مما عُرف عن العقاد اعتداده المفرط بذاته، مما كان يدفعه كثيرا إلى نقد الآخرين نقدا لاذعا، وكأنه من حيث لا يدرى، يريد أن يؤكد أن الكثيرين دونه بمراحل. ومن هنا يشعر الإنسان بقدر من الدهشة لأول وهلة، وهو يقرأ للعقاد إطراء لمفكر مصرى آخر، لكن الدهشة سرعان ما تذهب عندما نتذكر أن هذا الأديب الذى حظى بإعجاب العقاد وإطرائه هو أحد أضلاع مثلث تلك الصحبة المذهبية التى ربطت بين العقاد وإبراهيم عبد القادر المازنى، وعبد الرحمن شكرى. وقد برر العقاد حديثة بود وتقدير عن المازنى أن الكثرة الغالبة من الناس تجهل قدر هذا الأديب العظيم، الذى ارتبط اسمه برواية (إبراهيم الكاتب)، لا لضعف وقلة إنتاجه، ولكن لأنه ليس من ذلك النوع الذى يحفل كثيرا باهتمام الآخرين به وبأدبه، فقد كان الرجل يكاد أن يغرق فى بحر السخرية، وقلة الاكتراث. كان المازنى، فيما يروى العقاد، من أقدر الناس على نفسه، وأصبرهم على رياضة طبعه، وأشدهم جلدا على مواقف الشدة والصرامة، وتزداد قيمة هذا عندما نعلم أن المازنى لقى من شدائد الأيام ما تنوء به الجبال، ومع ذلك يظل الرجل «قليل الاكتراث»، دائم السخرية. كان المازنى يمتلك حاسة شم حادة، وخاصة فى مطلع شبابه، ومن هنا كان يتفادى المرور بالأماكن التى تصدر عنها روائح نفاذة، خاصة السيئ منها. ولما كان مدرسا، وعرف عنه طلابه هذا الجانب، أرادوا أن يمارسوا عليه سخرية خاصة مما عرف « بشقاوة التلاميذ»! فقد كان كل « قمطر» يجلس به تلميذان ، وربما ثلاثة، به مكان لمحبرة « دواية » بالعامية أو أكثر للحبر، حيث لم تكن الأقلام الجافة قد عرفت بعد، وكان المستخدم هو «أقلام حبر»، أو ما كان يعرف «بالريشة». فإذا بالتلاميذ يضعون فى بعض المحابر حمضا كريه الرائحة، على ظن بأن ذلك من شأنه أن « يبوظ » الحصة، حيث سوف ينشغل المدرس- المازنى – بالسؤال عن مصدر الرائحة، ويسعى لإزالته ..وهكذا، فإذا بهم يفاجأون بأن المازنى، يتحامل على نفسه، ويمضى فى الشرح، غير عابئ بالرائحة، تأكيدا على ما وصفه به العقاد من أنه كان أقدر الناس على نفسه! بل إن التلاميذ أرادوا أن يلفتوا نظره أكثر بأنهم بحاجة إلى فتح النوافذ، فإذا به يؤكد لهم أن إغلاقها هو الأهم، خاصة وأن الجو كان جو شتاء! ويلفت العقاد النظر إلى جانب مهم برع فيه المازنى إلى درجة أن يؤكد العقاد أنه لا يعرف فى آداب المشرق أو المغرب نظيرا للمازنى فى مهارة الترجمة، مصحوبة بسرعة الفهم والنقل إلى العربية بلغة عربية سليمة، تنطق بالنكهة الأدبية والأسلوب الرفيع. فالمازنى كان يرتجم النثر فى أسلوب تحسبه أسلوب الجاحظ، فإذا ما ترجم شعرا حسبته «البحترى»، دون أن تفلت منه فكرة، بل دون أن يغفل عن حرف، أو لمحة من معنى. ورأى العقاد أن صاحبه المازنى، إذا كانت هذه براعته فى ترجمة الشعر، فهو كان، فى الوقت نفسه، مبدعا لشعر رائع، لكنه للأسف لم يحفل بمواصلة إمتاعنا بشعره، فهجره، وأنكر على نفسه الشاعرية، مع أنه شاعر من طراز ممتاز، فى رأى العقاد. ولقد كان المازنى الذى يسخر من كل شىء، ويخرج لسانه لعابرى الطريق، هو نفسه المازنى الذى عنون كتبه بتلك العناوين الفريدة، مثل: (قبض الريح)، و(حصاد الهشيم)، و(صندوق الدنيا)، و(عالماشى). ويبلغ التحدى، ونزعة السخرية حدا دفع المازنى إلى تبنى قول شاعر أوصى أن يكتب على قبره هذا البيتان من الشعر: أيها الزائر قبرى اتل ما خط أمامك ها هنا فعالم عظامى ليتها كانت عظامك فهو بذلك مثله مثل من يخرج لسانه من تحت الثرى لزائر القبر الذى يقرأ، وما يحدثه به صاحب القبر نفسه المدفون!! ومن مواضع العجب فى شخصية المازنى التى لفتت نظر العقاد، أن الرجل كان قصير القامة، به بعض «عرج» فى مشيته. وكان مدرس تاريخ فى مدرسة عرفت بشقاوة تلاميذها، حيث كانت تلك المدرسة «أهلية»، مقابل ما نسميه الآن «خاصة»، لكن كان هناك فارق ضخم تجلى فى أن المدارس الحكومية كانت ذات مستوى أرقى كثيرا، بينما المدارس الأهلية تقبل من «تبقوا» بعد قبول المتميزين فى المدارس «الأميرية»: الحكومية . وبفعل الطريقة الساحرة للمازنى فى تدريس التاريخ، نسى الطلاب هيئته «الغلبانة»، من حيث عدم التأنق، وقصر القامة، وبعض العرج فى المشى، حتى لقد أسموه «تيمور لنك»، والذى هو أحد عمالقة صناع التاريخ. ويروى العقاد، أنه مع المازنى، وعبدالرحمن شكرى، كانوا يتحملون الكثير من سخرية وهجوم أنصار التقليد والمحافظة والقديم، إلى درجة أن «شكرى» قد هزته هذه الهجمات، فسئم لقاء الناس، وانطوى على نفسه، لكن «أبو خليل» – المازنى- قابل كل هذا بروح الدعابة السخرية. ومن أطرف ما رواه العقاد من سخرية ودعابة المازنى، أنهما أرادا أن يزورا صديقا لهما فى منطقة القبة، حيث كانت قليلة المساكن، تحيطها المزارع، ولما وصلا إلى صديقهما وجداه يجلس مع بعض صحبه أمام المنزل، كعادة أهل هذا الزمان، فلحقا بالجلسة، فإذا بأحد الحاضرين «يعزم» بسجائره على الجالسين، متخطيا كلا من العقاد والمازنى، تقليلا من شأنهما بفعل الحملة التى كانت توجه إليهما مع شكرى. وانتظر العقاد ماذا يفعل المازنى، فإذا بالمازنى، بعد أن وضع صاحب السجائر علبته على منضدة، يقوم ليأخذ منها سيجارة، ويناول العقاد منها أخرى، ويخرج ثنتين ليضعهما على المنضدة قائلا لصاحب السجائر، إنهم للمرة القادمة، لأننا لا نريد أن نراك مرة أخرى، ثم يرفع رأسه كأنه تنبه من سهوة عارضة، ويواصل الحديث فى غير اكتراث: لا مؤاخذة ! حسبتك خادم الدار، ولولا ذلك، لطردك صديقنا الكريم!!