كتبت- ليلى حلاوة وآيات الحبال: شهد عام 2010 عددا كبيرا من قضايا القتل والعنف وترويع المواطنين وآخرها الانتحار.. وُصف أبطالها جميعهم بالمختلين عقليا، وصدرت التقارير الرسمية التي تؤكد إصابتهم بالاضطراب النفسي وتوصي بإيداعهم مستشفيات الأمراض العقلية، وبدلا من أن تسارع الدولة بإنشاء مستشفيات جديدة للصحة النفسية لاستيعاب المرضى الذين يتزايد عددهم يوما بعد يوم، حيث لاتفي المستشفيات الموجودة سوى باحتياجات 20% فقط من المرضى النفسيين، نجد محاولات هدم المستشفيات الرئيسية كالخانكة والعباسية، التي يتردد عليها سنويا ما يزيد على 80 ألف مريض، وتفتيتها لمستشفيات أصغر ونقلها إلى الصحراء كي تننشئ مكانها وعلى موقعها المتميز مدينة تجارية! فقد كشفت تقارير طبية صادرة عن مستشفى الأمراض النفسية بالخانكة أن المواطن عبده عبدالمنعم خضر، الذى حاول الانتحار حرقاً أمام مجلس الشعب، مريض نفسي، ويعالج منذ أكثر من 20 عاما، وقال عنه رئيس المركز الذي يتبع له بالقنطرة غرب ومحافظ الإسماعيلية نفس الكلام زاعمين أن الخبز متوفر في كل مكان بالقرية، الجميع وصموه بالجنون وكأنهم يريدون أن يتبرأوا من فعلته. مجانين بالجملة وبعد حادثة تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية قام مندوب شرطة بإطلاق النار بشكل عشوائي داخل قطار سمالوط، مما أدى إلى مصرع سيدة عجوز وإصابة 5 آخرين. ومباشرة وبعد وقوع الحادث أصدرت وزارة الداخلية بيانا يبين أن الفاعل يعاني مرضا نفسيا، وهناك شهادة من المجلس الطبي التخصصي لهيئة الشرطة توصي بإسناد عمل إداري للمتهم ومنعه من حمل السلاح منذ 2006. وفي كنيسة مار جرجس للأقباط الأرثوذكس أصيب المصلون بحالة من الخوف والفزع، إثر قيام أحد المختلين العقليين بمهاجمتهم بآلة حادة، كشفت التحقيقات أن المتهم محمد مسعود خليل «38 سنة» ، مختل عقلياً ويعاني من مرض فصام في الشخصية ويعالج منه منذ فترة علي نفقة الدولة. وفى نفس السياق شهدت محافظة 6 اكتوبر جريمة بشعة هزت الرأى العام عندما قام محمود طه سويلم سائق حافلة شركة "المقاولون العرب"، بإطلاق نيران سلاحه الآلي على زملائه بالحافلة، فقتل 6 من الموظفين وأصاب 6 آخرين وأثناء الجلسات استمعت المحكمة إلى شهادة أعضاء اللجنة الطبية الذين شخصوا الحالة النفسية والعصبية للمتهم والذين أكدوا أن أقواله خلال التحقيقات جاءت مترابطة ومنطقية، ولكنه يعاني في الوقت نفسه من مرض الفصام والشك في الآخرين من حوله وتم إيداعه مستشفى الأمراض النفسية تنفيذا لقرار رئيس محكمة جنايات الجيزة في17 يناير الجاري. كما ألقت أجهزة الأمن بالقاهرة القبض على مختل عقليا بمنطقة الدرب الاحمر، عثر معه على قميص واق من الرصاص، وكتب فى الكيمياء وعلم الذرة، وكتب خاصة بتصنيع المواد المتفجرة وجهاز لرسم القلب وذلك أثناء خروجه من منزله وكانت معلومات قد وردت إلى أجهزة الأمن بالقاهرة بأن المتهم مختل عقليا ومشهور عنه الشروع فى صناعة المواد المتفجرة.! لم تقتصر تلك الحوادث على مدينة القاهرة الكبرى فقط بل زادت فى المحافظات وخاصة الصعيد، فبخلاف حادث قطار سمالوط وتحديدا في محافظة أسوان أصيب سائح بلجيكي بعدة طعنات في الرقبة بآلة حادة خلال قيامه بجولة، وكشفت التحريات الأمنية أن الجاني ويدعى محمد توفيق سليمان مفصول من عمله ،مدرس بالأزهر، لأسباب نفسية، وأنه مختل عقليا وتسلل بين أفراد مجموعة سياحية بلجيكية مكونة من عشرة أفراد خلال زيارتهم لمنطقة غرب سهيل والمتحف النوبي، وطعن أحدهم في رقبته مستخدما آلة حادة ( كاتر) محاولا ذبحه . ونعود إلى الوراء بضع سنوات لنتذكر مذبحة بني مزار الشهيرة، والتي حدثت في المنيا في ديسمبر 2005 وراح ضحيتها عشرة أشخاص (من بينهم أربعة أطفال) من ثلاث عائلات، قام فيها الجاني محمد علي عبد اللطيف - 27 عاما بالتمثيل بجثثهم وتقطيع بعض أعضائهم. وقيل عنه أيضا إنه مريض بانفصام في الشخصية، وبعد أن اعترف بالجريمة، تمت تبرئته فيما بعد، إلا أن أسر الضحايا قاموا بالطعن على هذا الحكم أمام محكمة النقض، مؤكدين أن الحكم شابه قصور في التدليل، وأنه خالف ما جاء في أوراق الدعوى. الدولة تعاني الفصام والآن وبعد هذا السرد هل يعقل أن تكون كل هذه الحوادث وغيرها الكثير التي حدثت في مصر في الفترة الأخيرة سببها الخلل العقلي؟ وإذا سلمنا بصحة التقارير الخاصة باتهامهم بذلك وضرورة إيداعهم مستشفيات الأمراض العقلية.. فهل من المقبول أن تقوم الدولة بتفتيت مستشفيات الأمراض النفسية ، ونقلها إلى الصحراء بدلا من الاستجابة لمطالبات لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة بإنشاء 8 مستشفيات جديدة للصحة النفسية داخل المحافظات المختلفة لسد العجز فى أسرة المرضى النفسيين، والتي لا يوجد بها سوى 6 آلاف سرير لا تفى سوى باحتياجات 20% فقط من المرضى النفسيين يظل بقيتهم بدون علاج لتتفاقم حالتهم ويصبحوا كالقنابل الموقوته في المجتمع؟ في البداية يؤكد د. ناصر لوزة ،أمين عام الصحة النفسية بوزارة الصحة، أنه لا توجد أى نية لبيع أو غلق مستشفى العباسية، ويوضح أن الوزارة لديها 18 مستشفى للصحة النفسية منتشرة فى جميع محافظات مصر وهناك خطة لزيادتها وليس التقليل منها لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المرضى، مشيرا إلى أن المريض النفسي لا يظل طوال حياته فى المستشفى ولابد من إخراجه في مرحلة معينة والتعامل مع العالم الخارجى ليتفاعل مع الناس، ولكن نظرة المجتمع لا تعطيه هذه الفرصة. ويبدى اعتراضه على استخدام مصطلح مختل عقليا، ويصفه بأنه "غير علمى" قائلا: إن وسائل الاعلام هى التى تتسرع فى الحكم على المتهمين وتصفهم بذلك، وتقوم بنشر الأوراق التى تشير إلى كونهم مرضى نفسيين، فى انتهاك كبير لخصوصيتهم مما يعمق ثقافة المجتمع فى عدم تقبل المريض النفسي، مؤكدا أن الحكم على الشخص بأنه مريض نفسيا لا يصدر إلا بعد عرضه على عدد كبير من الأطباء وملاحظته فترة لا تقل عن 45 يوما. بينما يصف د. هاشم بحرى ،أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر، إطلاق مصطلح مختل عقليا على المتهمين بأنه هروب من المسؤلية وقصور فى معالجة أسباب المشكلات التى نعانى منها فى مجتمعنا، موضحا أن تكرار حوادث القتل والعنف والانتحار ماهي إلا نتيجة لحالة الاحتقان الذى نعيشه والإحساس بالغضب من كل الأوضاع السياسية والاقتصادية والتعليمية، متوقعا زيادة جرائم الانتحار والقتل والعنف بشكل خطير فى الفترة القادمة نتيجة عدم معالجة المسئولين للأسباب المؤدية إليها. الشفافية غائبة في تعليقها على إشكالية الفصام لدى الدولة التي دللت عليها الأحداث السابقة تقول أميرة بدران، الإخصائية النفسية، ردا على هذه الإشكالية: التناقض في تصرفات الحكومة تجاه تلك المساحة يرجع بالأساس لغموض المساحة بين المواطن والتصرفات الحكومية، لأن المسئولين لا يتعاملون بطريقة التوضيح أو الشفافية بين المواطن والحكومة، فلا ندري ما هي حقيقة الحسابات ولا القرارت التي يتم اتخاذها في أي أمور تنعكس على المجتمع. وعلى سبيل المثال لم نعلم حتى الآن ما هي الأسباب الحقيقية وراء القروض الاستهلاكية الصغيرة التي قررتها الحكومة للموظفين والتي تبدأ من أقل من خمسة آلاف جنيه على أن يتم اقتطاع جزء معين من راتب الموظف بعد أن يقدم دليل توظيفه ومفردات مرتبه، والمرور بالعديد من الاجراءات، في حين أن الموظف الذي يحتاج لهذا القرض الصغير يدخل عادة في جمعيات دون كل تلك الاجراءات ويستطيع أن يحصل على تلك المبالغ من خلالها. وهكذا قصة المستشفى، هي ليست تناقضا بقدر ما هي عدم شفافية ولا مصارحة ولا احترام للحوار أو حتى التنويه عن أمر سيؤثر على المجتمع، لأنها قد تكون مجرد حسابات خاصة، أو سلسلة جديدة من سلسلة وضع المواطن في ذيل قائمة الاهتمام والرعاية كما نعلم وكما نتكيف ولكنها تأخذ زيفا شكل التناقض. هروب من المسئولية من ناحية أخرى تعلق أميرة على موضوع انتشار الخلل العقلي داخل المجتمع المصري متحدثة عن أسبابه فتقول: بداية لابد من الاعتراف أن وضع مجتمعنا الحالي يسبب أمراضا واضطرابات نفسية، فنحن نعاني من أزمات مستمرة، ومشكلاتنا أصبحت من المشكلات المزمنة التي تحتاج لعلاج طويل الأمد وتضافر جهود الحكومة مع المجتمع المدني والإعلام والمؤسسات الدينية ليحدث تحسن، فهناك أزمة تعليم، زواج، بطالة، صناعة سينما، رياضة،..الخ. فالإحباط والاكتئاب والغضب وعدم الرضا والقهر والظلم، جميعها تحاصر الشاب والأب والإبن على اختلاف مراحلهم العمرية، و تجعلهم يستشعرون أنهم مواطنون درجة ثالثة خصوصا حين يتعامل البعض من فئة المجتمع مع مجتمعات أخرى أكثر آدمية تجعل كفة المرض النفسي ترجح. ولكن ليس معنى ذلك أن تكون هي الشماعة الجديدة التي يتم إلقاء كل الخلل أو التقصير في التوصل للقائم بالجريمة عليها، فأصعب أمراض النفس لن ترقى وتصمد أبداَ لتحقق الحرفية الشديدة التي تمت بها جريمة بني مزار مثلا، والتي قام فيها فرد واحد لديه خلل نفسي ما ،كما يقولون، باختيار عدد كبير من العائلات واختيار الوقت المناسب تماما للقيام بها بخفة وسرعة، والحرفية والدقة التي تم استئصال اعضائهم بها وكذلك ما تطلبته من تركيز لفترة لا يمكن أن تكون قصيرة. وتستطرد بدران قائلة: هناك أيضا القصور الآتي من الأطباء والإخصائيين النفسانيين أنفسهم على اختلاف تخصصاتهم داخل المجال في توعية المجتمع عن طبيعة المرض النفسي وأسبابه وأعراضه المشهورة، فقبل التقدم العلمي كان الناس يتصورون أن الأرواح الشريرة هي السبب في كل ما يحدث من خلل للفرد الطبيعي، مثلا كانت "ارتعاشة" في أيام الصيف تعني أن الشخص المصاب بها قد سكنته روح شريرة وبعد التقدم العلمي فهم الناس أن هناك مرضا اسمه "الملاريا" يمكن تفاديه بقرص صغير لمدة قصيرة يوميا لا يزيد ثمنه عن عدة جنيهات ليشفى المريض. فكلما زاد الوعي بفضل المتخصصين ومحاربتهم للجهل كلما زاد لدى الناس القدرة على استشعار وجود مرض يتطلب التدخل العلاجي وهذا ما يحتاج أن يقوم به المتخصصون النفسانيون به، كذلك التكيف العجيب الذي يتميز به مجتمعنا تجاه أي أمر غير منطقي، فكما نتكيف على التعايش في أماكن القمامة بل داخلها، ونتكيف على العيش في القبور، نتكيف على التعايش مع مريض نفسي خطير، يزداد سوءا يوما بعد يوم للدرجة التي يكون قد حاول فيها من قبل الجريمة قتل ولده، أو خنق ابنته، أو الانتحار بشكل جاد مرات سابقة. وتضيف بدران قائلة: أتصور كذلك أن التداخل الذي يحدث أحيانا عن غير عمد من القائمين بالدعوة إلى الله في مساحات المرض النفسي تساعد على عدم تفهم حقيقتها، مثل اشكالية وسوسة الشيطان للإنسان وبين وقوعه فريسة لمرض الوسواس القهري الذي تشير آخر احصائياته أنه يلتهم أكثر من 80%من نفسية مجموع الشباب العربي، كمثل واحد يساعد على ضياع وعي الناس بحقائق المرض النفسي وحقيقة أعراضه ومتى يتم التدخل المبكر أو المناسب للشفاء. كل تلك الأسباب حين تجتمع فإنها تساعد على إلقاء بعض تلك الجرائم على كاهل المرض النفسي غير معلوم الملامح ولا الأعراض، فهو مساحة غامضة تجعل الشخص يقوم بالأمور العجيبة التي نراها في الأيام الأخيرة .