رغم أن البحث عن معنى للتطرف ضمن أعمال مؤتمر «صناعة التطرف قراءة في تدابير المواجهة الفكرية الذي نظمته مكتبة الإسكندرية، بدا كالبحث عن إبرة في كومة قش، إلا أن النتائج تقدم لك بصيص أمل في إمكانية تجاوز حالة سعار الإرهاب، المظهر العملي للتطرف، الذي تعيشه مصر والمنطقة العربية والعالم إذا ما تم التعامل مع الظاهرة بالشكل المناسب. فعلي مدار ثلاثة أيام – من 3 إلى 5 يناير – نظمت مكتبة الإسكندرية ما يمكن وصفه بالمرحلة الثانية من مؤتمرها السنوي حول التطرف في جلسات فكرية عاصفة شارك فيها مثقفون ومفكرون ومختصون من 18 دولة عربية، حيث جاء المؤتمر بعد مرور عام على انعقاد المؤتمر الأول لمكتبة الإسكندرية، والذي أطلقت من خلاله برنامجها الخاص بمواجهة التطرف وعقد يناير الماضي تحت عنوان «نحو استراتيجية عربية شاملة لمواجهة التطرف». نبرة التفاؤل التي نثرها الدكتور إسماعيل سراج الدين رئيس مجلس امناء مكتبة الإسكندرية ربما تكون بددتها المناقشات التي كشفت عن الواقع الأليم الذي نحياه لجهة عوامل تغذية التطرف وصعوبة مواجهته. ففي كلمته الافتتاحية راح الدكتور إسماعيل يؤكد بلهجة حاسمة عدم قبول انغلاق يفرضه المتطرفون ورفض استعمال أدوات الماضي للتعامل مع الحاضر، داعيا إلى استراتيجية عربية شاملة لمواجهة التطرف، وكاشفا عن برنامج خاص لمواجهة التطرف من قبل مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع الهيئات المختلفة في مصر وعلى رأسها الأزهر وكذا برنامج مكثف في العديد من العواصم العربية. ورغم جدية القضية إلا أن الدكتور مصطفى الفقي حاول التخفيف من جفاف المناقشات في الجلسة الأولى وإن أشار إلى الأهمية الكبرى التي تمثلها حين أشار إلى ان ما اعتبره من أن الإرهاب اصبح هاجسا انسانيا بلا حدود، وحين اعتبر أننا نعيش ما يمكن وصفه بحرب عالمية ثالثة ليست بالضرورة نظامية متوقعا أن تأخذ المواجهة مع الإرهاب وقتا طويلا، ومن هنا تأتي أهمية المؤتمر الذي يعقد في ظروف أكثر قسوة وحدة وتطرفا على نحو دفع به إلى وصف العام المنصرم الذي انقضى منذ ايام بأنه عام «داعش». في ورقته التي قدمها أمام المؤتمر في جلسته الأولى رصد الدكتور عمرو الشوبكي الخبير بمركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية تحولات التنظيمات الإسلامية والتي بدأت بما وصفه بعصر التنظيمات الجهادية الكبرى ثم مرحلة الخلايا الصغرى ثم عودة التنظيمات الكبرى أو ما أسماه بعصر التكفيريين الجدد والخلاصة التي انتهى اليها هي أن آلية تجنيد الغالبية العظمى من عناصر داعش تتم وفق دوافع اجتماعية وسياسية يتم تبريرها بشعارات إسلامية، مع تأكيده في الوقت ذاته على تراجع التأثير العقائدي لدى التكفيريين الجدد لصالح شعارات دينية تستدعي تبرير القتل والإرهاب. ولأن المؤتمر يهدف إلى دراسة ظاهرة التطرف في كافة تجلياتها العربية فقد كان بحث الدكتور الطاهر مسعود من الجزائر حول تجربة بلاده في مواجهة الظاهرة من خلال نهج المصالحة الوطنية، وهو الأمر الذي راح الدكتور الفقي يستبعد العمل به في مصر باعتبار وجهة نظره التي تنطلق من اختلاف السياق الجزائري عن السياق المصري، فالتجربتان مختلفتان بشكل لا يسمح بالمقارنة بينهما أو تطبيق نفس النموذج في كلتيهما. فيما راح الدكتور محمود حداد أستاذ التاريخ بجامعة البلمند في لبنان يحاول ان ينتقل بنا نقلة أخرى في تناول الموضوع حين سعى لنفي التصاق تهمة التطرف بنا فقط مؤكدا أنه ليس في الحركات الإسلامية فقط وإنما في حركات أخرى عديدة على مستوى العالم. زاوية أخرى جديدة أكد عليها وهي انه كل الحركات ، إسلامية أم علمانية أم قومية، فشلت في التعامل مع القضية الوطنية لان توازن القوى الدولي لم يسمح لها بذلك. نقطة أخرى أكد عليها الدكتور محمود قد تكشف عن سر ازدهار التطرف وهي ان الخارج ليس بالضرورة ضد الحركات المتطرفة وإنما هو يحاربها فقط عندما تضربه في عقر داره. وعن الحل فهو يراه في حقيقته أنه اذا كان التطرف يقابل الاعتدال فإن الحل أن تقوم القوى الفاعلة الحاكمة بانتهاج سياسة معتدلة، فذلك مما قد يقوض التطرف من وجهة نظره. وضمن جلسات المؤتمر كانت جلسة مقاربات العلوم الاجتماعية لظاهرة التطرف حيث قدم الدكتور نصر عارف أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة مداخلة حول الموضوع تساءل خلالها عما إذا كان لدينا بحق علوم اجتماعية مؤكدا أن ما قمنا به في دراسة التطرف لم يحقق أيا من أهداف العلم مضيفا أن الملاحظ على مقاربات تناول التطرف أنها تتسم بالأحادية حيث تكون من خلال الدارس فقط وليس من خلال الانخراط مع الاشخاص موضوع التناول، أو أنها مسيسة فيتم الاهتمام بالظاهرة إذا مثلت خطرا على النظام السياسي، أو أن المقاربة تكون أيديولوجية فيكون الهدف هو القضاء عليها وليس علاجها. وفي مداخلة قد تشير إلى عبثية البحث العلمي تحدث الدكتور رفعت السعيد معلقا فأشار إلى ان مركز البحوث الاجتماعية والجنائية كان قد نظم ندوة عام 1981 تشابه محاورها تلك التي للمؤتمر، بما يؤكد أنه ما أشبه الليلة بالبارحة وأن العقل العربي يراوح مكانه. وفي طرح يثير الجدل بشأن بعض رؤى المثقفين دعا السعيد إلى ما اعتبره إلغاء التسامح و التأكيد على قيمة المساواة بدلا من التسامح. وإذا كان الإعلام يلعب الدور الأكبر في التعامل مع قضايا المجتمع وعلى رأسها قضية التطرف، فقد كان له نصيب في المؤتمر من خلال جلسة خاصة حول دوره في مواجهة التطرف أدارتها الصحفية المغربية وفاء صندي غير أن المأخذ على تلك الجلسة أنها كانت ابعد ما تكون عن موضوعها حيث لم يتطرق المتحدثون إلى الموضوع بشكل مناسب باستثناء المتحدث سمير عمر مدير مكتب شبكة سكاي نيوز عربية الذي قدم مداخلة متميزة عرض خلالها لما اعتبره حقائق سبعا بشأن ظاهرة التطرف مشيرا إلى أن أغلب التعريفات السائدة في لغة الإعلام مستوردة ولا تعبر بشكل صحيح عن قضايانا وموضحا التطور الكبير في شبكات الإرهاب التي أصبحت تؤمن بأهمية الإعلام وتتفنن في الاستحواذ عليه وعلى اهتمامه. وعزز من أهمية الجانب السابق ما تناوله المؤتمر من خلال جلسة الفضاء الرقمي والتطرف حيث تمت الإشارة خلال الجلسة إلى تنامي وسائل الإعلام الحديثة ومنها الإعلام الرقمي وتمت الإشارة خلال الجلسة إلى ان داعش حسب أحد المتحدثين أكبر تنظيم يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتجنيد أعضائه وقد نجح في ذلك الصدد في تجنيد أعضاء من دول العالم المختلفة بشرقها وغربها. وحسب الجلسة فنحن في مواجهة داعش نجد أنفسنا أمام استراتيجية اعلامية شاملة لها أهداف ترويعية وترويجية من أجل نشر الفكرة على مستويات عديدة. لكن شهاب الإدريسي الباحث من المغرب والمقيم بلبنان بدا له وجهة نظر اخرى تعكس التباين في النظر للظاهرة فالأمر من وجهة نظره يتمثل في أن مشكلة الإرهاب تعكس طبيعة النص الديني، فهو – حسب كلامه – ليس في مطلقه صالح لكل زمان ومكان .. وهذا هو جوهر الأزمة. وكان من النتائج التي انتهت إليها الجلسة هي التأكيد على حقيقة أن الإنترنت سرع من انتشار التطرف بما يسره من سهولة استقطاب الشباب الذي أصبحت الشبكة العنكبوتية هي مجال سياحته المفضلة. والملاحظ أن تعريف التطرف سيطر على جميع الجلسات حتى أنه ليبدو وكأنه كان من المفضل تخصيص جلسة لذلك الجانب وحسمه بدلا من ان يبدو مشكلة ملحة في كل الجلسات .. فقد راح عريب الرنتاوي مدير مركز القدس للدراسات السياسية يثير التساؤل بشأن التعريف في الجلسات الختامية للمؤتمر. ورغم رفضه لمفهوم الوسطية باعتباره يعبر عن صحيح الدين وكذلك رفضه للحديث عن الاعتدال باعتبار ان تلك تعريفات فضفاضة فقد فشل في ان يخرج من أسر تلك المصطلحات حيث راح يستخدمها بما بدا معه أنه لا يجد عنها بديلا. على ذلك النحو كان من الأسئلة الحيوية التي بدت ملحة في اليوم الاخير للمؤتمر التساؤل حول كيفية التعامل مع الجيل القادم وسط أحوال لا تجعل امام الشباب المسلم سوى خيار الهجرتين إما الهجرة إلى أوروبا أو الهجرة إلى داعش.. والتي أصبحت في منظور البعض من الشباب المخدوع عبر شبكة الإنترنت وغرف الدردشة تمثل الفردوس الأرضي أو ما يمكن وصفه بيوتوبيا الإسلام او مدينته الفاضلة، وهو ما أشارت إليه الدكتورة بدرة قعلول أستاذة علم الاجتماع في تونس، حين أشارت إلى انه يكفي الإشارة إلى أن هناك نحو 700 امرأة تونسية منخرطة في التنظيم وهو ما يكشف التباين في النظرة لوضع المرأة انطلاقا من نظرة الحركات والتنظيمات الإسلامية .. فإذا كان الظواهري تحدث عن أنه لا مكان للمرأة في القاعدة فإن داعش لا تألو جهدا في تجنيدها. قد لا تكون تلك المناقشات سوى قطرة في بحر من المناقشات التي تناولت ظاهرة التطرف، والتي سيتلوها بالتأكيد المزيد من المناقشات، غير أنها تمثل خطوة ربما لا بد منها لفتح آفاق النقاش حول تلك الظاهرة بحرية بعد أن ضاق مجال النقاش عنها وبها في المجال العام بذات الحرية نفسها التي سادت في المؤتمر، وهو أمر قد يعززه ما أشار إليه الدكتور خالد عزب رئيس قطاع المشروعات بمكتبة الإسكندرية خلال المؤتمر الاتجاه إلى عقد شراكات مع الجهات ذات الاهتمام المشترك ومنها ذلك الذي تم مع عدد من الدول لمكافحة ظاهرة التطرف، جاء في إطارها المؤتمر الذي نظمته المكتبة مع الرابطة المحمدية للعلماء في المغرب خلال الشهر الحالي، ومؤتمر آخر سيعقد بمملكة البحرين بالتعاون مع مركز عيسى الثقافي في مايو المقبل.