قال المحلِّل السياسي المصري أحمد تهامي، الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن القرار التركي بتخفيض التمثيل الدبلوماسي الإسرائيلي في أنقرة إلى درجة سكرتير ثانٍ وتعليق الإتفاقيات العسكرية مع إسرائيل، هو قرار جريء، تأخَّر تنفيذه لمدة طويلة من أجل إعطاء الفرصة للأمريكيين للتدخُّل والضغط على الطرف الإسرائيلي، لتقديم الإعتذار المطلوب كي يحفظ ماء الوجه للدولة التركية"، مشيرا إلى أن "العلاقات الدبلوماسية لا تعكِس حقيقة علاقة التعاون والصِّراع من المنظور الاستراتيجي". وقال تهامي، الباحث الملتحق ببرنامج الدكتوراه في كلية الحكومات والعلاقات الدولية بجامعة درهام بالمملكة المتحدة: "الفرض الأكثر احتمالا، هو اشتداد الصِّراع على مناطق النفوذ بين البلدين، وقيام تركيا بمحاولات لحصار إسرائيل سياسياً من خلال تعزيز التعاون مع مصر ومحاولات فكِّ الحصار عن غزّة ودعم الحوار الفلسطيني/ الفلسطيني"، معتبرا أن "هناك سيناريو التصعيد والتوتر في العلاقة بصورة تشبِه الحرب الباردة بين القوتين الإقليميتين، إذا استمرت سياسة العناد فيما بينهما". وأضاف تهامي: "السياسة التركية تجد صدىً قوياً في الشارع العربي والإسلامي، بما يُعيد تقديم تركيا كقائدة للمنطقة، ليس فقط في مواجهة إسرائيل، ولكن كحائط صدّ ضدّ الزّحف الشيعي على منطقة المشرق العربي"، موضحًا أن "استقرار الوضع الداخلي التركي، على الصعيد المؤسساتي والاقتصادي، هو الرّكيزة الأساسية التي تفسر جرأة وإقدام القيادة التركية على اتخاذ قرارات بهذا الثقل في هذا الملف الشائِك والخطير". مزيد من التفاصيل في نص الحوار التالي. *كمحلِّل سياسي.. كيف تقرأ القرار التركي بطرْد السفير الإسرائيلي من أنقرة وتعليق الاتفاقيات العسكرية؟ أحمد تهامي: من ناحية توصيف القرار، فهو قرار جريء فِعلا ويعكس ذروة التوتُّر في العلاقات التركية الإسرائيلية. فقرار طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، أشد تأثيرا من قرار سحْب السفير التركي من تل أبيب. وتُعَد خطوة طرد السفير، من أعلى القرارات وأخطرها، من المنظور الدبلوماسي. فإذا أضفنا إلى ذلك تعليق الاتفاقات العسكرية، فإنه يعني انتهاء حِقبة تاريخية كاملة من التعاون العسكري والدبلوماسي بين البلدين، الذي وصل ذروته بالمناورات العسكرية المشتركة والسماح للطيران الإسرائيلي بالتحليق والتدريب في الأجواء التركية في فترات سابقة. *وماذا عن توقيت صدور القرار التركي؟ أحمد تهامي: التوقيت مُرتبط بتقرير اللجنة الدولية التابعة للأمم المتحدة التي أصدرت تقريراً بارداً بدا وكأنه يصب في صالح الجانب الإسرائيلي، ويمكن القول أن القرار قد تأخر تنفيذه لمدة طويلة من أجل إعطاء الفرصة للأمريكيين للتدخُّل والضغط على الطرف الإسرائيلي لتقديم الإعتذار المطلوب، كي يتم حِفْظ ماء وجه الدولة التركية، وهو ما آل في النهاية إلى الفشل. وحول التوقيت وأسبابه أيضاً، يمكن إضافة عاملين آخرين مهمَّين: أولهما، حصول القيادة التركية على مزيد من القوة والنفوذ بعد إزاحة كبار القادة العسكريين من قمة الجيش التركي، بصورة وحَّدت قرار صُنع السياسة الخارجية في يَد حزب العدالة والتنمية ممثلة في رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزير الخارجية. ثانيهما: الإستفادة من التوتر الإقليمي المتزايد في المنطقة من أجل ممارسة الضغوط على إسرائيل، خصوصاً في موضوع غزة والتوتر المصري الإسرائيلي المتصاعد في أعقاب عملية إيلات. *وهل تعتقد أن مصر يمكنها أن تتَّخذ قرارا شجاعا مثل هذا؟ ولماذا؟ أحمد تهامي: السياسة الخارجية المصرية تُعاني من فقدان البَوْصلة وغياب القدرة والإرادة على اتخاذ قرارات جريئة ومهمّة في كل ملفات الأمن القومي، وقد ظهر ذلك في ضُعف الموقف المصري في مساندة الثورة الليبية أو السورية، رغم أهميتها البالغة للعمق الاستراتيجي المصري، وذلك على عكْس السياسة التركية التي تميّزت بالديناميكية والحيوية والجُرأة في اتخاذ المواقف. كما تبدو السياسة المصرية مُرتبِكة وفاقدة لنقطة التوازُن بسبب طبيعة السلطة الانتقالية الحاكمة وعدم وجود صلاحيات أو شرعية شعبية حقيقية لها، كما تعاني من تضارب في اتخاذ القرارات والتوجهات، ظهر في قضية سحب السفير المصري من تل أبيب، وهي خطوة أقل قوة بكثير من الموقف التركي. ويبدو أنه على المصريين الانتظار والترقُّب، حتى يتم تشكيل حكومة ذات شرعية منتخبة يمكنها أن تتخذ قرارات إستراتيجية، مثل الحكومة التركية. *برأيك ما هي احتمالات تطوّر الموقف بين أنقرة وتل أبيب؟ أحمد تهامي: بالتأكيد، هناك سيناريو التصعيد والتوتر في العلاقة بصورة تُشبه الحرب الباردة بين القوتيْن الإقليميتين إذا استمرت سياسة العناد فيما بينهما، وخصوصاً أن الدولة التركية لا تزال تشعُر بجرح غائِر في كرامتها، وقد يتطوّر الأمر إلى مواجهات عسكرية محدودة في البحر المتوسط بين دوريات بحرية تركية والأسطول الإسرائيلي حول موضوع غزة وحقول الغاز في المتوسط. وفي المقابل، هناك سيناريو التَّهدئة وضبط النفس، خصوصاً وأن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يسمحا بتطوّر الأمور على هذا النحو العصيب، وبالتالي، تكون هناك ضغوط خارجية علي البلدين للوصول إلى تسوية ما، تحفظ ماء الوجه التركي وتضمن أن لا تتأذى إسرائيل من هذا النِّزاع، خصوصاً في ظل توتر الأجواء الإقليمية وانفتاح المنطقة على كل الاحتمالات. *وإلى أي مدىً يُمكن أن تتطوّر الأحداث؟ أحمد تهامي: حالياً، أعتقد أن تركيا تتَّبع سياسة "حافة الهاوية" مع إسرائيل، وهي (تركيا) في وضع إقليمي أفضل الآن منذ عامٍ مضى، ويُراود السياسيين الأتراك تصوُّر أن إسرائيل ينبغي أن تذْعن للضغوط التركية في ظل تغيُّرات البيئة الإقليمية الجديدة، التي لا تعمل في صالح إسرائيل، ولذلك، سيُمارسون الضغط بكلّ قوة، ولكن ليس هناك ضمان بأن تنتهي الأمور وِفقاً للسيناريو التركي، أي تحقيق كامل الأهداف، دون خسائر. وعلى المدى البعيد، يُدْرك الأتراك أنهم يستفيدون من تصاعُد التوتر مع إسرائيل، باعتباره تأكيد على هوية الدولة وعمقها التاريخي المتمثل في الدولة العثمانية، التي كانت تقوم بحماية شعوب المنطقة، وهذه السياسة تجِد صدىً قوياً في الشارع العربي والإسلامي، بما يُعيد تقديم تركيا قائدة للمنطقة، ليس فقط في مواجهة إسرائيل، ولكن كحائط صدّ ضد الزّحف الشيعي على منطقة المشرق العربي، وهذا كفيل بتحقيق الكثير من المصالح والمكاسب السياسية والاستراتيجية والمعنوية، بصورة تُعوِّض خسارة الحليف الإسرائيلي القديم، ولكن يبقي العامل الأمريكي بالتّحديد، باعتباره القيد الأهم والقادر نسبيا على لجْم جماح الدبلوماسية التركية. وبالطبع لدى إسرائيل أيضاً بعض أدوات الضغط، التي يمكن أن تستخدمها ضدّ تركيا، خصوصاً في الملف الكردي، وعلاقتهم بحزب العمال الكردستاني وأكراد شمال العراق، كما أن الوضع في سوريا يحد من التطلُّعات التركية في الوقت الرّاهن، لأن تركيا لا يمكنها أن تخُوض غِمار صراعين خطريْن، أحدهما على حدودها البرية مع الجارة سوريا، والآخر في البحر مع إسرائيل. *وهل يمكن أن تصل الأمور إلى حدّ قطع العلاقات الدبلوماسية تماما بين البلدين؟ أحمد تهامي: لا أعتقد أن العلاقات الدبلوماسية ستكون الموضوع الأكثر إثارة في العلاقة بين البلدين، ولكن نقاط التنافس والصراع في المنطقة، والتي يمكن أن تصل إلى نوْع من الحرب الباردة، حتى لو استمرت العلاقة الدبلوماسية قائمة كمجرّد قنوات اتِّصال. وفي هذا الصدد، يلاحَظ أن العلاقات الدبلوماسية لا تعكس حقيقة علاقة التعاون والصِّراع من المنظور الإستراتيجي. ففي ذروة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، كانت العلاقات الدبلوماسية قائمة، رغم إمكانية وصول الصراع في بعض الأحيان إلى حالة الحرب الشاملة، ولكن الأكثر احتمالا هو اشتِداد الصراع على مناطق النفوذ وقيام تركيا بمحاولات لحصار إسرائيل سياسياً، من خلال تعزيز التعاون مع مصر ومحاولات فكّ الحصار عن غزة ودعم الحوار الفلسطيني. *وهل يمكن أن تضحّي تركيا بهذه العلاقات الاقتصادية الضخمة، سواء في القطاع العسكري أو المدني، من أجل إصرار إسرائيل على عدم الاعتذار لتركيا؟ أحمد تهامي: القضية ليست مجرّد اعتذار دبلوماسي، ولكن الجرح الغائر الذي أصاب الدولة التركية وطموحها السياسي، الذي يصطدم بالضرورة مع مصالح اسرائيل، ولذلك، فالمسار العام للعلاقات في ظل الشروط الحالية، هو مزيد من التوتر والتصعيد، إلا إذا تدخلت أمريكا بقوة للضغط على إسرائيل لتقديم اعتذار، يرتبط بالسماح لتركيا بممارسة دوْر أكبر في المنطقة، وخصوصا في ملف غزة. وقد يكون التمهيد لذلك، هو تغيير الحكومة الإسرائيلية الحالية لصالح حكومة إسرائيلية جديدة أكثر اعتدالا في سياستها الخارجية، وربما يكون ذلك هو الحل المؤقت لتهدِئة الصراع في المدى القريب. وفيما يخص العلاقات الاقتصادية، أعتقد أن تركيا لديْها بدائل اقتصادية أهم، متمثلة في الأسواق العربية في الخليج ومصر وليبيا. فالرد يدور حول أن قضايا الكرامة والثأر ومصالح الأمن القومي، أهم من المصالح الاقتصادية، كما أن تركيا لديها بدائل في الملف الاقتصادي، ولكن نقطة الضعف ربما تكون في التقنيات العسكرية. *وماذا عن الرأي العام التركي.. هل تعتقد أنه سيقف مع القرار أو ضده؟ ولماذا؟ أحمد تهامي: الرأي العام التركي، هو مصدر قوة الحكومة التركية التي تستنِد على شرعية دستورية وانتخابية حقيقية، وهو السَّند الأساسي لأي تحرُّك تصعيدي تركي تُجاه إسرائيل، إلى جانب أن الحكومة قد ضمنت ولاء الجيش بعد تعيين قادة جُدد أكثر ولاءً للحكومة ولا يعملون ضدها، مثلما كان يجري الحال سابقا. فاستقرار الوضع الداخلي على الصعيد المؤسَّساتي والاقتصادي، داخلياً، هو الركيزة الأساسية التي تفسِّر جُرأة وإقدام القيادة التركية في هذا الملف الشائك والخطير.