عرفت أنيس منصور قبل أن أراه، كنا بعد طلبة فى المدرسة الثانوية وكنا نتخاطف كتب الكبار. وفى مقدمتهم خالد محمد خالد صاحب كتب «من هنا نبدأ».. و«الديمقراطية أبداً».. «وهذا أو الطوفان».. وجذبنا كتاب جديد فى معناه.. لمؤلف جديد فى أسلوبه. كان هو أنيس منصور.. وكان كتابه عن الوجودية.. وكنا نتسابق لما يكتبه هو أو رفيق دربه الدكتور مصطفى محمود.. ولم نكن نعرف وقتها أن أنيس منصور هو الذى يترجم معظم القصص القصيرة التى كانت «الأهرام» تنشرها بدون توقيع فى هذا التوقيت، فى بداية الخمسينيات. وجرفتنا الحياة الجامعية بعد ذلك، وكنت أنطلق إلى مكتبة جامعة القاهرة بين المحاضرات، وكانت القراءة هواية لى منذ كنت فى مدرسة دمياط الابتدائية.. وبدأت أسمع من جديد اسم أنيس منصور وصديقه كمال الملاخ وانتقالهما إلى أخبار اليوم وكان وقتها أنيس مازال مدرساً للفلسفة بكلية الآداب.. ولكننى رأيته وجهاً لوجه فى أواخر عام 1958 فى دار أخبار اليوم، كان مصطفى أمين قد اختارنى وأنا بعد طالب بقسم الصحافة لكى أعمل متدرباً فى قسم الأبحاث بالدار، رأيته فى خلفية الدار، كان مكتب أنيس منصور فى الأدوار الأخيرة.. وكان إذا أراد النزول من مكتبه ينزل من الخلف بجوار المصعد الصغير على السلم، ثم يدور دورة كاملة لينزل على السلم من عند المصعد الكبير.. ثم يدور فى مبنى الدار نصف الدائرى ليصل إلى عند المصعد الصغير لينزل السلالم دوراً واحداً ثم يتجه مشياً إلى المصعد الكبير ليتحرك منه مشياً إلى السلالم الصغيرة وهكذا طابقاً طابقاً.. وكأنه بذلك قد اخترع طريقته للمشى مسافة الأدوار الثمانية، بعد أن أصبح صعباً عليه أن يمشى فى الشارع.. ورأيت أنيس منصور يفعل ذلك كل يوم.. هابطاً من مكتبه مشياً.. رغم وجود المصعدين.. ثم اختفى أنيس منصور من الدار بجسده لنجده بروحه يطل علينا وبقلمه وهو يغطى رحلته حول العالم.. وجذبتنا حكاياته وشطحاته وانفراداته وكيف انه لم يكن يغسل ملابسه الداخلية.. إذ كان يلقى بها ويشترى جديداً بدلاً منها.. فلم يكن من هواة حمل الحقائب الكبيرة.. أما ما شغل به العالم العربى فكانت حكاياته عن الأرواح والسلة واستعادة هذه الأرواح..حتى لم يعد فى مصر اثنان يجلسان فى أى غرفة إلا وكانت السلة ثالثهما.. بما تحويه من أسرار.. وأرواح!! حتى ليقال إنه إذا كان جمال عبدالناصر قد فكر فى تأميم الصحافة المصرية بسبب حكايات تاتا زكى تلك الجميلة التى هربت من زوجها ليتزوجها حبيبها وكيف قام عبدالسلام دلور نائب رئيس تحرير الأخبار أيامها باخفائها فى فندق هيلتون من أجل العشيق قريبه.. ولكن بسبب حكايات أنيس منصور والسلة والأرواح.. وان كان ذلك ليس صحيحاً. إذ كان عبدالناصر قد خطط لتأميم الصحافة ودليلنا أنه دفع مجموعة من ضباط الجيش للالتحاق بقسم الصحافة معنا ليكونوا رجاله عندما يؤمم الصحافة. وازددت قرباً من أنيس منصور عندما عرفت أنه من دراويش أستاذنا عباس محمود العقاد، حتى إننا كنا نذهب لبيت الأستاذ فى شارع السلطان سليم كل يوم جمعة لكى نرى الأستاذين: العقاد وأنيس منصور ومعهما طاهر الجبلاوى والديدى.. وننعم بعصير الليمون ونمعن النظر فى تلك اللوحة الغريبة التىابدعتها ريشة صلاح طاهر عن التورتة التى حط عليها الذباب!! وعرفنا بعدها من هى الذى يرمز لها الفنان بالتورتة!! ومرة كنت أعمل كذلك بقسم المعلومات فى أخبار اليوم وكانت مهمة القسم أن يراجع أى معلومات قبل النشر، أن رأيت خط أنيس منصور.. إنه مجرد «نبش فراخ» لا نقط فوق الحروف أو تحتها.. ولا الحروف واضحة أو السنون ظاهرة.. إلى أن عرفت أن قلمه دائماً فى سباق مع أفكاره.. ولما كان يخشى أن يضيع عليه تعبير ما وهو يكتب.. كان يسجل هذه الأفكار بسرعة رهيبة على الورق.. ليدفع بها إلى المطبعة.. وكان أشهر ثلاثة خطوطهم تقرأ بصعوبة.. محمد زكى عبدالقادر الذى كان يكتب «بسن إبرة»!! والعقاد بحبره الأخضر.. وأنيس بعدم وضوح حروفه وكانت أخبار اليوم قد خصصت «عامل جمع معين» ليجمع كل واحد منهم مقالات أحد هؤلاء العظماء!! وأتذكر مرة بعد أن تعاقدت للعمل فى أبوظبى آخر 1971.. ان طلبت من أنيس منصور أن يعطينى بعض كتبه لنختار منها ما ننشره هناك.. فقال: وما المقابل.. ياعزيزى نحن نكتب لنعيش.. وإذا أعطيت لك الكتب.. كيف أعيش.. ورغم ما بين أستاذنا أنيس منصور والدمايطة من ود مفقود.. إلا أن ذلك لم يؤثر على علاقتى به.. فهو فيلسوف فلسف الصحافة.. وصحفى فلسف المقال السياسى!! قم لنا، وعد يا أستاذنا.. فأنا ألاحق ما تكتب فى كل مكان ومستعد أن أقدم لك كل ما تنتجه دمياط.. من جبن أبيض تعشقه خصوصاً الدوبل كريم القديمة!! إيه رأيك؟!