كتبت من قبل أن النخب العلمانية هي مكون رئيس من مكونات الاستبداد بدعوى الحداثة والتنوير والديمقراطية، لأنها وافدة مغتربة في بلادنا ومنقطعة عن الفضاء الشعبي والسياق الثقافي الحضاري لمجتمعنا ولا جذور لها في أرضنا، فيلزم فرضها بالعسف والاستبداد أو التحالف مع المستبد لضمان امتلاك أدوات السيطرة والإخضاع الأمنية والإعلامية الكافية لفرض رؤيتها بقوة السلطة والدبابة والمعتقل، بدلاً من الشرعية الشعبية التي فشلوا في الحصول عليها! وبذلك تنتج لنا التجربة في النهاية علمانية سلطوية واستبداد حداثي، يبرر للسلطة قبضتها الأمنية وسلطويتها السياسية واستئثارها بالمجال العام. لكن الأهم الآن في بلادنا هو تحالف النخب العلمانية مع العسكر وتحريضهم بشكل صريح وخسيس على الإنقلاب من أجل منع «الإسلاميين» من الوصول للسلطة، وامتلاك مقاليد الأمور؛ أو تحجيم وجودهم وتقليص صلاحياتهم إلى الحد الأقصى بما يضمن ألا يكون لهم دور حقيقي في اتخاذ وإنفاذ القرار السياسي، ولا عزاء للسيدة «ديمقراطية»! التجارب التاريخية ماثلة ومتواترة ومتكررة بالنسبة لهذه العلمانية السلطوية العسكرية من تركيا الأتاتوركية، والجزائر الشاذلية، وإيران البهلوية، وأفغانستان أمان الله خان، وتونس بورقيبة وبن علي، ومصر الجمهورية، وسوريا العراق البعثيتين. والقائمة تطول والنموذج يتكرر! ولأن العسكر—ورثة الجيوش الاستعمارية ووكلاء القوى الدولية ونوابها لحفظ وضمان مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية— ينوب عن الاحتلال المباشر المكلف في أداء دوره مقابل الاحتفاظ بالسلطات والامتيازات الاقتصادية والسياسية وضمان وجوده في النظام والمعونة! ونظرا لأن هؤلاء العسكر يحتاجون واجهة مدنية تبرر ممارستهم الانقلاب بدلاً من الصيغة التقليدية لنزول الدبابات إلى الشوارع، فإن الإخوة العلمانيين لم يقصروا يوماً في أداء هذا الدور بامتياز واحتراف واقتدار بالغ، بل زايدوا وبدأوا بالمطالبات الانقلابية والوصائية قبل أن يطرحها عليهم العسكر أنفسهم، كما فعل أعضاء المجلس الاستشاري، تماما كما فعلت النخبة الجزائرية العلمانية حين ناشدت الجيش التدخل لحماية مدنية الدولة (!) وللانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية التي ستصل بالإسلاميين الظلاميين المتطرفين للسلطة، وبجعل الجيش وصيا على الحياة السياسية. فتطوع حينها لتنفيذ هذه المهمة الوطنية النبيلة، ولا يهم بعد ذلك نزيف الدماء وآلاف الشهداء في سبيل مدنية الدولة!