الأهمية إلى حد أنه وضع فى المرتبة الثالثة بعد كل من الباشا والدفتردار، وكان يخرج فى كل عام فى موكب كبير وسط احتفالات شعبية عارمة. وفى البداية كانت تصنع الكسوة الشريفة فى مصر بمنطقة الخرنفش حتى تم نقلها إلى ميدان محمد على فسار أمامها بلوكان من أورطة المشاة التاسعة بموسيقاها وعلمها وتبعت الجماهير هذا الموكب الفخم حتى الميدان، وفى المساء كان يتم عرض الكسوة فى المصطبة ويتوافد الناس زرافات لرؤيتها بحضور جمهور عريض من الأمراء والأعيان يدار عليهم المرطبات والحلوى.