فتحت أبواب القاعة وسادت حالة من الهدوء التام ليدخل القاضى وينادى الحاجب على السيدة العجوز «روحية. ك» 70 سنة لتدخل بكل استحياء وضعف والدموع تنهمر من عينيها، وهى تحاول أن تخفيها لتقف وتقول: نعم سيادة القاضى أنا هنا أقف أمام سيادتكم فى موقف لم أتوقعه أبداً ولم أعلم أن ابنى الذى حلمت به طوال حياتى وأعطيته عمرى كله سوف يأتى بى هنا من أجل طردى من بيتى. وقفت الأم أمام ابنها وقالت له: يا ابنى من حقى عليك أن تسمعنى وإن شئت بعد ذلك اتركنى ومزق كلامى كما مزقت أطراف قلبى من قبل، يا ابنى منذ 29 عاماً كان يوماً مشرقاً فى حياتى عندما أخبرتنى الطبيبة أننى حامل، والأمهات يعرفن معنى هذه الكلمة جيداً فهى مزيج من الفرح والسرور وبداية معاناة مع التغيرات النفسية والجسمية وأتنفس بصعوبة، ولكن كل ذلك لم ينقص من محبتى لك وفرحى بك بل نمت محبتك مع الأيام وترعرع الشوق إليك، حملتك يا ابنى وهناً على وهن وألماً على ألم، أفرح بحركتك وأسر بزيادة وزنك وهو حمل علىّ ثقيل إنها معاناة طويلة أتى بعدها فجر تلك الليلة التى لم أنم فيها ولم يغمض لى فيها جفن ونالنى من الألم والشدة والرهبة والخوف ما لم يستطع أحد أن يصفه ولا يتحدث عنه اللسان ورأيت أمام عينى الموت مرات عدة حتى خرجت إلى الدنيا، فامتزجت دموع صراخك بدموع فرحى وأزالت كل آلامى، مرت سنوات من عمرك وأنا أحملك فى قلبى وأغسلك فى يدى جعلت حجرى لك فراشاً وصدرى لك غذاء، وسهرت ليلى لتنام وأتعبت نهارى لتسعد أمنيتى كل يوم أن أرى ابتسامتك وسرورى فى كل لحظة أن تطلب منى شيئاً أصنعه لك، فتلك هى منتهى سعادتى ومرت الليالى والأيام وأنا على تلك الحال خادمة لم تقصر ومرضعة لم تتوقف وعاملة لم تفتر حتى اشتد عودك واستقام شبابك وبدت عليك معالم الرجولة فإذا بى أجرى يميناً وشمالاً لأبحث لك عن العروسة التى تسعدك، وأتى موعد زفافك كانت فرحتى لم تقدر، ولكنى لم أعلم ماذا يخفى لى القدر فإذا بك لست الابن الذى أعرفه لقد أنكرتنى وتناسيت حقى، تمر الأيام لا أراك ولا أسمع صوتك على الرغم من وجودك معى فى نفس الشقة، وتجاهلت كل ما فعلته من أجلك. تقول «روحية»: سيدى القاضى تزوجت وعمرى 18 عاماً رغم صغر سنى إلا أننى وافقت على الزواج من شقيق صديقتى لكى أهرب من قسوة والدى علىّ، تزوجت واعتقدت أننى تخلصت من الضرب والإهانة، ولكن للأسف فوجئت بأن زوجى معاملته أيضاً كانت سيئة وعلى أبسط الأشياء يقوم بضربى بالحزام، أنجبت منه ابنى كان هو الأمل الوحيد فى الدنيا وأنه يعوضنى عن سنوات العذاب التي عشتها طوال حياتى، وظل بى الحال على أمل أن يتغير زوجى ولكن للأسف لم يتغير إلى أن فاض بى الكيل، طلبت منه الانفصال وبالفعل انفصلت عنه وتركنى أنا وطفلى دون نفقة مقابل أن يتركنا فى الشقة، اشتغلت عاملة فى أحد المصانع وحرمت نفسى من الكثير من أجل دراسة ابنى والحمد لله حصل على شهادة جامعية، وقلت ارتاح من الشغل على أمل أن ابنى سيعوضني، وحصلت على مكافأة نهاية الخدمة وقررت أن أزوجه بها لأن الشقق سعرها فوق طاقتى، وافقت على أن يتزوج معى وأن يكون لى السند فى الدنيا وزوجته تكون لى بمثابة ابنتى لتساعدنى فى شيخوختى، بالفعل تزوج فإذا به يتغير ليس الابن الذى أعرفه لقد أنكرنى وتناسى حقى وتجاهل من قامت بتربيته، رغم أننى لا أطلب منه إلا القليل أن يجعلنى فى منزله أقرب أصدقائه، اجعلنى يا بنى إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق. وانهمرت دموع الام وقالت: يا ابنى ارتعشت أطرافى وأنهكتنى الأمراض وزارتنى الأسقام ولا أقوم إلا بصعوبة ولا أجلس إلا بمشقة ولا يزال قلبى ينبض بمحبتك، يا ابنى لو أكرمك شخص يوماً لأثنيت على حسن صنيعه وجميل إحسانه وأمك أحسنت إليك إحساناً لا تراه ومعروفاً لا تجازيه، لقد خدمتك وقمت بأمرك سنوات وسنوات فأين الجزاء والوفاء، ألهذا الحد بلغت بك القسوة وأخذتك الأيام يا ابنى عندما علمت أنك سعيد فى حياتك زاد فرحى وسرورى، ولكن أتعجب وأنت صنيعة يدى أى ذنب جنيته حتى أصبحت عدوة لك لا تطيق رؤيتى ووجودى معك، هل أخطأت يوماً فى معاملتك أو قصرت لحظة فى خدمتك، يا ابنى أتمنى رؤيتك لا أريد سوى ذلك، دعنى أرى عبوس وجهك وتقاطيع غضبك يا ابنى تفطر قلبى وسالت مدامعى وأنت حى ترزق ولا يزال الناس يتحدثون عن حسن خلقتك وجودك وكرمك يا ابنى، أما آن لقلبك أن يرق لامرأة ضعيفة أضناها الشوق وألزمها الحزن، وأجريت لها دمعاً وأحزنت قلباً وقطعت رحماً لن أرفع الشكوى ولن أبث الحزن، لأنها إن ارتفعت فوق الغمام ووصلت إلى باب السماء أصابك شؤم العقوق ونزلت بك العقوبة وحلت بدارك المصيبة، لا لن أفعل لا تزال يا ابنى فلذى كبدى وريحانة حياتى وبهجة دنياى، ولكنى احذرك عما فعلته معى اليوم سوف تمر السنوات وتصبح أباً شيخاً والجزاء من جنس العمل وستقف هنا وتبكى لنجلك بالدموع مثلما وقفت أنا الآن وعند الله تجتمع الخصوم يا ابنى اتق الله فى أمك، فإن لأمك عليك حقا وأنت اغتصبت هذا الحق منها. سكتت الأم عن الكلام وقالت: سيادة القاضى أنا متنازلة عن حقى فى الشقة من أجل سعادة ابنى الذى تناسي كل شىء من أجل إرضاء زوجته وإسعادها حتى لو على حساب والدته، وسوف أتوجه لإحدي دور المسنين لكى أقضى بها باقى أيام عمرى.