لم تكن وقفة المعاقين أمام مجلس الوزراء الاثنين الماضي وتهديدهم بحرق أنفسهم وليدة اللحظة، بل كانت مدفوعة بسنوات من المعاناة والتجاهل الحكومي والتهميش الممنهج، وعندما يهدد العشرات من المعاقين بحرق أنفسهم في شارع قصر العيني فاعلم أنك في دولة لاتحترم مواطنيها ولاترحم ضعفهم وتمنع عنهم كل روافد الرزق. والمعاقون ليسوا سوي مصريين عاديين ليس لهم ذنب سوي أنهم ولدوا بعجز جسدي أوأصيبوا بعاهة في كبرهم وهذا ليس سببا كافيا لمحاولة اقصائهم ودفنهم أحياء في مقابر الفقر والعوز، تركنا تظاهرة المعاقين أمام مجلس الوزراء للمطالبة بالتعيين، لأنها في الغالب لن تجدي مع حكومة ضعيفة مكسورة الجناح تكتفي بدور المتفرج، واتجهنا الي شوارع مصر لنري أحوال معاقين آخرين لم يشاركوا في المظاهرة إما لعدم معرفتهم بها أو لاقتناعهم بعدم جدواها. في أحد شوارع الدقي، وتحديدا أمام سينما التحرير رأيته، شاباً لم يتجاوز العقد الثالث من عمره، يسير معتمداً علي عصا، ليستعيض بها عن بصره الذي فقده، فتتعثر قدماه تاره، ويدفعه سائر متعجل تارة اخري، استوقفته، فحكي أحمد عيد مبروك قصته مع الظلام: في طفولتي اصبت بحادث اثناء لعبي مع اصدقائي وسقطت بقوة علي رأسي، مما أدي لحدوث نزيف داخلي بعيني، وحملوني الي احد الاطباء، والذي عالجني بحقنة، أدت إلي مضاعفة حالتي وأصابتني بالعمي التام. وبدأت حياتي الجديدة مع الظلام، أتحسس الخطا، وقد انفض من حولي الصحاب، لان لعبهم لم يعد يلائمني، ولم تكتف الحياة بحرماني من بصري، بل دبت خلافات بين والدي، وانفصلا لتتزوج أمي من آخر، وعشت مع جدتي لأبي، التي حاولت ان تعوضني حنان الأم والأب، ولم يمهلني القدر كثيرا، فتوفيت جدتي، وأخذني أبي للعيش معه، ووجدت منه قسوة غريبة، فلم يعرني اهتماما، ولم يهتم بعلاجي من العمي، فتركته وذهبت للعيش مع أمي، حقا يعاملني زوج أمي معاملة حسنة، لكني اشعر بأني عالة عليه ليس في المأكل والمشرب، بل في بعض ما احتاجه من خدمات، فبدل الاعاقة الذي اتقاضاه من التضامن الاجتماعي لا يتجاوز 110 جنيهات، وهي لا تكفي شيئاً. ويشكو احمد من معاملة المجتمع له، ويقول: كلما طلبت من احد المارة مساعدتي، ينفر مني ويسير مبتعدا، وكأني لص لا مجرد شاب اعمي يحتاج الي عبور الطريق، وينسي هؤلاء ان اعاقتي بلاء يمكن ان يصيب اي انسان في اي لحظة، ويمكن ان يولد اي طفل كفيف، اشعر بأن الرحمة انتزعت من قلوب البشر، المجتمع يعاملنا وكأننا طبقة اخري ادني، ألا يكفي أن الدولة تهمل احتياجاتنا، انني اطالب الحكومة الجديدة في عهد الثورة بأن تراعي المعاقين، وأن توفر لنا شققاً في مناطق سكنية خاصه بنا، تتوافر بها المرافق والخدمات التي تعيننا في الاعتماد علي انفسنا دون الحاجه للاعتماد التام علي الاخرين. ومن الدقي الي كفر الشيخ، التقينا أم السعد عطية 22 سنة، شابة لا يخلو وجهها من الجمال، كان يمكن ان تكون عروساً أو زوجة تمارس حياتها بصورة طبيعية، لكنها منذ اكثر من عشرة اعوام وهي سجينة بغرفة صغيرة بمنزل اسرتها البسيطة، لا لسبب الا خجلها من مواجهة المجتمع واهل القرية، لانها ولدت بإعاقة في يديها وقدميها، وانحناء بالظهر، حين تخرج من المنزل، يطاردها الاطفال وهم يصيحون «أم اتب.. أم اتب» وبعضهم يقذفها بالحجارة، فتعود لغرفتها باكية يمزقها الحزن والغضب من مجتمع قاس لم يرحم إعاقتها، بل وتسببت حالتها في تركها للمدرسة بسبب معايرة الأطفال لها، وإطلاق المعلمين عليها لقب «البنت ام اتب» وتقول أم السعد: الحكومه تقدم لي معونة شهرية 70 جنيهاً فقط، وهي لا تكفي لنفقات علاجي من آلام الظهر والعظام التي اعاني منها، وعندما ذهبت الي محافظ كفر الشيخ لمساعدتي، رفض وقال إنه لا توجد موازنة لمساعدة امثالي، ولا اعلم لمن اذهب، انني اطالب الحكومة بزيادة المعونات المقررة لنا، وبتوفير مساكن لنا في التجمعات السكنية الجديدة، حتي لا نكون عالة علي اهالينا، فمثلي ليس لها اي طموح في الحياة بسبب اعاقتي سوي لقمة العيش والسكن. أما أحمد عبدالعزيز عوض سعد 23 سنة، فلم يعش بمفرده مأساة إعاقته، بل شاركته فيه والدته التي عانت الامرين معه، ولد أحمد بإعاقة بقدمه تعجزه عن السير، رغم ذلك بذل والديه كل ما بوسعهما ليعيش بصورة طبيعية بين أقرانه، والتحق بالمعهد الديني في سيدي سالم، وكانت والدته تحمله علي ظهرها وتسير به مسافة 2 كيلو متر ذهابا وإيابا الي المعهد. ويروي احمد في مرارة شعور الألم والعنصرية الذي عاني منه في المعهد ويقول: في اليوم الاول بالدراسة، طلب المعلم من المعاقين ان يجلسوا بجانب بعضهم البعض، وذلك لعزلنا بعيدا عن بقية الزملاء وكأننا مصابون بوباء معد، ولم يكن ينادني الي بلقب «يا أعرج»، وذات يوم امرني ام المعلمين ان اخلع جوربي، واعرض اعاقتي في قدمي امام زملائي كنوع من السخريه من اصابتي، وذلك دون اي ذنب اقترفه، واصبت بصدمة هائلة، وقررت ترك المعهد، وعدم استكمال دراستي به. ويضيف: المجتمع ينظر للمعاق بدنياً، وكأنه متخلف عقليا، رغم أن كثيراً من المعاقين يتمتعون بذكاء يصل الي حد العبقرية، طه حسين كان أعمي، ولكنه بلغ أعلي مراحل التعليم وبلغ لمنصب الوزير، كنت اتمني لو اني اكملت تعليمي، وصرت مهندساً أو طبيباً، أطالب المجتمع باحترام المعاقين، ويعطيهم الاهتمام الذي يستحقونه، فهذه الإعاقة ابتلاء من الله، كما أن الحكومة لا تنفذ أبدا التزامها بتشغيل نسبة ال 5% في الوظائف من المعاقين. ونغادر مآسي الشباب المعاق جسديا، إلي مآس اكثر إيلاما، الاطفال المعاقين ذهنيا، انهم زهور بريئة اقتطفت مبكرا وضاعت احلامهم منذ ان ولدوا، لا امل في شفائهم، وتمثل رعايتهم عبئا كبيرا تتحمله غالباً أسر هؤلاء الاطفال بمفردها دون عون من المجتمع. فيفي عبدالعزيز عوض، 30 سنة، أم ابتلاها الله بطفلين معاقين ذهنياً، تروي قصتها: انجبت طفلي الاول حمادة «عمره الان 12 عاماً»، وكان طبيعا كسائر الاطفال حتي بلغ عمره 6 سنوات، وفجأة بدأت أرصد له تحركات وتصرفات غير طبيعية، فحملته للطبيب، والذي اكد انه مصاب بكهرباء زائدة في المخ نتيجة ضمور بالخلايا، وأنه كان يحتاج لجراحة فوريه عقب ولادته بثلاثة أيام فقط. وتضيف: وبعد 6 اعوام من ولادة طفلي الاول رزقت بطفلي الثاني وائل، وتمنيت الا يصيبه ما اصاب شقيقه الاكبر، ولكني لاحظت وجود عيب بعينيه «حول» واعتقدت انه امر بسيط يمكن علاجه، وحملته للطبيب وعمره 6 اشهر للاطمئنان علي حالته، وكانت الصدمة الثانية، وائل كأخيه، مصاب بضمور في خلايا المخ، اسودت الدنيا في عيني، فطفلاي يحتاجان إلي جراحة باهظة التكاليف، يمكن ان تعيدهما الي حالتهما الطبيعية، ولكن من اين لي بالمال، فزوجي دخله بسيط، يكفينا بالكاد، واحلم بأن أري حمادة ووائل أصحاء كسائر الاطفال، يتعلمون وينجحون، ويكون لهم مستقبلاً، أنني اطالب الحكومة وكل أصحاب القلوب الرحيمة بمساعدتي لإنقاذ طفلاي من الدمار والموت الذي يهددهما في أي لحظة بسبب التشنجات العصبية التي تفاجئهما بين وقت وآخر، وقد شاهدت بأحد البرامج التليفزيونية حالات مماثلة تم شفاؤها بالجراحة، وأدعو الله ان ترأف بي القلوب الرحيمة وبحال طفلي. قرية المعاقين حالة حمادة ووائل لم تكن الوحيدة، حالات اخري قابلناها تتسع لها صفحات، وفي جمعية الترابط الاجتماعي لرعاية المعاقين كانت عشرات القصص تنتظرنا، ولكن هذه الحالات لحسن الحظ تجد العناية والرعاية الانسانيه علي ايدي تكاتفت من اجل الخير وقلوب تجمعت علي الرحمة بهؤلاء، والتقينا مديرة الجمعية التي يرأس مجلس ادارتها الدكتور عصمت علوي، أكدت المديرة - التي طلبت عدم ذكر اسمها - لانه ما تقوم به عمل خيري لوجه الله، ان فئة المعاقين تعاني التهميش في المجتمع المصري، رغم حقهم علي المجتمع للعيش بصورة طبيعية، ودور المراكز المتخصصة مساعدتهم في ممارسة حياتهم وإعادة تأهيلهم عبر البرامج الخاصة، لتحويلهم من طاقة خامله الي طاقة منتجه. وتضيف: تستقبل الجمعية الاطفال المعاقين، وأول ما تقوم به قياس مستوي الذكاء لتصنيفهم في فئات، لاخضاعهم للبرامج التي تتناسب مع حالتهم، حتي يتمكنوا من رعاية انفسهم دون الاعتماد علي الاخرين، كما تقدم الجمعية خدمات العلاج االطبيعي، وبرامج تنمية المهارات الفكريه والتخاطب، وتنمية الميول الفنية للطفل عبر برامج تدريب للعمل في ورش السجاد والبامبو، الطباعة، الخزف، النجارة، وذلك حتي يشب الطفل المعاق ولديه حرفة يتكسب منها، ليفيد نفسه والمجتمع. وتطلب المديرة وزارة التضامن الاجتماعي بتقديم مزيد من الدعم من وزارة التضامن الاجتماعي للجمعية، خاصة أنها في طور إنشاء مشروع قرية الترابط الاجتماعي بمدينة الشيخ زايد، وهذه القرية بمثابة الحلم لكل معاق في مصر، لانها ستستوعب كل فئات المعاقين من الاطفال والمسنين، وستعد لإقامة المعاقين بصورة كاملة، كما سيقوم البالغون والمسنون المتطوعون علي خدمة الأطفال ممن فقدوا ذويهم ولا يجدون من يتابع رعايتهم، لذا الجمعية في حاجة الي اهل الخير للتبرع بكل ما تجود به أيديهم من مال، ملابس، أجهزة تعويضية، مستلزمات طبية، أدوية، أي شيء لتوفير الخدمات المطلوبة التي ستقدمها القرية الوليدة. كما تطالب المديرة محافظ الجيزة ووزير الإسكان، بتقديم قطعة الأرض التي ستقام عليها القرية بصورة مجانية، لانه عمل خيري لخدمة فئة مصرية هي احوج ما يكون للعون والمساعدة، وتأمل أيضا ان تلتزم الحكومة بتعيين نسبة 5% بالوظائف من المعاقين، وان تشمل النسبة المعاقين ذهنياً أيضاً. فيما يطرح الدكتور أحمد شوقي العقباوي - أستاذ الطب النفسي - مطلباً مهماً، حول ضرورة تفهم المجتمع المصري وعيه لمتطلبات المعاقين، وتغيير نظرته المدنية لتلك الفئة.. ويقول: هناك اعتقاد راسخ لدي الناس ان المعاق يجب التعامل معه بصورة مختلفة تتسم بالسخرية والإهانة، وهو أمر يتنافي مع ما تتسم به مصر من ترابط وتكاتف، لذا نحتاج إلي تعليم وإرشاد المواطنين عبر برامج توعية إعلامية لكيفية التعامل الانساني الراقي مع المعاق بكل أنواعه، وأحترمه ككيان انساني، انطلاقا من تعاليم الدين التي تحث علي الرحمة والتعاون والتكافل الاجتماعي. وعن تجاهل الحكومة لقانون تشغيل 5% من المعاقين في الوظائف، يقول محمد عبدالعليم داود عضو مجلس الشعب السابق: إن الحكومة في الفترة الاخيرة اوقفت التعيينات، وعملت بنظام العقود المؤقتة، واستغلت هذه الظروف لعدم تطبيق نسبة ال5% من المعاقين، الامر الذي بات يشكل خطورة علي الاسر البسيطة التي منيت بمعاق، لذا من الجدير بالحكومة في عهد الثورة أن تعيد العمل بهذا النظام لرعاية المعاقية، الذي هم أولي الناس بالاهتمام والرعاية والرحمة.