قرار الحكومة الت ركية بطرد السفير الإسرائيلي لديها وتخفيض مستوي التمثيل الدبلوماسي لها في إسرائيل وتعليق كافة الاتفاقات العسكرية المبرمة بين الطرفين, احتجاجا علي تقرير اللجنة الأممية المعروفة باسم لجنة بالمر المكلفة بالتحقيق في أحداث الاعتداء الإسرائيلي علي السفينة التركية مافي مرمرة, التي شاركت في أسطول الحرية لكسر الحصار المفروض علي قطاع غزةالفلسطيني خلال العام الماضي وهو تقرير أدعي بمشروعية الحصار الإسرائيلي علي غزة أدخل العلاقات بين البلدين منعطفا جديدا من التأزم; فمنذ أن أعلن وزير الخارجية التركي داود أوغلو أن بلاده لن تقبل بأقل من الاعتذار الرسمي عن الاعتداء علي السفينة وما أسفر عنه من مقتل ناشطين أتراك, بدا واضحا أن أنقرة في سبيلها لاتخاذ إجراءات تصعيدية تجاه تل أبيب في حال تعنتها ورفضها الاعتذار; فالقرار التركي بهذا المعني يحمل مضامين وتداعيات عدة سواء علي مستقبل العلاقات بين البلدين خلال الفترة القادمة, أو علي مستوي سياسات الطرفين التركي والإسرائيلي تجاه التغيرات المتلاحقة التي أنتجها الربيع العربي والتي تدفعهما إلي ضرورة التكيف مع الخريطة السياسية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط. تخفيض أنقرة إذن لمستوي العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل, بغض النظر عن كونه رد فعل طبيعي علي تقرير اللجنة المكلفة بالتحقيق, ينطوي علي مغزي ومضمون استراتيجي محدد له عدة أبعاد بالنسبة للطرفين: الأول أن إسرائيل ترفض الاعتذار الرسمي عن الحادثة وتكتفي بالأسف عن وقوع ضحايا لأن الاعتذار الرسمي سيلحق أضرارا إستراتيجية بالموقف الإسرائيلي في المنطقة ككل; لأنه سيفتح المجال أمام مطالبات مماثلة عن كل جريمة ارتكبتها إسرائيل في حق الشعوب المجاورة لها وما يترتب عليها من تعويضات مالية, ناهيك عن احتمالية المساءلة الدولية عن تلك الجرائم وربما الملاحقة الجنائية لعناصرها المتورطة فيها وهو احتمال وإن كان نادر الحدوث في ظل الحماية الأمريكية المستمرة لإسرائيل, إلا أنه من الممكن الدفع به علي مستوي منظمات حقوقية دولية ليس لقراراتها صفة الإلزام ولكن علي الأقل قد تساهم إدانتها لإسرائيل في إضافة المزيد من العزلة عليها. الثاني دخول الحصار الإسرائيلي علي غزة دائرة النشاط الإقليمي لتركيا وبمعني أكثر تفصيلا استخدام تركيا أزمة قطاع غزة كمتغير فعال في علاقتها الثنائية مع إسرائيل استكمالا لموقفها من العدوان الإسرائيلي علي القطاع عام2008, خاصة بعد أن لوح داود أوغلو بإمكانية عرض مشكلة الحصار علي المحكمة الدولية, الأمر الذي يعمق من حدة الخلاف بين الجانبين, لكنه في الوقت نفسه يوفر لتركيا سمعة إقليمية طيبة لدي الشعوب العربية المتطلعة إلي تغيير جذري في السياسات العربية تجاه إسرائيل. إذن تسعي تركيا في الوقت الحالي إلي البحث عن دور إقليمي عبر بوابة غزة, مما يجعل موقفها من الحصار يخرج من نطاق توصيفه بالالتزام الأخلاقي لقضايا تدخل في مجال اهتمام العثمانية الجديدة وإرثها التاريخي في بعده العربي ليدخل في نطاق توصيفه بالصراع أو التنافس الإقليمي علي دور أكثر حضورا في قضايا المنطقة بما يخدم المصالح التركية خاصة بعد فقدان البوابة العربية التي كانت تنفذ منها أنقرة للمنطقة وهي البوابة السورية, واضطرارها للتخلي عنها تحت ضربات الحركات الاحتجاجية الواسعة التي عمت أرجاء سوريا طوال الشهور الماضية, وهو ما ساهم في دفع أنقرة إلي إعادة طرح نفسها علي الوجود العربي عبر فلسطين التي تعد قضية العرب الأولي مستغلة أيضا حالة اللاتعافي التي لمازالت تعاني منها الثورة المصرية باعتبار مصر أكثر الدول العبية تحملا لمسئوليات الملف الفلسطيني. الثالث أن تركيا بالرغم من تخفيض مستوي التمثيل الدبلوماسي لها في تل أبيب والتهديد بإجراءات أخري متتابعة لا تزال حريصة علي تفادي وصول علاقتها بإسرائيل إلي مرحلة الانهيار الكامل, فثمة مؤشرات عدة تحكمت في كبح حالة التصعيد التركي تجاه الحليف الإسرائيلي القديم, منها علي سبيل المثال لا الحصر حالة التخبط في السياسة الخارجية التركية تجاه الثورات العربية وعلي الأخص الثورتان السورية والليبية وهي حالة فرضتها علي تركيا الضغوط الأمريكيةوالغربية وفقا لمجموعة من الضوابط التي لجمت من خلالها الولاياتالمتحدة والدول الغربية موقف التصعيد التركي تجاه إسرائيل, وبمقتضاها نجحت في إقصاء أنقرة عن المشاركة في أسطول الحرية الثاني, بل ونجحت في إظهار أنقرة بأنها الوكيل الأمريكي الذي بمقدوره توصيل رسائل الولاياتالمتحدة للنظام السوري القمعي, أيضا تلويح أردوغان بزيارة قطاع غزة المحاصر في حالة استمرار الرفض الإسرائيلي للاعتذار يوحي بما لا يدع مجالا للشك أن الموقف التركي من القضية الفلسطينية لا يتعدي كونه موقفا محكوما بمصالح تركيا الإقليمية, وأن قضية فلسطين ليست سوي ورقة ضغط ومساومة تستخدمها تركيا وقت الحاجة إليها وليست تعبيرا عن موقف مبدئي من القضية نفسها. ما سبق يوضح أبعاد المأزق الذي تمر به مسيرة العلاقات الإسرائيلية التركية, فماذا عن تداعيات ذلك علي الطرفين؟ هنا يمكن رصد تداعيات عدة: أولها أن المجتمع الإسرائيلي بات يري في السياسات الخارجية لحكومته اليمينية المتشددة مصدرا جالبا لمزيد من العزلة الدولية خاصة بعد استمرار نزيف فقد إسرائيل لأصدقائها في المنطقة إما بفعل الثورات العربية أو بفعل سياستها المتطرفة, وهو ما يثير تخوفات لدي المجتمع الإسرائيلي من قيام العديد من الدول العربية برفع سقف طموحاتها في التعامل مع إسرائيل خلال الفترة القادمة, لاسيما تلك الدول التي تشهد حالة غليان شعبي وثورات مستعرة كالحالة المصرية خاصة بعد تعرض الحدود المصرية مع إسرائيل لعدوان مشابه لما تعرضت له السفينة التركية. ثانيها أن موقف تركيا سيقوي ويوسع من هامش حركة الجانب الفلسطيني الذي بإمكانه تكثيف جهوده أولا علي مستوي استكمال المصالحة الوطنية وتوحيد الجبهة الداخلية في مواجهة محاولات إسرائيل والولاياتالمتحدة لإفشالها, وتكثيف جهوده ثانيا علي مستوي توظيف القرار التركي وتداعياته علي العلاقات مع إسرائيل في التنسيق مع الدول العربية الفاعلة لحشد المجتمع الدولي تجاه فك الحصار اللا إنساني عن قطاع غزة المحتل من ناحية, وكسب المزيد من الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية خلال استحقاق سبتمبر في الأممالمتحدة من ناحية ثانية. ثالثها أن إسرائيل باتت تتحسب لنتائج مخاض موجة ثورات الربيع العربي خاصة في سوريا لما لها من انعكاس مباشر علي تركيا, ومن ثم علي علاقات الطرفين; لأن ازدياد قوة الموقف التركي في مواجهة النظام السوري من شأنه خلق تداعيات إقليمية لصالح إسرائيل; حيث يمثل سقوط النظام السوري إضعافا مباشرا للدور الإقليمي لإيران التي كانت تعتمد اعتمادا مباشرا علي سوريا في توظيف ذلك الدور علي مستوي المنطقة العربية, ومن ثم فإن إضعاف النظام السوري أو سقوطه يدعم الموقف الإسرائيلي في أية مفاوضات بشأن الجولان ويقلل من عبء أية مواجهة إقليمية محتملة مع إيران, ومن هنا فإن إسرائيل تستفيد استفادة مباشرة من التصعيد التركي في مواجهة سوريا, لأن أية انفراجة علي مستوي العلاقات التركية السورية المتأزمة حتي ولو كانت بسيطة من شأنها أن تعزز مناعة النظام السوري في مواجهة الضغوط الدولية وتمكنه من الخروج من أزمته الراهنة, الأمر الذي يفرض علي إسرائيل ضرورة رأب الصدع مع أنقرة التي يساهم موقفها من نظام الأسد في دعم مباشر لوضعها الإقليمي. يتضح مما سبق عرضه أن تداعيات التصعيد التركي في مواجهة إسرائيل من شأن إحداث قدر من التغيير في المشهد الإقليمي خاصة في حالة اتساع نطاق الخلاف بمدييه الزمني والنوعي بين الطرفين, وهو احتمال من الممكن حدوثه إذا ما أصبحت الأزمة بين الطرفين أزمة مفتوحة دون حل, وهو أمر في الوقت نفسه يزيد من القدرات المعنوية للدول العربية مقابل فقدان إسرائيل لحلفائها في المنطقة, فهل بإمكان الدول العربية الاستفادة من تغير المشهد الإقليمي في المنطقة خلال الفترة القادمة لصالحها أم ستظل سياساتها حبيسة توجهات وإملاءات خارجية لتقويض أية توجهات من شأنها معارضة المصالح الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة؟.