انطلاق فعاليات ندوة "طالب جامعي – ذو قوام مثالي" بجامعة طنطا    وزير المالية: بدأنا مرحلة تصحيحية لمسار الاقتصاد المصري لتجاوز التحديات    ڤودافون مصر توقع اتفاقية تعاون مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لدعم الأمن السيبراني    بروتوكول تعاون بين جامعة الفيوم والاتحاد العربى لحماية الحياة البرية والبحرية    قاضٍ مصرِي يَكشف تواريخ وأسباب تحطم طائِرات رؤساء الدول منذ عام 1936    أخبار الأهلي: الأهلي يكشف تفاصيل جراحة علي معلول    ضبط مكرونة وسجائر مجهولة المصدر في حملة تموينية بشرق الإسكندرية    تفاصيل عيد الأضحى 2024 ومناسك الحج: الموعد والإجازات    الإعدام لأب والحبس مع الشغل لنجله بتهمة قتل طفلين في الشرقية    حجز استئناف أحمد عز على إلزامه بدفع 23 ألف جنيه إسترليني لتوأم زينة    تطورات حالة والد مصطفى قمر الصحية بعد إجرائه جراحة    بعد طائرة الرئيس الإيراني.. هل تحققت جميع تنبؤات العرافة اللبنانية ليلى عبد اللطيف؟‬    إيرادات "السرب" تتخطى 30 مليون جنيه في شباك التذاكر    6 نصائح لمواجهة الطقس الحار.. تعرف عليها    الوفد الروسي بجامعة أسيوط يزور معهد جنوب مصر للأورام لدعم أطفال السرطان    الليجا الإسبانية: مباريات الجولة الأخيرة لن تقام في توقيت واحد    استبدال إيدرسون في قائمة البرازيل لكوبا أمريكا 2024.. وإضافة 3 لاعبين    مدرب الزمالك يغادر إلى إنجلترا بعد التتويج بالكونفيدرالية    مصطفي محمد ينتظر عقوبة قوية من الاتحاد الفرنسي الفترة المقبلة| اعرف السبب    وزير الري: 1695 كارثة طبيعية بأفريقيا نتج عنها وفاة 732 ألف إنسان    البنك الأهلي المصري يتلقى 2.6 مليار دولار من مؤسسات دولية لتمويل الاستدامة    المؤشر الرئيسي للبورصة يتراجع مع نهاية تعاملات اليوم الاثنين    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأجيل محاكمة رجل أعمال لاتهامه بالشروع في قتل طليقته ونجله في التجمع الخامس    العثور على طفل حديث الولادة بالعاشر من رمضان    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    سوزوكي تسجل هذه القيمة.. أسعار السيارات الجديدة 2024 في مصر    العمل: ندوة للتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية ودور الوزارة فى مواجهتها بسوهاج    "النواب" يوافق على منحة لقومي حقوق الإنسان ب 1.2 مليون جنيه    الحياة على كوكب المريخ، ندوة علمية في مكتبة المستقبل غدا    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد    افتتاح دورة إعداد الدعاة والقيادات الدينية لتناول القضايا السكانية والصحية بمطروح    «صحة الشرقية» تناقش الإجراءات النهائية لاعتماد مستشفى الصدر ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل    «السرب» الأول في قائمة إيرادات الأفلام.. حقق 622 ألف جنيه خلال 24 ساعة    مسرح التجوال يقدم عرض «السمسمية» في العريش والوادي الجديد    نائب جامعة أسيوط التكنولوجية يستعرض برامج الجامعة أمام تعليم النواب    شيخ الأزهر يستقبل سفير بوروندي بالقاهرة لبحث سبل تعزيز الدعم العلمي والدعوي لأبناء بوروندي    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    في طلب إحاطة.. برلماني يحذر من تكرار أزمة نقل الطلاب بين المدارس    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    شكرى: الاحتياجات ‬الإنسانية ‬للأشقاء ‬الفلسطينيين ‬فى غزة ‬على رأس أولويات مصر    وزيرة الهجرة: نتابع تطورات أوضاع الطلاب المصريين فى قرغيزستان    تفاصيل أغنية نادرة عرضت بعد رحيل سمير غانم    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    باحثة سياسية: مصر تلعب دورا تاريخيا تجاه القضية الفلسطينية    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    ماذا يتناول مرضى ضغط الدم المرتفع من أطعمة خلال الموجة الحارة؟    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    إعلام إيراني: فرق الإنقاذ تقترب من الوصول إلى موقع تحطم طائرة الرئيس الإيراني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«النفَّرى».. الصوفى الذى اتسعت رؤيته فضاقت عبارته
نشر في الوطن يوم 22 - 07 - 2013

صوفى وفيلسوف كبير ترك خلفه رؤى وتصورات غاية فى العمق والتركيب، استغلقت على أفهام كثيرين، فحرمته من شهرة يستحقها، واهتمام كان سيفتح بابا وسيعا للاستفادة من عطائه المختلف، إلا أنه وبعد زمن التقطه أولو الألباب الباحثون عن الحكمة المصفاة، واهتدى إليه أصحاب الأفئدة العامرة بالإيمان لينهلوا من مواقفه ومخاطباته، واكتشفه المحتفون بالجمال من شعراء هذا الزمن ليقولوا من خلاله للغرب، عرفنا «شعر الحداثة» قبلكم بقرون، والدليل ما تركه لنا «النفَّرى».
وكانت لهذا الصوفى أحوال متفردة، وطقوس خاصة، إذ كان يعشق الترحال الدائم، لا يستقر فى مكان، ولا يأنس إلى إنسان، إنما يمضى متوحدا مع ذاته، هائما فى ملكوت الله تفكرا وتدبرا، ولذا يصفه رينولد نيكلسون بأنه «درويش جواب آفاق، مغامر فى أقطار الأرض». وقد كان يتعمد التخفى عن العيون، ملتزما بالصمت، غير منشغل بشىء ولا بأحد، مستكف ومستغن بالله عن العالمين. ويقال إنه قد عاصر محنة الحلاج ومأساته، فآثر، كغيره من أهل التصوف، الكتمان، ومارس التقية بصرامة شديدة.
هو محمد بن عبدالجبار بن حسن الملقب ب«النفَّرى»، نسبة إلى بلدة «نِفَّر» بالقرب من الكوفة فى العراق، والتى يعود أصل اسمها إلى مدينة بابلية قديمة اسمها Nippur، كانت مركزاً دينياً مهماً قبل نحو أربعة آلاف سنة، وكان فيها معبد آكور الذى يُعبَد به «الرب إنليل»، سيد الهواء. ومن بعدُ أصبحت مركزاً للديانة المانوية، ثم المسيحية فى القرن السابع الميلادى.
لكن أحداً لا يعرف على وجه اليقين متى ولد «النفَّرى»، بل إن تاريخ وفاته غير متفق عليه، والأدهى من ذلك أن هناك اختلافا حول نسبة وتصنيف كتابه الشهير «المواقف والمخاطبات»، إذ ينسبه البعض لشخص آخر هو أبوعبدالله محمد بن عبدالله «النفَّرى»، ويقولون إن حفيده محمد هو الذى قام بتجميع أشتاته، وتنظيم شذراته، أثناء حياة جده وبعد وفاته، من دون أن ينشغل بترتيب هذا تاريخيا.
وقد بات المرجع الأساسى فى التعرف على حياة «النفَّرى» هو ما كتبه عفيف الدين التلمسانى الذى عاش فى القرن السابع الهجرى والثالث عشر الميلادى أى بعد رحيل «النفَّرى» بثلاثة قرون على الأقل. وهناك من يقول إن «النفَّرى» لم يكتب شيئا، وإن كل ما تركه هو كلام شفهى التقطه تلاميذه ودونوه عن طيب خاطر. ويعتقد كثيرون أنه لولا الإشارات التى أوردها محيى الدين ابن عربى عن «النفَّرى» فى كتابه الأشهر «الفتوحات المكية» وكذلك كتابه «رسالة عين الأعيان» ما كان يمكن الالتفات بسهولة إلى نسب «المواقف والمخاطبات» للنفرى. وقد اكتشف كتابَ المواقف والمخاطبات للنفَّرى المستشرق آرثر جون آربرى سنة 1934، ففتح الباب أمام كثيرين ليطالعوا ما ورد فيه، ويتناولوه شرحا وتحليلا، فى إعجاب واندهاش، لا سيما من الأدباء عموما، والشعراء خصوصا.
وهناك من يرى أن «النفَّرى» ربما يكون قد اعتنق المذهب الشيعى، وهذا يعزى إلى عدة مؤشرات، أولها أنه قد أتى على ذكر «الإمام الغائب» أو «المهدى المنتظر» فى نصه، والذى تؤمن «الرواية الشيعية» بأنه سيظهر فى آخر الزمان ويملأ الأرض عدلا. وثانيها أنه ولد فى بلدة قريبة من الكوفة، التى كانت مركزا علميا للشيعة أيامها مثل ما هى عليه الآن. وثالثها هى ممارسة «النفَّرى» للتقية، وعيشه متخفيا، وعدم تدوينه لأفكاره وخواطره ومواجيده حتى لا تكون حجة ضده فى يد مناهضى المتصوفة أو كارهى الشيعة، لا سيما من الفقهاء الذين يرمونهم بالكفر ويطلقون عليهم لقب «الرافضة»، ويهيجون عليهم عوام الناس من أهل السنة.
وبعد طول إهمال للنفرى جاء فى زماننا من يشهد له بوصفه متصوفا عميقا وعاشقا للغة، فها هو الكاتب الراحل الدكتور مصطفى محمود يقول فى كتابه «رأيت الله» إن مكاشفات «النفَّرى» تعد مدخلاً مهما إلى الحداثة الشعرية و«قصيدة النثر».
ويقول الناقد الأدبى سعيد الغانمى: «تضىء شعرية «النفَّرى» على صعوبة ترويضها أو تصنيفها تبعاً لأى مقولات جاهزة، فهو يريد اجتراح لغة تتخطى دائماً مواصفات اللغة المألوفة، وتبشر بما وراء الحرف والمجاز، أى بما وراء اللغة الحقيقية واللغة الاستعارية».
ويصف أدونيس «النفَّرى» بأنه «السلف الشرعى لقصيدة النثر العربية» ويرى أن كتابته تمثل «شعرية الفكر الحقيقى» ويقول إنها «تجربة قلبية لا تجربة عقلية، وتجربة كتابية بدءاً من القطيعة مع الواقع، ومن الصلة مع المتخيَّل.. إنها تجربة تتجاوز إمكانات الواقع، من أجل أن تُحسِنَ الغوص فى داخله، وتُحسن استقصاءَ ما يُضمره، فهى تجربةُ رموزٍ وإشارات وتلميحات. النص هنا يقول أكثر مما يقول ظاهر كلماته، وتتقاطع فيه أبعاد ودلالات تجسّد لغة تفرض التواصل معها ذوقياً، أو حدسيا».
ويمضى أدونيس قائلا: «يرفعُ النفّرى الكتابة إلى مستوى الأسطورة. فكتابته تدعونا لكى نفهمها بحركة الأحشاء، ونبضات القلب، كما لو أن علينا أن ننصهر فيها؛ أن نتماهى معها كما نتماهى مع طفولتنا ولاشعورنا.. إنه نصّ يقول لنا إن الحقيقة شوقٌ، وهى غير موجودة بوضوحها الكامل، أى بغموضها الكامل إلا فى اللغة أعنى الشعر».
ويرى الكاتب والناقد عبده وازن أن شعرية «النفَّرى» تتمتع بالإيقاع الداخلى للمفردات والجمل ولعبة التكرار، وظهور بعض السجع اللطيف والرقيق، ناهيك عن الجناس المهذب والإيجاز والابتعاد عن شرائك الفصاحة والبلاغة والكلفة والتصنع.
ويصف الأب اليسوعى بولس نويا، الذى أنجز عددا من الدراسات عنه، «النفَّرى» بأنه من أعمق المفكرين فى تاريخ المسلمين، ويثنى على قريحته اللغوية، وقدراته الفذة على صياغة الأفكار والمواجيد العميقة فى عبارات قصيرة مسبوكة بإحكام، تخاطب العقل والعاطفة معا.
وهناك من يرى أن شعرية «النفَّرى» تدلنا على اصطلاح «اختلاف الأضداد» الذى سبق ما أشار إليه الناقد الكبير باختين عن «تكافؤ الأضداد» بل إن إشارات «النفَّرى» طالت ما أبدعه الشاعر الفرنسى ستيفان مالارميه. والمفردات التى زخر بها نص «النفَّرى» تظهر هذا التضاد بجلاء، من قبيل: القرب والبعد، والفرق والجمع، والظاهر والباطن، والنطق والصمت، والليل والنهار، والحياة والموت، والمعرفة والجهل، والعبد والرب، والنور والظلام، والنار والماء.
وربما تكون بداية معرفة كثيرين ب«النفَّرى» هى جملته ذائعة الصيت التى تقول: «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» والتى يقف أمامها أهل العلم مندهشين، ليتأملوا ما تنطوى عليه من حكمة ومنهج وما تدل عليه من طريقة فى التفكير والتعبير. وربما لم يدر «النفَّرى» وقت أن نطق بها أن هذه الجملة ستسكنه ويسكنها، وتصبح قرينته وقرينها، فما إن يأتى أحد على ذكر اسمه حتى يستدعيها، وما إن تُستدعى حتى نتذكر «المواقف والمخاطبات» ورحلة رجل جار عليه التاريخ طويلا، وأخفاه مكنوناته عن الأعين والأذهان، مثلما سعى هو وقصد أن يعيش مع ذاته، فيجنبها الشقاء والبلاء.
وتنطوى فلسفة «النفَّرى» على «الوقفات» و«الرؤيا»، والأولى تعنى فى نظره إدراك الكون والأشياء من منظور يفوق كل علم بشرى، وكل معرفة صوفية أو حدسية، أى ما يفوق البرهان والعرفان، ويأتى من الحضرة الإلهية مباشرة، حيث يقول «النفَّرى»: «قال لى: الوقفة جوارى وأنا غير الجوار». والوقف قبل العارف، فها هو يقول: «قال لى: الواقفون أهلى. والعارفون أهل معرفتى» وهذا يعنى أن الواقفين أعلى مرتبة من العارفين، بل إن الوقفة تعنى تحصيل المعرفة بالفعل، بينما لا تعنى المعرفة بالضرورة بلوغ الوقفة ف«كل واقف عارف. وما كل عارف واقف» و«لا يقدر العارف قدر الواقف» و«الوقفة عمود المعرفة. والمعرفة عمود العلم» و«قال لى: العلم حجابى، والمعرفة خطابى، والوقفة حضرتى»، بل يذهب «النفَّرى» إلى ما هو أبعد حين لا يجد الحرية إلا فى الوقفة: «قال لى: العالم فى الرق. والعارف مكاتب. والواقف حر».
وهنا يصبح الواقف فى نظر «النفَّرى» من دخل فى زمن الذات الإلهية أو رحابها، وتهيأ لتلقى الخطاب الإلهى المطلق، أو هو ذلك الذى ترقى على سلم الواصلين حتى بات يدور فى عالم الغيب والشهادة بلا قيود ولا أستار، ويبلغ أعلى مراتب الفناء فى ذات الله. والفناء عند المتصوفة يعنى «سقوط الأوصاف المذمومة.. فمن فنى عن جهله بقى بعلمه، ومن فنى عن شهوته بقى بإنابته، ومن فنى عن رغبته بقى بزهادته، ومن فنى عن منيته بقى بإرادته تعالى».
أما الرؤيا عند «النفَّرى» فهى أعلى مراتب الكشف، وهى منفذ خاص جدا للارتباط بخطاب الله، والاطلاع على ما يجود به على عبده من أسرار.
وعلى غرار «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» يقتطع البعض جملا من مخاطبات «النفَّرى» ووقفاته لتصبح حكما عميقة راسخة، مثل قوله فى المخاطبات: «سدَّ باب قلبك الذى يدخل منه سواى، لأن قلبك بيتى» و«يا عبدُ، من صبر عن سواى أبصر نعمتى، وإلا فلا». ومثل قوله فى المواقف: «غششتُك إن دللتُك على سواى» و«آليتُ لا أقبلك وأنت ذو سبب أو نسب» و«لا يجاورنى وجدٌ بسواى» «إن عرفتنى بمعرفة أنكرتنى من حيث عرفتنى».
وكل هذه بالقطع خطاب متخيل من الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان، حيث يتخيل «النفَّرى» أن هناك من يخاطبه باسم الملكوت الأعلى، فيبدأ «وقفاته» بعبارة «قال لى»، مثل ما يأتى:
«وقال لى: لا يكون المنتهى حتى ترانى من وراء كل شىء.
وقال لى: نَمْ لترانى، فإنك ترانى؛ واستيقظ لتراك، فإنك لا ترانى.
وقال لى: كل واقف عارف، وليس كل عارف واقف.
وقال لى: فإن العارف كالمَلِك يبنى قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلَّى عنها.
وقال لى: المعرفة نارٌ تأكل المحبة.
وقال لى: من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل».
وقد يبدأ «النفَّرى» «الوقفة» بشرح الحالة والظرف الذى يكون عليه قبل أن يبدأ قول أو مخاطبة الهاتف الذى يأتيه من الملكوت الأعلى، قبل أن ينطق ب«قال لى» وهو ما يمكن أن نضرب عليه مثلا فى «الوقفة 16» وعنوانها «موقف من الموت»، والتى تأتى على النحو التالى:
«أوقفنى فى الموت فرأيت الأعمال كلها سيئات، ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء، ورأيت الغنى قد صار نارا ولحق بالنار، ورأيت الفقر خصما يحتج، ورأيت كل شىء لا يقدر على شىء، ورأيت الملك غرورا، ورأيت الملكوت خداعا، وناديت يا علم، فلم يجبنى، وناديت يا معرفة فلم تجبنى، ورأيت كل شىء قد أسلمنى، ورأيت كل خليفة قد هرب منى، وبقيت وحدى، وجاءنى العمل فرأيت فيه الوهم الخفى والخفى الغابر، فما نفعنى إلا رحمة ربى، وقال لى أين علمك؟ فرأيت النار.
وقال لى: أين عملك فرأيت النار.
وقال لى: أين معرفتك، فرأيت النار. وكشف لى عن معارفه الفردانية، فخمدت النار.
وقال لى: أنا وليك فثبت.
وقال لى: أنا معرفتك فنطقت.
وقال لى: أنا طالبك، فخرجت».
أما المخاطبات فتختلف عن «الوقفات» إذ يختفى فيها الوسيط، الذى يتلقى الهاتف من الملكوت الأعلى، ويذهب الخيال إلى أن الله يخاطب الإنسان مباشرة، فى صيغة تشبه ما توصف بأنها «أحاديث قدسية». ويمكن هنا أن نعرض اثنتين من هذه المخاطبات، الأولى هى الثامنة، وتقول:
- يا عبد من لم يستح لزيادة العلم لم يستح أبدا.
- يا عبد لا تتصرف فيك أخدمك كل شىء على عين ترعاه من حسن الاختيار.
- يا عبد، إن أردت أن تنظر إلى قبح المعصية فانظر إلى ما جرى به الطبع، وحالفه الهوى.
- يا عبد، علامة مغفرتى فى البلاء أن أجعله سببا لعلم.
- يا عبد، جعلت لكل شىء وجها، وجعلت فتنته فى وجهه، وجعلت وجهك وجدك بك، ووجه الآخرة ما عاد عليك، وأمرتك بالغض عن كل وجه لتنظر إلى وجهى، وأنت بينك وبين سببك واختيارى، ولا أنت ولا سببك، وأنا ولا ظهور اختيارى لك ولا فيك.
- يا عبد، عبدى الأمين علىَّ هو الذى رد سواى إلىَّ».
أما المخاطبة الثانية التى اخترتها فى هذا المقام لطرح الدلالة على ما ذكرته فهى العاشرة، والتى تأتى على النحو التالى:
«يا عبد، كم شىء دفعته بيدك جعلته رزقك، وكم ثبتت يدك على رزق هو لغيرك، فكن عندى وانظر إلىَّ كيف أجرى القسم ترى العطاء والمنع اسمين لتعرفى إليك.
- يا عبد، مبلغك من العلم ما به تطمئن.
- يا عبد، حاجتك ما يقلبك عن الحاجة.
- يا عبد، كيف تستجيب لعلمك وأنا الرب؟
- يا عبد، ما منعتك لضنى عليك، وإنما منعتك لأعرض عليك الجزء المبتلى منك، لتعرفه، فإذا عرفته، جعلته سببا من أسباب تعرفى إليك، فسويت بين الاختلاف والائتلاف، فرأيتنى وحدى، وعلمت أننى لك أظهرت ما أظهرت، ولك أسررت ما أسررت.
- يا عبد، لو علمتك ما فى الرؤية، لحزنت على دخول الجنة.
- يا عبد، ما أنت بعامل فى الرؤية إنما أنت مستعمل.
- يا عبد، قم إلىَّ لا إلى مسافة تقطع بضعفك، ولا حاجة تعجز فقرك.
- يا عبد، عذرتك ما بقى العلم فى لا وبلا.
- يا عبد، لا أرفع العلم عذرتك على كل حال.
- يا عبد، قم إلىَّ، تتبع سببا مواصلا.
- يا عبد، قم إلىّ أعطك ما تسأل، لا تقم إلى ما تسأل، أحتجب ولا أعطى.
- يا عبد، كيف أنت إذ ندبت، كذلك أنا إذا دعوت.
- يا عبد، تحذيرا وحكمة مقام، أنا رؤوف بك أين فلت، وأنا المقيل لك أين عثرت.
- يا عبد، ألم ترنى لم أرضك لشكرى، ولا ذكرى، حتى أشهدتك رؤيتى فكان وراء ظهرك، إنما اصطفيتك لنفسى، وارتضيتك لرؤيتى، لكن طبعتك على الغيب عنى، فرقا بينى وبين مداومتى، فإذا رجعت إلى الغيبة، فما رجعتك عن رؤيتى لك، وإنما رجعتك عن رؤيتى لى. هناك جعلت لك الغيبة مسرحا، فاذكرنى فيها بذكرى الذى أحببت أن أذكرك به، فإنى لا أقفك فى الغيبة، ولا أرضى بمثواك فى العبادة، فانصبها لك أبوابا وطرقا، أوصلك منها إلى الرؤية، فإذا رأيتنى أحرقت ما جئت به».
وبعد حياة تلفها الغموض توفى «النفَّرى» فى عام 375 ه/965 م، كما ذكره التلمسانى الشارح لكتاب المواقف والمخاطبات على هامش الغلاف من المخطوطة المصرية، ويبين أنه توفى فى القاهرة، لكنه لا يجزم بذلك، مكتفياً بالقول: «الله العالم فى مماته».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.