رحل محمد نوح في هدوء.. يناقض صخب حياته الاولي وحيويتها.. وثورية اغانيه الحماسية.. رحل في ذكري رحيل والدته التي ارتبط بها ارتباطا وثيقا.. وكان يرقد علي نفس سريرها.. في ليلة رحيله خاصمه النوم وبقي ساهرا مع افراد اسرته.. يتحدث معهم عن احوال مصر وعن ذكرياته مع الرئيس السادات.. وقبل اذان الفجر بقليل غافلهم وفاضت روحه الي بارئها. وفي ليلة عزائه توقفت حركة المرور في شوارع مصر الجديدة وامتلأت ساحة المسجد الكبير عن آخرها بنجوم السياسة والفن والمجتمع وجمهور محبيه وعشاق فنه الذين جاءوا يعزون انفسهم في رحيله ويواسون اسرته بينما وقف لتقبل العزاء شقيقه الفنان التشكيلي الكبير حسين نوح وابنه الطيار هاشم نوح وزوج ابنته سحر نوح الاعلامي مدحت شلبي وبعض افراد اسرته. عايز أموت في سلام منذ فترة اختصر محمد نوح امنياته في امنيتين ان يطمئن علي مصر وان »يموت في سلام« قالها مرارا لاسرته ولاصدقائه المقربين وقد تحققت امنيته الثانية وقابل وجه ربه في هدوء وسلام وفي شهر رمضان الكريم لكن قلبه ظل معلقا بكل ما يجري في مصر، هلل مثلنا جميعا لثورة 52 يناير وطلب من شقيقه الفنان حسين نوح ان يأخذه علي كرسي الي ميدان التحرير.. كان قلبه متعبا- يعمل بكفاءة 51٪ فقط- ونصحه الاطباء بالابتعاد عن التدخين وعدم الانفعال لكنه لم يخضع لهذه النصائح.. لم تغفل عينه اثناء الثورة.. كان يقول: مصر ستدفع ثمن فواتير عليها ورغم انه تعرض لظلم كبير في عهد مبارك الا انه قال عنه.. اتمني ان يحاكم بشكل عادل ولكن يجب الا تسيطر علينا روح الانتقام. بداية النهاية في تسعينيات القرن الماضي تجسذت كل احلام محمد نوح احلامه في المسرح وكتب لشقيقه الاقرب اليه حسين نوح ورقه بخط يده قال فيها: لو بتحب اخوك.. هات لي مسرح.. كان المسرح هو تتويج لاحلام محمد نوح الفنية في ان يقدم اوبرا شعبية مصرية بعد ان درس التأليف والتوزيع الموسيقي بجامعة استانفورد الامريكية وبالفعل تحقق حلمه بمسرح النهار وانفق ثروته كلها لاعداد المسرح بتكلفة تجاوزت وقتها ثمانية ملايين جنيه. وقدم مسرحية »سحلب« التي حققت نجاحا كبيرا لكن مؤامرة تعرض لها نوح والمسرح معا وكما يقول الفنان حسين نوح: رجال مبارك تآمروا عليه بعد ان كشف فسادهم في المسرحية وذكر بعض شخصياتهم الحقيقية فأخذوا منه المسرح وكان ذلك قمة الظلم الذي تعرض له نوح وبداية النهاية حيث اصيب بأول أزمة قلبية اضاعت مركز الابصار في المخ فحرم من متعة اخري وهي القراءة كان نوح قارئا نهما يقرأ في كل المجالات لديه مكتبه تضم اكثر من ألفي كتاب بلغة مختلفة وبعضها بالهيروغليفية التي تعلمها واثار دهشة د. زاهي حواس بقدرته علي فهمها.. ولم يكتف رجال النظام بالاستيلاء علي المسرح بل تعمدوا ايضا عدم عرض اعماله الفنية في التليفزيون فلديه اكثر من مائتي عمل فني ما بين اغنيات ومسرحيات وافلام وموسيقي تصويرية للافلام لا يعرف منها الجمهور الحالي سوي »مدد شدي حيلك يا بلد« وكان محمد نوح يري انها اقل اعماله الفنية ومع ذلك فقد التف حولها الجمهور وظل يرددها معه علي الجبهة في حرب 37، لم يترك نوح وحدة عسكرية الا وذهب الي جنودها يغني لهم ومعهم ويدفع بحماسهم.. حتي ان الرئيس الراحل انور السادات طلب منه ان يذهب لاهل سيناء بعد حرب 37 ليغني لهم قائلا له: اريد ان يتردد اسم مصر علي كل سيناوي بعد ان عزلتهم اسرائيل طويلا عنا، وفي ثورة يناير كنا في حاجة الي مدد محمد نوح فرددها الجمهور في ميدان التحرير. خايف علي مصر من يريد ان يعرف مدي وطنية محمد نوح فلينظر بعمق الي عينيه وهو يغني لمصر تترقرق دموعه ولا يستطيع ان يغالبها واذكر انه تعرض بعد ثورة يناير لأزمة صحية حادة وضع علي اثرها في غرفة العناية المركزة لكن نوح الجريء المتمرد دوما غادر سريره وطلب رفع الاجهزة عنه وخرج الي طرقات المستشفي ليجلس امام شاشات التليفزيون ليتابع ما يجري في ميدان التحرير. وكما يقول حسين نوح: لم اجد من هو عاشق لبلده مثل محمد نوح.. كان جريئا وكنت اخاف عليه من جرأته.. وحينما ضعف بصره كان يعتمد عليّ في ان اقرأ له الصحف واحدث الكتب واقام في بيته منتدي لاصدقائه كان يحضره د. طارق حجي ود. عصام شرف ود. وسيم السيسي والمؤلف كرم النجار ود. خالد منتصر والكاتب الصحفي مجدي الجلاد. علي تويتر كتب عنه د. محمد البرادعي »شدي حيلك يا بلد« رحم الله محمد نوح وادخله فسيح جناته، بينما كتبت ابنته المطربة سحر نوح »فقدت اغلي انسان في حياتي.. رحل من علمني حب الوطن والناس« رحل ابي الذي تعرض لظلم شديد، وكان محمد نوح يقول »لازم الدنيا هتجيب لي حقي حتي ولو بعد موتي، سيد درويش اكتشفوه بعد سنوات من رحيله، المثير انه رغم عطائه الفني الفريد من اغنيات واعمال موسيقية ومسرحية لم يحصل سوي علي جائزة الدولة التشجيعية وظل بعيدا عن كل التكريمات والجوائز التي كان يستحقها بجدارة. لكن حب الجمهور والتفافه حوله يظل دائما اكبر من اي جائزة وعطائه الفني الممتد بعد رحيله فالناس صنفان »موتي في حياتهم واخرون بباطن الارض احياء« ولهذا سيظل محمد نوح خالدا بفنه.