فجأة أصبح سيد الرواية العربية أديبنا الراحل نجيب محفوظ جزءاً من المعركة الانتخابية الحالية في مصر، وقد كان من المقرر سلفاً أن يكون هذا العام هو عام الاحتفال بمرور مائة عام على مولد الروائي العظيم، لكن ثورة يناير وتطوراتها عطلت الاحتفال الذي كان من المفترض أن تشارك فيه المنظمات الدولية وكبار أدباء العالم. كان الأسف كبيراً على ذلك بين المثقفين، وكان الأمل موجوداً في أن يتمكنوا قبل نهاية العام من إقامة احتفال لائق ولو في أضيق الحدود. ثم جاءت المعركة الانتخابية لأول برلمان بعد الثورة ليكون نجيب محفوظ طرفاً فيها بعد سنوات من رحيله، ففي المعركة التي غلبت عليها الشعارات الدينية وسادتها تيارات الإسلام السياسي بكل أطيافها المعتدلة والمتشددة. فوجئ المصريون بأحد أقطاب إحدى الجماعات السلفية الذي رشح نفسه في مركز قوة الجماعة بمدينة الإسكندرية يطلق سيلاً من التصريحات المتشددة والمستفزة كان من بينها اتهام نجيب محفوظ بنشر الفسق والفجور والدعوة للدعارة والتوجه للكفر والإلحاد فيما أبدعه طوال حياته، أنه بعد دخوله البرلمان (الذي كان يبدو مؤكداً) سوف يحيل كل ما كتبه نجيب محفوظ إلى مركز البحوث الإسلامية تمهيداً لاستصدار قرار بمصادرته ومنع أذاه عن المسلمين. كان هذا القيادي السلفي واسمه عبدالمنعم الشحات قد أطلق قبل ذلك العديد من التصريحات المتشددة منها أن قضية عضوية مجلس الشعب تحتاج لدراسة لأن غير المسلم غير مناسب للتشريع، ومنها أن تعيين الأقباط وزراء يحتاج لمراجعة، وأن دخول المرأة للبرلمان مفسدة، وأن الديمقراطية لا تجوز إلا بشروطه هو وإلا فهي كفر صريح، لكن حديثه عن نجيب محفوظ دق ناقوس الخطر لدى كل المثقفين. فقد أدركوا أن الخطر لم يعد بعيداً، وان الطريق ينفتح إلى محاكم تفتيش جديدة لم يعرفها الإسلام ولم يقرها صحيح الدين، وأن ما كانوا يعتبرونه مجرد «آراء» متطرفة يجد الآن طريقه للتطبيق، وأن الأمر هنا لا يخص نجيب محفوظ وحده بل يمتد إلى كل إبداع أو اجتهاد فكري أو أدبي. وأن ما عاشت فيه مصر على مدى عقود طويلة من تسامح وقبول للرأي الآخر وإطلاق طاقات الاجتهاد مهدد كما لم يحدث من قبل. وأن تراث محمد عبده وشلتوت والباقوري والغزالي وطه حسين وأحمد أمين وكل أئمة التنوير والنهضة في العصر الحديث يواجه هجمة تدعو لإغلاق كل نوافذ الحرية والعودة لظلام القرون الوسطى. كان الشحات قد حصل في الجولة الأولى للانتخابات، وفي مواجهة عدد كبير من المنافسين، على ما يقرب من 200 ألف صوت وبفارق كبير عن أقرب منافسيه وهو من حزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمين) ولكن في الإعادة تغير الموقف ورفض أبناء الإسكندرية هذا التشدد الذي أصاب نجيب محفوظ وهو عاشق الإسكندرية الذي خلدها في العديد من رواياته. وهكذا فقد الشحات ما يقرب من خمسين ألفاً من الأصوات التي حصل عليها في الجولة الأولى، وذهب المقعد لمرشح الإخوان المسلمين، وكانت هذه إحدى المفاجآت السارة في هذه الجولة من الانتخابات بالنسبة لمعظم المصريين ولكل التيارات السياسية والثقافية حتى المعارضين منهم للإخوان المسلمين. بل إن «حزب النور» أكبر الأحزاب السلفية والذي احتل المركز الثاني في نتائج الانتخابات حتى الآن لم ينزعج كثيراً لسقوط الشحات الذي كان أحد وجوهه الإعلامية البارزة بل أبدت بعض قياداته الأقل تشدداً اعتقادها ان اختفاءه قد يحسن صورة الحزب أمام الناخب في المراحل المقبلة من الانتخابات. ومع ذلك تبقى الحقيقة، وهي أن الأخ الشحات قد يكون تصادمياً وعنيفاً في عرض آرائه، ولكنها في النهاية هي جوهر فكر تيار أصبح موجوداً في موقع التشريع وفي الحياة السياسية والفكرية وربما في موقع الحكم. وأن صوت هذا التيار سيكون عالياً ومسموعاً عند وضع الدستور الجديد. وأن خطورته لا تقتصر على ما يحتله من مقاعد في البرلمان أو يسيطر عليه من منابر المساجد ومن الجمعيات الأهلية، وإنما تتعدى ذلك إلى أن صوته المتشدد يؤثر على الجماعات الإسلامية المعتدلة مثل الإخوان المسلمين التي يرى فريق فيها أنه لابد من مجاراة هذه التيارات حتى لا يزيد تأثيرها في الشارع. لقد كانت الأصوات العاقلة في الجماعات الإسلامية المعتدلة مثل الإخوان المسلمين دائماً في صف التعاون مع باقي التيارات الوطنية، بينما هذه التيارات السلفية المتشددة ترى في هذه التيارات من ليبرالية أو يسارية أو علمانية مجرد جماعات كافرة وملحدة. ومن يراقب الأحداث منذ ثورة يناير يرى تأثير هذا التشدد على توجهات الإخوان المسلمين التي ازدادت تشدداً وهو ما أدى إلى فشل التحالف مع الوفد وأحزاب ليبرالية أخرى كان من الممكن أن يكون مفيداً لكل الأطراف. المهم الآن أن هزيمة الشحات رغم أهميتها لا تنفي أن هناك معركة ستطول مع الاتجاهات المتشددة والمتطرفة. صحيح أن الناخب في جولة الإعادة لم يمنحهم الكثير بالمقارنة بالجولة الأولى، ولكن الصحيح إنهم موجودون في الساحة الدينية والسياسية، وأن لهم تأثيرهم، وأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية البائسة في الأحياء الفقيرة تساعدهم، وان صوتهم في البرلمان سيكون موجوداً ومؤثراً. وانه من دون عودة الروح للتيارات السياسية الحريصة على مدنية الدولة، ومن دون تنظيم قوى الثورة الشابة في كيانات سياسية قادرة على خوض المعارك السياسية وعدم السماح باختطاف الثورة، ومن دون وعي المثقفين بخطورة المرحلة وتوحدهم في مواجهة تيارات تعادي الحريات وتقمع التفكير وتصادر العقل، من دون ذلك كله سوف تطول المعركة وتكثر التضحيات. مرة أخرى يثبت الشعب أنه أكثر وعياً واستقامة من النخبة المهزومة أو الخائنة أو الخائفة من المواجهة. انتصر الناخب العادي لنجيب محفوظ ولحرية الإبداع ورفض التشدد والتطرف ومحاكم التفتيش، فمتى تستفيق النخبة ومتى ينتصر المثقفون لأنفسهم، وللحرية، وللإسلام الذي كان على الدوام رسالة للعدل والحرية واحترام العقل وكرامة الإنسان؟! نقلا عن موقع البيان الاماراتية