دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    ما حكم ذبح الأضحية في البلاد الفقيرة بدلا من وطن المضحي؟    بورصة الدواجن اليوم بعد آخر انخفاض.. أسعار الفراخ والبيض الأربعاء 22مايو 2024 بالأسواق    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 22 مايو 2024    بالصور.. معايشة «البوابة نيوز» في حصاد اللؤلؤ الذهبي.. 500 فدان بقرية العمار الكبرى بالقليوبية يتلألأون بثمار المشمش    الأزهر ينشئ صفحة خاصة على «فيسبوك» لمواجهة الإلحاد    استشهاد 10 فلسطينيين جراء قصف إسرائيلي على غزة    نتنياهو: لا نخطط لبناء مستوطنات إسرائيلية في غزة    «ما فعلته مع دونجا واجب يمليه الضمير والإنسانية».. أول رد من ياسين البحيري على رسالة الزمالك    النشرة الصباحية من «المصري اليوم».. أيرلندا تعتزم الاعتراف بفلسطين.. وإطلاله زوجة محمد صلاح    فضل يوم النحر وسبب تسميته بيوم الحج الأكبر    إبراهيم عيسى: التفكير العربي في حل القضية الفلسطينية منهج "فاشل"    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    أرقام تاريخية.. كبير محللي أسواق المال يكشف توقعاته للذهب هذا العام    سيارة انفينيتي Infiniti QX55.. الفخامة الأوروبية والتقنية اليابانية    «هساعد ولو بحاجه بسيطة».. آخر حوار للطفلة جنى مع والدها قبل غرقها في النيل    رابط نتائج السادس الابتدائى 2024 دور أول العراق    اليوم.. ختام مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة بحضور إلهام شاهين وفتحي عبد الوهاب    أترك مصيري لحكم القضاء.. أول تعليق من عباس أبو الحسن على اصطدام سيارته بسيدتين    سفير تركيا بالقاهرة: مصر صاحبة تاريخ وحضارة وندعم موقفها في غزة    عاجل.. حلمي طولان يصب غضبه على مسؤولي الزمالك بسبب نهائي الكونفدرالية    تحرك برلماني بشأن حادث معدية أبو غالب: لن نصمت على الأخطاء    افتتاح أول مسجد ذكي في الأردن.. بداية التعميم    تصل إلى 50%، تخفيضات على سعر تكييف صحراوي وقائمة كاملة بأحدث أسعار التكييفات    دراسة: 10 دقائق يوميا من التمارين تُحسن الذاكرة وتزيد نسبة الذكاء    «أعسل من العسل».. ويزو برفقة محمد إمام من كواليس فيلم «اللعب مع العيال»    ضميري يحتم عليّ الاعتناء بهما.. أول تعليق من عباس أبو الحسن بعد حادث دهسه سيدتين    نشرة التوك شو| تفاصيل جديدة عن حادث معدية أبو غالب.. وموعد انكسار الموجة الحارة    جوميز: لاعبو الزمالك الأفضل في العالم    النائب عاطف المغاوري يدافع عن تعديلات قانون فصل الموظف المتعاطي: معالجة لا تدمير    بينهم طفل.. مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بأسوان    "رايح يشتري ديكورات من تركيا".. مصدر يكشف تفاصيل ضبط مصمم أزياء شهير شهير حاول تهريب 55 ألف دولار    أهالي سنتريس يحتشدون لتشييع جثامين 5 من ضحايا معدية أبو غالب    الأرصاد: الموجة الحارة ستبدأ في الانكسار تدريجياً يوم الجمعة    نائب روماني يعض زميله في أنفه تحت قبة البرلمان، وهذه العقوبة الموقعة عليه (فيديو)    إيرلندا تعلن اعترافها بدولة فلسطين اليوم    دبلوماسي سابق: ما يحدث في غزة مرتبط بالأمن القومي المصري    عاجل.. مسؤول يكشف: الكاف يتحمل المسؤولية الكاملة عن تنظيم الكونفدرالية    حظك اليوم برج العقرب الأربعاء 22-5-2024 مهنيا وعاطفيا    «الثقافة» تعلن القوائم القصيرة للمرشحين لجوائز الدولة لعام 2024    جوميز: عبدالله السعيد مثل بيرلو.. وشيكابالا يحتاج وقتا طويلا لاسترجاع قوته    روسيا: إسقاط طائرة مسيرة أوكرانية فوق بيلجورود    الإفتاء توضح أوقات الكراهة في الصلاة.. وحكم الاستخارة فيها    وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق.. مقترح يثير الجدل في برنامج «كلمة أخيرة» (فيديو)    ب1450 جنيهًا بعد الزيادة.. أسعار استخراج جواز السفر الجديدة من البيت (عادي ومستعجل)    طريقة عمل فطائر الطاسة بحشوة البطاطس.. «وصفة اقتصادية سهلة»    بالصور.. البحث عن المفقودين في حادث معدية أبو غالب    أبرزهم «الفيشاوي ومحمد محمود».. أبطال «بنقدر ظروفك» يتوافدون على العرض الخاص للفيلم.. فيديو    موعد مباراة أتالانتا وليفركوزن والقنوات الناقلة في نهائي الدوري الأوروبي.. معلق وتشكيل اليوم    وزيرة التخطيط تستعرض مستهدفات قطاع النقل والمواصلات بمجلس الشيوخ    شارك صحافة من وإلى المواطن    إزاى تفرق بين البيض البلدى والمزارع.. وأفضل الأنواع فى الأسواق.. فيديو    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    قبل قدوم عيد الأضحى.. أبرز 11 فتوى عن الأضحية    المتحدث باسم مكافحة وعلاج الإدمان: نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة انخفضت إلى 1 %    خبير تغذية: الشاي به مادة تُوسع الشعب الهوائية ورغوته مضادة للأورام (فيديو)    استعدادات مكثفة بجامعة سوهاج لبدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سحر محمد نوح: «اتصدم» فى عبدالناصر.. وغنَّى للسادات
أبى.. الذى لا يعرفه أحد
نشر في الوفد يوم 21 - 06 - 2017


ضحى بحبه الوحيد.. حتى لا أعيش مع زوج أمى
تولى تربية وتعليم اخواته الصغار بعد رحيل أبيه
مات كما أراد فى هدوء بعدما سئم الحياة
- ما أعشق حبيب إلاك
- يللى مليش غيرك
- أنا طيرى منذ راك
- لايف على طيرك
الطفلة «سحر» التى لم يتجاوز عمرها 6 سنوات، صعدت بسرعة خاطفة إلى المقعد الخلفى بسيارة أبيها، وبدأت تعبث بأوراق بجوارها فى انتظار تحرك السيارة، بعد دقائق صعدت امرأة جميلة، تراها للمرة الأولى، وجلست بجوار أبيها، الذى بدأ يستعد للتحرك، فهمت الطفلة أن السيارة فى طريقها لكورنيش المعادى للوصول إلى ضاحية حلوان جنوب القاهرة، الأب على وجهه ابتسامة.. والفتاة التى بجواره تبادله نفس الابتسامة، فلقد مر زمن ليس بالقليل، وهما - كحبيبين - لم تسمح ظروفهما، بمثل هذا اللقاء، هو تزوج ورزقه الله بطفلة تجلس الآن معه، ثم لم يستمر زواجه، فقرر بهدوء الانفصال عن زوجته، أما هى فظلت تنتظره ولم تتزوج، ودارت الأيام، والتقى الحبيبان، وعاد عصفور الحب يغرد على حدائق قلبيهما، السيارة الآن تعدت مصر القديمة، ومرت على مستشفى المعادى العسكرى، حيث كانت حركة الإنشاءات فيه بدأت، كان ذلك فى منتصف الستينيات، كورنيش المعادى هادئ، الطريق لمدينة حلوان طويل.. الحبيبة تنظر لحبيبها، وهو يخطف النظر إليها، حتى لا تختل عجلة القيادة، السيارة ماركة - رمسيس - موديل الستينيات، والطفلة سارحة من وراء زجاج السيارة، تنظر للشجر ولمياه النيل وتقوم بتعديل خصلات شعرها الذى يهاجمه بعنف «هوا» العصارى على كورنيش النيل، اقتربت السيارة حتى وصلت إلى مشارف حلوان حيث تسكن الحبيبة، تلاحظ الفتاة - رغم صغر سنها - أن هناك حديثاً يدور بين أبيها وحبيبته التى قرر الارتباط بها، بعد انفصاله عن والدتها.
الحبيبة تتحدث إليه، وتتكلم عن ترتيبات الزواج، فهو الآن فى طريقه للجلوس مع أهلها، الحبيب يستمع ونظرة فى المرآة يتطلع لابنته، والحبيبة بجواره تتحدث، وصلنا إلى ميدان عام فى حلوان بالقرب من بيتها، فجأة توقفت السيارة، الابنة بدأت تشعر بتوتر فى الأجواء، عمرها الصغير لا يساعدها على أن تفهم ما الذى حدث، ولماذا احمرَّ وجه أبيها؟ ولماذا بدأت حبيبته تضغط أكثر وأكثر فى أن تشرح له وجهة نظرها.
وبجوار كشك يبيع السجائر توقفت بهم السيارة.. ثم التفت الحبيب الى ابنته التى تجلس على المقعد الخلفى، ثم قال لحبيبته التى تجلس بجواره بحدة: تقولين إن «سحر» ابنتى مكانها عند أمها؟ قالت: نعم.. ثم واصلت كلامها: حتى ننعم بحبنا، رد: ولكن والدتها ستتزوج! ردت: عادى..! تعيش مع زوج أمها!
تمتم الحبيب بكلمات لم تفهمها الطفلة ثم غادر مقعده، ولف من أمام السيارة حتى وصل إلى الباب الأمامى التى تجلس بجواره حبيبته التى لم يحب غيرها فى حياته، ثم سحب باب السيارة.. وقال لها: أظن أن بيت أبيك على مقربة من هنا؟ قالت نعم: قال لها: إذن تفضلى اذهبى إلى بيت أهلك، فلست أنا «الأب» الذى يلقى بابنته من أجل حبيبته، ولست أنتِ التى تستحقين أن تكونِ حبيبتى، كانت الحبيبة تسمع تلك الكلمات - أو الفرامانات - ودموعها تملأ عينيها بعد فقد حبيبها، حاولت أن تجعله يعيد تفكيره، لكنه بدوافع الإنسانية وإحساس الأبوة، كان قد قرر أن يدفن حبه إلى الأبد، ولا تضيع منه ابنته إلى الأبد.
- اتفضلى يا هانم، قالها بكلمات حاسمة ثم أغلق الباب الأمامى وعاد للمقعد الخلفى، وأخذ ابنته التى تشاهد المشهد، ولا تفهم ما الذى يحدث، وضمها الى صدره، وبكى بكاء شديداً ثم نقلها لتجلس بجواره، وعاد من حيث أتى فى قلبه ألم ولكن فى حضنه ابنته، إنها «التضحية» فى صورة من أنبل صورها، قدمها لنا - دون قصد - الفنان الراحل محمد نوح، دون أن يدرى - أو ربما يدرى - أن الحب الحقيقى تضحية، وانكار للذات، وجمال واكتمال عندما يتسق مع النفس.
ومر الزمن والفتاة الصغيرة كبرت، وتزوج الأب بامرأة أخرى، ولفت الأيام دورتها.. وكلما تذكرت «سحر» هذا المشهد، تضحك معه وتقول: إذن انا التى من أجلها ضاع حبك؟ فيضحك هو ويقول لها: با ابنتى العزيزة.. الأب الذى يضحى بابنته من أجل حب.. هو لا يستحق أن يكون أباً ولا يستحق أن يحب ولا يستحق أن يكون إنساناً من الأساس، تلمع عيون سحر بالبكاء، ثم تلقى بنفسها فى أحضانه وهى تقول: «حبيبى يا بابا»!
فى سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد» تواصلت مع د. سحر نوح ابنة الفنان الشامل الراحل «محمد نوح» طلبت منها أن نلتقى فى بيته فى شارع يطلق عليه شارع الواجب فى مدينة نصر، قالت: العمارة هدمت ولذلك لا أذهب إليه حيث هدم معها أجمل ذكريات عمرى ثم قالت: ثلاثة أماكن كانت بالنسبة لى أجمل الأماكن. شقة مدينة نصر، ومكتبه فى شارع قريب من البيت ومسرح الكلية الحربية الذى أممه نظام مبارك عام 1992 وتسبب هذا التأميم الذى قاده صفوت الشريف وقتها فى «كسر» أبى نفسياً وفنياً واقتصادياً وظل هذا التدمير الذى رآه بعينيه لحلم عمره، عبارة عن جرح ينزف بداخله حتى مات، لذلك أنا حتى المرور من أمام المسرح، لا أستطيع فعله.. ثم قالت: أنا أعيش فى القاهرة الجديدة شرق القاهرة، أهلاً وسهلاً.. اتفضل.
وصلتُ فى الموعد المتفق عليه بيننا، كان بعد الإفطار فى الأيام الأخيرة من شهر رمضان، على باب السكن استقبلنى بابتسامة الكابتن والمعلق الرياضى ذائع الصيت مدحت شلبى زوجها.
بعد واجب الضيافة استأذن لارتباط خاص به، الدردشة التى دارت بيننا تؤكد أنه كان مرتبطاً ب«حماه» الراحل نوح جداً، وظهر على وجهه التأثر عندما بدأت زوجته تتحدث عن أبيها، وكأنه مثلها يشعر بأنه فقد شيئاً عظيماً كان فى حياته، بجوارنا يوجد «بيانو» وفوقه شهادات تقدير وأوسمة تكريم، وصور تلخص مشوار حياة الراحل.
قلت لها: أريد أن أعود للوراء قليلاً.. أعود إلى مشهد أظن أنه ما زال فى خيالك، الذى رفض فيه أبوك تكملة مشوار حبه من أجلك، هل يومها كنت تدركين الحوار الدائر بينهما؟ ردت: يومها كان عمرى تقريباً 6 سنوات، وعقلى لا يستوعب الحوار الدائر بينهما، لكن تعبيرات الوجه وحركة اليدين، كانت لها دلالة، وعندما كبرت جلست مع أبى وعدت معه بالذاكرة، وحكى لى التفاصيل، قلت وأنا مندهش، ويترك حب عمره هكذا سريعاً؟ قالت: أنا قلت له هذا الكلام.. فكان رده عظيماً وعبقرياً ويكشف عن أصالة معدن أبى، قال لى: «الضنى غالى.. يا سحر»!
ولد محمد نوح فى يناير 1937 فى مدينة طنطا تخرج فى كلية التجارة جامعة الإسكندرية، درس فى معهد الموسيقى العربية، درس فى جامعة «ستانفورد» قسم التأليف الموسيقى بأمريكا، مات أبوه وعمره 18 سنة وترك له إخوته ما زالوا صغاراً، بدأ حياته الفنية بالمسرح الغنائى، واشتهر وذاع صيته فى مسرحية سيد درويش عام 1966، لحن وغنى أغنية شهيرة من كلمات الشاعر إبراهيم رضوان وهى «مدد.. مدد» والتى لحنها وبدأ يغنيها بعد نكسة 67 لكنها اشتهرت بعد انتصار أكتوبر، أحب الرئيس السادات واعتبره عبقرى السياسة المصرية، تزوج مرتين، وله من الأولاد ثلاثة «سحر، ومريم، وهاشم» اشتهر بقدرته الفائقة على عزف عدة آلات موسيقية، واجه السجن فى عهد عبدالناصر وعهد السادات.
- مدد.. مدد.. مدد
- شدى حيلك يا بلد
- إن كان فى أرضك مات شهيد
- فيه ألف غيره بيتولد
عدت للابنة وقلت لها: مات أبوه وهو فى مقتبل العمر.. فكيف واجه ذلك؟ قالت: يوم أن مات أبوه، ومثله مثل أى طفل أو شاب يموت أبوه مبكراً، فالمؤكد أنه يحزن ويبكى وينهار، وهو عندما مات أبوه سيطر الحزن عليه، وأوشك على البكاء، لولا أن أمه - جدتى - انفعلت عليه، وقالت له: «لا تبكِ.. أنت راجل»، هذه الكلمات أعطته القوة فى أن يواجه الحياة، وبدأ يعمل ويذاكر دروسه، حتى يستطيع مواجهة الحياة، خاصة وإخوته كانوا صغاراً، والحقيقة معدن أبى الحقيقى يظهر من خلال سنوات عمره الأولى.. حيث تولى تربية إخوته وزوج البنات منهم وعلم وساند وزوج الرجال أيضاً، وكانت كل أمواله توزع على أهله بالتساوى، لإحساسه أنه هو المسئول عنهم، وأذكر أن شقيقته الصغرى أصيبت بالسرطان، فأخذها وسافر لعلاجها فى فرنسا، وكان يعرف من الأطباء أن عمرها - طبياً - قد لا يطول إلا شهوراً، إلا أنه رفض إخبار أحد منا.. وظل يعالجها حتى آخر لحظة، ولم يعلم حتى زوجها بحقيقة مرضها، ويوم وفاتها كان يبكى ويقول: اعذرينى يا حبيبتى.. فأنا لم استطع انقاذ حياتك أو أساعدك على تجاوز المرض، وهو على مدار حياته كانت متعته إسعاد الآخرين، وكان بيتنا هو بيت للعيلة كلها..
وكان يقيم كل أسبوع يوماً ثقافياً للأسرة، نجلس فيه بعد وجبة العشاء نتناقش فى الفن والسياسة.. ويسأل كل واحد منا.. كم كتاباً قرأت، وكم صحيفة اشتريت، قلت لها: هذا معناه أن الثقافة كانت معياره الأول فى تقييم البشر؟ ردت: طبعاً.. كان يقول البيت الفقير هو الذى لا توجد فيه مكتبة.. ومن أكثر الأشياء التى أحزنته فى رحلة مرضه هو ضعف بصره، ما أدى إلى حرمانه من القراءة، أما موضوع الأموال أو جمعها، فكان بالنسبة له آخر شىء يفكر فيه، أبى عاش من أجل الفن والإبداع، من المستحيل أن يبحث عن جمع المال، ويكفى أن نظام مبارك سنة 1992 قام بتأميم مسرح الكلية الحربية الذى كان أبى قد قام بتأجيره وقام بتوضيبه وتجهيزه ليكون منارة ثقافية.
لكن هذا الجهد والعمل، يبدو أنه لم يكن على هوى السلطة، فقام صفوت الشريف - كان وقتها وزير الإعلام - بإرسال قوات قامت بهدم المسرح وإلقاء المعدات والتجهيزات فى الشارع، يومها حزن أبى بشدة على حلم عمره الذى ضاع، قلت لها: ولماذا فعل ذلك صفوت الشريف؟ ردت: يبدو أن أبى وقتها كان مزعجاً للسلطة، فأرادوا أن يردوا عليه ب«قرصة ودن» كما يقال، قلت لها: ولكن مبارك كان نائباً للسادات، وأبوك كان صديقاً للسادات؟ ردت قبل أن أكمل كلامى قائلة: علاقة أبى بالسادات كانت علاقة مختلفة جداً، فكان يحبه جداً، ويعتبره قيمة سياسية عظيمة، أليس هو الذى أعاد الأرض للوطن، قلت لها: لكن المثقفون والأدباء والفنانون كانوا ضد السادات خاصة فى اتفاقية كامب ديفيد، فكيف تعامل هو مع هذا الاختلاف أو الموقف؟ ردت وفى صوتها حدة: علينا أن نعرف أن هذا الموقف لم يكن لكل المثقفين والمبدعين، نعم كان هناك من رفض وما زال يرفض اتفاقية السلام، ومبادرة السادات، وفى نفس الوقت كان هناك من وافق عليها واعتبر أن الشعارات شىء.. والواقع شىء آخر، ولا ننسى أن أبى - مثل أبناء جيله - صدم بنكسة 67، هذا الجيل عاش يحلم بالوطن العربى الكبير، وعندما انتهى الحلم، اكتشفوا أننا فقدنا الأرض، وأبى فلاح.. الأرض عنده مثل العرض، لذلك أصابه الحزن والاكتئاب، رغم إيمانه بمشروع عبدالناصر، لكن صدمة النكسة أصابت كل أبناء جيله، ثم بعد عبدالناصر جاء السادات وجاء معه نصر أكتوبر.. وهذا كان حلم أبى.. كان يقول إنه يخاف الموت والأرض محتلة فى سيناء.. ومن هنا جاء حبه للسادات، قلت: لكن السادات بمبادرة السلام التى اعترض عليها البعض قد يكون قد أضر بالقضية؟ ردت والحدة ما زالت فى صوتها: هذا كلام شعارات، وعليك أن تنظر للنتيجة، والنتيجة التى رأيناها بعد ذلك أن الأمة العربية خسرت الكثير برحيل السادات، ولأنهم لم يستمعوا له وقتها، قلت: وهل لقناعة أبيك بالسادات اصطحب فرقته واستقبله فى شوارع المطار بالأغانى وهو عائد من القدس، قالت: نعم.. ويومها غنى أبى لمصر وليس للسادات، غنى للأرض التى عادت بالحرب والسلام، يومها غنى «مدد.. مدد.. ما تشدى حيلك يا بلد»، وغيرها من الأغانى الوطنية، وبمناسبة «مدد» فهذه الأغنية غناها أبى على المقاهى بعد النكسة، واعتقل بسببها، لأن نظام عبدالناصر وقتها كان لا يريد أى صوت يصحى ما بداخل الناس من أوجاع وأحزان، وتاريخياً ظهرت موجة من الأغانى والأعمال الفنية التى تدعو إلى «فرفشة» الشعب وعدم «العكننة» عليه بمصطلح السلطة يومها، فى المقابل كان أبى يعمل ضد هذا.. وكان يغنى «كل يوم يموت شهيد.. لا بد غيره يتولد» وهذا أزعج السلطة وتم القبض عليه والتحقيق معه لأيام، بعدما تم «خطفه» من على مقهى فى السيدة زينب، ليظل وراء الشمس لمدة أيام وأسابيع، لا يعرف أحد عنه شيئاً، وبعد فترة تم الإفراج عنه، قلت: ولكن كيف السادات يسجنه وهو يحبه؟ قالت: بداية معرفته بالسادات كان التحقيق معه، لأنه يهاجم الانفتاح الاقتصادى، وحرامية قوت الشعب على المسرح.. وهذا وصل للسادات، وأبى عندما عرف أن السادات عرف، وجه له الدعوة لحضور العرض، وبالفعل حضر السادات للمسرح ووقف يضحك ويصفق له ويقول له: «يا نوح.. أنت وطنى.. وتهاجمنى من أجل مصر، وهذا لا يحزننى منك».. كان قبلها قد تم اقتياده إلى أماكن التحقيق والاعتقال بسبب هجومه على السلطة.
قلت لها: كيف كان يقضى يومه؟ قالت: أبى كان يعشق الموسيقى والقراءة، وكان يرى أن أى أمة لا تهتم بالموسيقى، ولا تهتم بالقراءة هى أمة فى طريقها للانهيار، وأبى عرض عليه بعد انتهاء دراسته فى أمريكا أن يظل هناك، يُدرِس الموسيقى فى جامعاتها، لكنه رفض وقال مكانى فى بلدى، وأنا لا أنسى يوم أن زارنا فى بيتنا الراحل نجيب المستكاوى والراحل الجوهرى وطلبا منه أن يذهب إلى مدرجات ستاد القاهرة لمؤازرة المنتخب فى مشواره الرياضى.. وبالفعل ذهب - رغم أنه ليس رياضياً من الأصل - لكن لاعتقاده ويقينه أن هذا البلد يجب أن نسانده ونقف بجواره فى شتى المجالات.
قلت لها: هل كان له رأى فى مشوار حياتكم من ناحية الدراسة؟ قالت: ترك لنا حرية الاختيار.. كان يقول أنا أقف بجوار من يسعى للتعليم والعلم.. وحتى فى زواجنا، كان يبحث عمن لديه العلم والتعليم والثقافة والاحترام وليس من لديه مال، عند هذه النقطة كنت قد اقتربت من إنهاء الحوار فجمعت أوراقى وبدأت استعد للانصراف، لكن قبل أن أغادر لمحت صورة للفنان محمد نوح ب«الجلابية» البلدى، ولاحظت ابنته سحر نوح ما لحظته، فقالت وهى تبتسم: كان يحب الزى المصرى الأصيل.. وكان يعتبر الجلباب البلدى وطبق الفول وطبق السلطة نعمة من نعم المولى عز وجل علينا، خرجت من بيتها وأنا أترجل فى شوارع القاهرة الجديدة وفى ذهنى كلماته التى غناها قبل سنوات أيام سياسة الانفتاح الاقتصادى فى عهد الرئيس المؤمن أنور السادات والتى كان يقول فيها:
يا بلدنا يا عجيبة فيك حاجة
محيراني
يزرعوا القمح فى سنين.. تطلع
الكوسة فى ثوانى
وفى 17 رمضان 5 أغسطس 2012.. مات محمد نوح كما أراد وتمنى.. مات بهدوء بعد رحلة عطاء آمن فيها بمصر وأرضها وناسها.. مات قبل أن يرى المجتمع فى حالة انقسام حول جزيرتى تيران وصنافير.. مات قبل أن يرى المصرى سواء كان نائباً أو سياسياً أو مثقفاً يقف ويعلن أن تيران وصنافير سعوديتان، مات نوح ولكن يظل إبداعه وإحساسه، وإيمانه بهذا الوطن عبارة عن درس فى الوطنية تتعلمه الأجيال وهو يغنى: مدد.. مدد.. مدد.. ما تشدى حيلك يا بلد، كل يوم يموت شهيد.. لابد غيره يتولد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.