«أوقفني في التقرير وقال لي: تريدني أو تريد الوقفة أو تريد هيئة الوقفة؟ فإن أردتني كنت في الوقفة لا في إرادة الوقفة، وإن أردت الوقفة كنت في إرادتك لا في الوقفة، وان أردت هيئة الوقفة عبدت نفسك وفاتتك الوقفة .. » (مولاي محمد بن عبد الله النِفّري - قدس الله سره) ***** يتزايد الاعتناء بالتصوف في ما بعد الحداثة، وهو واضح حتى في الوسط العربي الاسلامي الذي لم يدخل هذه المرحلة فعليا! وأي متابع لصفحة «اللا محتجب» على سبيل المثال، يلحظ هذا الاهتمام لدى قطاع واسع من الشباب حتى غير المنتمين إلى أي سياق إسلامي في سلوكهم وقناعاتهم، والذين لا يعيرون أحكام التدين والتعبد بالاً. أحد أهم الأسباب التي لما سُمي «عودة الديني» أو «عودة اللامعقول» في ما بعد الحداثة هو محاولة توسيع الوجود المادي الضيق الذي أدت إليه الحداثة وعقل الأنوار. وهو العقل الذي أراد أن يزيح الإله والغيب والروح والوحي والآخرة عن منظور الإنسان، ويسمح لها بمتنفس في حيزه الخاص فحسب. وبذلك أصبح الإنسان محاصرا في «القفص الحديدي» الذي صنعه عقله البارع في التحكم في الطبيعة لأقصى الدرجات، والفارغ من المعنى والجمال والقيم المتجاوزة في الوقت نفسه. لكن إذا كان التصوف هو محاولة للوصول إلى المطلق أو التماهي معه، فإن الفارق الأكثر أهمية بين هذا التصوف ما بعد الحداثي والتصوف الإسلامي هو في طبيعة هذا المطلق. فبينما يتجه الصوفي المسلم إلى الله (سبحانه وتعالى)، الحقيقة المفارقة للعالم، فإن تصوف ما بعد الحداثة يتجه إلى مطلق دنيوي، لا خروج له عن سور الكون والطبيعة سوى بأنه الجزء اللامعقول فيها. هذا الفارق في طبيعة المطلق الذي يتجه إليه الصوفي يتجلّى بوضوح في فكرة (الالتزام) بالأمر الإلهي (التعبدي) و(الأخلاقي) في التصوّف الإسلامي، بينما يتجه صوفي ما بعد الحداثة إلى اختراع إلهه (مطلقه), ولا يستتبع هذا الاختراع أي إلتزام أخلاقي أو سلوكي أو عقدي، فهو مطلق خادم للصوفي، وليس العكس على نحو التصوف الإسلامي. ويظهر مثال ذلك في (الزهد) لدى الصوفي المسلم والصوفي العلماني في زمن السوق والاستهلاك! لا شك أن ما يسميه الراحل الكبير عبد الوهاب المسيري «ميتافيزيقيا بلا أعباء» أخلاقية هي أبرز ملامح التصوف ما بعد الحداثي.