ماتت الأرض تحت قدميها وتحجرت عيناها في نظرة هلع، بينما اختنقت صرخة مدوية فى حلقها لا تجد من هول الصدمة صوتا يخرجها .... هيكل بشرى من السواد مطموس الملامح وقد أكلت النيران كل تفاصيله يرقد مكوما فوق الأرض أمام عينيها.. وسؤال مذبوح يشق صدرها.. تلك هى «علية» صديقة عمرى وأختى التى لم تلدها امى؟! اهذا ما تبقى لى منها... كيف تأكل النار البراءة والطيبة.. كيف جرؤت على المساس بهذا الملاك الطاهر..ك... - عليااااااا أطلقتها بكل ما تحمل من قهر الدنيا وهى تعدو منكفئة نحو ما تبقى من صديقتها فإذا بأيد غليظة تحكم قبضتين قويتين على ذراعيها تمنعها من الوصول إلى حيث الجثة. وإشارة حازمة من الضابط بإبعادها عن محيط الحادث. لتدرك في تلك اللحظة فقط أبعاد المشهد بأكمله..حيث ينتشر رجال الشرطة في كل مكان بالمنزل ويتكوم الشيخ عطية والد «علية» في أحد الأركان دافنا رأسه بين يديه مصدرا انينا يهتز له جسده الضئيل.. بينما يحيط كل أهل البلدة بالبيت فيمنعهم رجال الشرطة من اقتحامه لرؤية ما يجري. وحدهما عينان يسكنهما حزن مستتر لا تجرؤان على الإفصاح عنه.. تتلهفان النظر من إحدى نوافذ البيت إلى داخله باحثتين عنها.. عن حبيبة خطفتها النيران.. ها هى ذى.. تتسع عينا مجدى هلعا وهو يحدق إلي بقايا حبيبته بينما تتصارع بداخله صرخة مقهورة يكتمها رغما عنه خوفا من افتضاح سر عاش بينهما وكتب له ان ينتهي بينهما. صوت أبواق عربة الإسعاف يعلن عن لحظة يخشاها ثلاثتهم.. الشيخ عطية.. فتحية.. مجدى. ربما تمنوا لو استطاعوا منع رجال الإسعاف من حمل جثمان علية والرحيل به.. ربما يحدو قلوبهم امل مجنون في ان تلك الجثة مازالت تحيا.. صرخاتهم غاصت بين صرخات وعويل نساء القرية المتحومات حول البيت واللائي انطلقن في البكاء بمجرد خروج الجثمان من الباب، فكل منهن تبكي صفة حميدة وموقفا لا ينسى لعروس القرية ذات الأربعة عشر عاما ..علية التى عشقها القاصى والدانى على صغر سنها. علية التى سلبت العقول والقلوب بحسن أخلاقها وبراءتها وتمنت كل ام منذ ماتت امها لو تفوز بها عروسا لابنها.. ها هو الموت يخطفها ويقف الجميع عاجزا أمامه..فكيف استطاعت تلك النيران ان تلتهمها في صمت دون أن يشعر أحدهم بها، بينما كانت وحيدة في بيتها؟! وهل حقا كانت وحدها.. أم ان سراً يحيط بتلك الميتة البشعة؟ أين كنت وقت وقوع الحادث؟ - رفع الشيخ عطية عينين باهتتين قد أطفأ الحزن نورهما.. محاولا ان يجيب المحقق فخرج صوته مبحوحا كليلا: كنت في عملى فأنا اعمل مزارعا بسيطا في إحدى المزارع بالقرية. في رأيك كيف وقع الحادث؟ - لا أدرى.. ربما حدث تسرب للغاز أثناء قيام ابنتى بإعداد الغداء. ثم قاوم دمعة تكاد تنساب من عينه مستطردا: _ لقد كان ميعاد حضورى إلى البيت قد اقترب وكانت تجهز الطعام بالتأكيد. هل تتهم احدا بتدبير الحادث ومحاولة قتل ابنتك؟ علت الدهشة والاستنكار وجهه وهتف صائحا: - قتل؟ من يمكنه أن يقتل ذلك الملاك.. ولماذا؟ ان ابنتى محبوبة من كل أهل البلد ولا أظن أحدا يكن لها كرها أبدا و..... قاطعه صوت طرقات على الباب ودخول أحدهم ممسكا بورقة بين أصابعه.. يقترب من وكيل النيابة ويناوله إياها قائلا: تقرير الطب الشرعي. يكسو الاهتمام ملامح وكيل النيابة بينما يطالع التقرير ثم ما يلبث أن ينظر إلى الشيخ عطية في حدة قائلا: لماذا قتلت ابنتك؟ شىء من الوجوم يغزو وجهه ويرفع إليه عينين متسائلتين: قتلت ابنتى؟! ماذا تقصد يا بيه.. أنا لا افهم شيئا. لوح وكيل النيابة بالتقرير في وجه الرجل قائلا: هذا هو تقرير الطب الشرعي وهو يؤكد أن ابنتك قد تلقت ضربة بآلة حادة على رأسها مما أدى إلى وفاتها قبل ان يتم حرق جثتها. اشاح بوجهه مستنكرا ولوح باصبعه نافيا: مستحيل.. ابنتى ماتت مقتولة.. من قتلها ولماذا و... قاطعه: تقصد لماذا قتلتها أنت.. لا لم أفعل.. كيف أقتل ابنتى ولماذا؟ ألم تهددها قبل الحادث بيوم واحد انك ستقتلها وتحول نقاشكما حول أمر ما لشجار سمع به الجيران وسمعوا تهديدك ووعيدك لها؟ نعم فعلت، فقد كان أحدهم تقدم لخطبتها إلا اننى لم أكن أوافق على زواجها به لخصومة قديمة بيني وبين والده إلا أنها كانت تصر عليه فلم أملك امام اصرارها سوى تهديدها. ثم تابع في انهيار: لكنه مجرد تهديد.. اقسم لك.. كيف لى ان أقتل ابنتى ..مستحيل مستحيل. تهالكت فوق المقعد ورفعت يدا ترتعش لتمسح دموعا أغرقت وجها لم يستطع الحزن ان يخفى جماله رغم أنه أضاف أعواما إلى اعوامها التسعة عشرة . ما صلتك بالمجنى عليها؟ قالها وكيل النيابة وكأنه أعطى بها إشارة لانهمار دموع فتحية من جديد.. فراحت تنتحب في محاولة لتجميع حروف كلماتها: - أنا وعلية صديقتان ..إنها أختى الصغرى التى لم تلدها امى ورغم فارق السن بيننا فإن الصداقة جمعتنا منذ عدة سنوات واستمرت حتى بعد زواجى.. واعتدنا ان نقضي بعضا من الوقت معا، أما في بيتي او في بيتها..لكننا في ذلك اليوم لم نلتق لأننى كنت مشغولة في بعض أمور المنزل ... واستطردت وهى تقاوم دموعها: - ياليتنى ذهبت إليها ربما استطعت إنقاذها قبل ان تمسها النار ..ربما استطعت اكتشاف تسرب الغاز قبل ان تحدث الكارثة..رب.... - لم يحدث اى تسرب للغاز. فاجأها قوله فعقدت حاجبيها في دهشة هاتفة : - كيف هذا ..الم تجدوا شعلات البوتاجاز كلها مفتوحة وغير مشتعلة ..كيف اذن لم يتسرب الغاز من خلالها ؟ نظر إليها نظرة طويلة وقال ببطء: - لان أنبوبة البوتاجاز كانت فارغة فلم يكن هناك غاز ليتسرب. أشاحت بعينيها عن محيط تلك العينين اللتين تحاولان اختراق أعماقها وهزت رأسها في حيرة قائلة: - أنا لا افهم شيئا...كيف ماتت اذن؟ - ماتت مقتولة . - مستحيل. صرخت بها فتحية قبل ان يعتريها ذهول أفقدها القدرة على النطق. - ماذا تقولين أيتها الفاجرة ..كيف سولت لك نفسك ان تفعلي تلك الفعلة الشنعاء.. أجيبيني . أطاحت فتحية بيد «علية» التى تمسك بذراعها في قسوة هاتفة: - رغما عنى.. ثم نظرت حولها في توجس وخفضت من صوتها مستطردة : - أنا أحبه يا علية وانت تدركين معنى ان تحب امرأة.. فأنت تحبين مثلى و.. قاطعتها علية في عنف: - لست مثلك فأنا أحب من أتمنى الزواج به أما أنت فتحبين رجلا رغم زواجك بآخر بل وتحملين منه سفاحا ثم تاتين إلى لأساعدك في الخلاص من جريمتك أنا لا أصدق ما فعلت.. لا أصدق. أمسكت فتحية بذراعى صديقتها واغرورقت عيناها بالدموع قائلة في توسل: - أرجوك يا علية ساعديني..ليس لى غيرك لألجأ اليه..ارجوك. هتفت في حدة: - أساعدك في إكمال جريمتك يا فتحية؟ أتريدين مني ان اشارك معك في تلك الفعلة ؟ ثم صرخت: - اذهبي من أمامى لا أريد أن أراك بعد اليوم. وإذا حاولت الاقتراب من بيتنا يوما فسوف افضح امرك امام اهل البلد. تحجرت الدموع في عينى فتحية وتحولت نظرة التوسل في عينيها إلى نظرة جامدة فسحبت وراءها خيبة رجائها ولطمت الباب خلفها في عنف. كيف عرفتم اننى من قتلتها؟ نظر وكيل النيابة إلى فتحية نظرة انتصار وتشف مجيبا: - لانك غبية . ثم استطرد قائلا: - أولا لانك أكدت في اقوالك عدم ذهابك إلى بيت علية في ذلك اليوم ويبدو انك ظننت أن احدا لم يلحظ تسللك إلي بيتها وهو ما أدلى به أحد الجيران في أقواله. وثانيا لانك قلت ان كل شعلات البوتاجاز كانت مفتوحة وهو ما اخفيناه عن الجميع فلم يعلمه سوانا.. فالشيخ عطية كان أول من اكتشف الجريمة ولصدمته حين رؤيته جثة ابنته متفحمة لم يدر ما يفعل فأوصد باب البيت عليها وتوجه إلينا مباشرة دون العبث بشىء أو حتى إخبار أحد بالحادث وهو ما تأكدنا منه.. وتوجهنا معه مباشرة إلى البيت حيث كانت بالفعل كل الشعلات مفتوحة فأغلقناها بعد رفع البصمات ومعاينة مسرح الجريمة وأشعنا بين الناس ان شعلة واحدة كانت مفتوحة وان تسرب الغاز كان سببا في الحادث.. فكيف لك بمعرفة معلومة كتلك؟ ..فتحية.. أنت متهمة بقتل صديقتك مع سبق الإصرار والترصد.. خوفا من افتضاح امرك فقد تسللت إلى بيتها وقمت بضربها بفأس على رأسها وحتى تتأكدى من موتها وتخفى صفة القتل عن الجريمة وتبدو حادثا قدريا قمت بسكب الكيروسين عليها وإشعال النار بها وفتحت كل شعلات البوتاجاز لتوهميننا ان الأمر مجرد تسرب للغاز لم تحس به المجنى عليها فقامت بإشعال عود ثقاب فأمسكت النيران بها. وكنت حريصة بحيث أخفيت كل بصماتك من المكان كله. وظننت ان الأمر قد انتهى. ثم استطرد وكيل النيابة في حدة: قتلت صديقتك لتخفى أمرك.. فها هى فضيحتك سيعرفها الجميع.