التعليم العالي: تقدم 28 جامعة في تصنيف التايمز العالمي للجامعات الناشئة 2024    طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان العلوم    المجلس الأعلى للحوار الإجتماعي يستكمل جلساته برئاسة وزير العمل    «الصحفيين» تدعو قيادات الصحف للاجتماع التحضيري للمؤتمر العام الثلاثاء المقبل    مفتى الجمهورية: الالتزام بالقوانين المنظمة للحج ضمن شرط الاستطاعة ويجب عدم مخالفتها    برلماني عن قانون إدارة المنشآت الصحية: من فشل في الإدارة لن يكون كفء في الرقابة    توريد 200 ألف طن من محصول القمح لصوامع البحيرة    وصول 96 ألف طن قمح على متن سفينتين لصالح هيئة السلع التموينية والقطاع الخاص    مؤتمر أخبار اليوم العقاري | أحمد العتال: أسعار العقارات لن تنخفض خلال الفترة القادمة    الرئيس السيسي يهنئ نظيره التشادي بفوزه في الانتخابات الرئاسية    محمد حمزة يهزم لاعب التشيك ويضمن ميدالية لمصر في بطولة الجائزة الكبرى لسلاح الشيش    وسام أبوعلي: سنقاتل للفوز بدوري أبطال أفريقيا    مصدر من نادي إينتراخت فرانكفورت يكشف ل في الجول مصير عملية مرموش الجراحية    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    إصابة طالبة بإعدادية الأزهر بالزائدة الدودية في الشرقية    أمن الجيزة يضبط طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء داخل مدرسة بفيصل    متى تبدأ العشر الأوائل من ذي الحجة 1445 وما الأعمال المستحبة بها؟    السجن 3 سنوات ل حارس عقار و2 آخرين بتهمة «السرقة بالإكراه» في منطقة التجمع الخامس    «دراما الشحاذين» يستهل فعاليات المهرجان الختامي لنوادي المسرح ال31    خفة ظله «سر» شهرته.. ذكرى وفاة الفنان حسن مصطفى    تعرف على النجم الأقل جماهيرية في شباك تذاكر أفلام السينما السبت    «القومي للبحوث» يوجه للأمهات بعض النصائح للتعامل مع الجدري المائي    نصائح مهمة من «الصحة» بسبب الطقس الحار.. تجنبوا الخروج واغلقوا النوافذ    الوقوف فى طابور وحفر المراحيض وصنع الخيام..اقتصاد الحرب يظهر فى غزة    ولي العهد السعودى يبحث مع مستشار الأمن القومى الأمريكى الأوضاع فى غزة    أوكرانيا: القوات الجوية تسقط 37 طائرة روسية دون طيار    المصرين الأحرار عن غزة: الأطراف المتصارعة جميعها خاسرة ولن يخرج منها فائز في هذه الحرب    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    إصابة 4 مواطنين فى مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    رئيس النواب: القطاع الخاص لن يؤثر على تقديم الخدمة للمواطن أو سعرها    رئيس جهاز السويس الجديدة تستقبل ممثلي القرى السياحية غرب سوميد    وزير المالية: حريصون على توفير تمويلات ميسرة من شركاء التنمية للقطاع الخاص    وزيرة التضامن الاجتماعي تشهد إطلاق الدورة الثانية لملتقى تمكين المرأة بالفن    عماد الدين حسين: تعطيل دخول المساعدات الإنسانية لغزة فضح الرواية الإسرائيلية    توقعات الأبراج 2024.. «الثور والجوزاء والسرطان» فرص لتكوين العلاقات العاطفية الناجحة    وزيرة التضامن تلتقي بنظيرها البحريني لبحث موضوعات ريادة الأعمال الاجتماعية    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    ترامب ينتقد بايدن مجددًا: «لا يستطيع أن يجمع جملتين معًا»    صور| باسم سمرة ينشر كواليس فيلمه الجديد «اللعب مع العيال»    وزير الصحة: التأمين الصحي الشامل "مشروع الدولة المصرية"    طريقة عمل الكمونية المصرية.. وصفة مناسبة للعزومات    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    الأمور تشتعل.. التفاصيل الكاملة للخلافات داخل مجلس الحرب الإسرائيلي    رفع اسم محمد أبو تريكة من قوائم الإرهاب    بيت الأمة.. متحف يوثق كفاح وتضحيات المصريين من أجل استقلال وتحرير بلادهم    رئيس النواب يفتتح أعمال الجلسة العامة    إقبال الأطفال على النشاط الصيفي بمساجد الإسكندرية لحفظ القرآن (صور)    «البحوث الإسلامية» يوضح أعمال المتمتع بالعمرة إلى الحج.. «لبيك اللهم لبيك»    أسعار الدولار اليوم الأحد 19 مايو 2024    كيف تستمتع بنوم عميق في الطقس الحار؟    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    تعليق غريب من مدرب الأهلي السابق بعد التعادل مع الترجي التونسي    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نتائج وإضافات لمفهوم التنمية المستقلة الاجتماعية–الاقتصادية
نشر في التغيير يوم 15 - 01 - 2012


1- نقد مفهوم التحديث :
مفاهيمهم في الغرب عن التنمية الاقتصادية – الاجتماعية يسعون إلي نشرها عندنا تحت اسم التحديث... ومفهوم التحديث يتضمن أن الحديث والتقدم هو الحضارة الغربية، وعملية التحديث هي بالتالي محاولة الدولة التابعة لكي تكون قطعة من الغرب، أو قطعة من أوروبا – حسب التعبير الشهير للخديوي إسماعيل – وقد ابتلع الكثيرون منا هذا الطعم، وأصبح كل من يقول غير هذا – في نظر هؤلاء – جاهلاً أو مختلفًا. في دراسة ميردال مثلاً نجد أنه افترض في " الدراما الآسيوية " أن التحديث هو الهدف الطبيعي والملهِم، وتَتَبع واقعياً ومنطقيًا الخطوات المطلوبة لتحقيق قيم التحديث، ولكنه لاحظ بعد أن فرغ من عمله الكبير أن " مُثُل القومية هل أسهل المثُل انتشارًا بين الجماهير في الأقطار المختلفة، بالمقارنة مع كل مُثُل التحديث الأخرى "، ولكنه لم يتوقف طويلاً أمام هذه الملاحظة المهمة، والتي كان ممكنّا أن تعدل كثيرًا في تحليلاته وتركبياته، فالتعمق في هذه الملاحظة كان يربط إعادة بناء الأمة Restructuring بالروح القومية – في المقام الأول – وإذا رُبطت إعادة البناء بروح قومية عريقة تتصدى للسيطرة الخارجية (وهذا متسق تمامًا مع المضمون المركب الاستقلال) سيضيف ذلك ويحوّر فيما يسمي بقيم التحديث. فشرح ميردال (وغيره طبعًا) لقيم التحديث يقتصر على العقلانية – تخطيط التنمية – زيادة الإنتاجية – المؤسسات والتصرفات المناسبة... الخ، ولكن ننسى في مثل هذا الحصر أهم قيمة لازمة للنهوض وهي الثقة بالنفس قِبَل الدول المسيطرة، هذه القيمة هي بالفعل الأهم بمنطق التنمية المستقلة، إذا سلمنا بحقيقة أن الجماهير لا تندفع بكل طاقاتها – وعن حس فطرى سليم – إلا في إطار بعْث قومي أصيل في مواجهة التحديات الخارجية القوية.
إن انتزاع الاستقلال الاقتصادي لا يمكن تحقيقه إلا إذا توفر جو من الثقة بالنفس وإلا إذا زالت الرهبة عن " أنصاف الآلهة " أبناء الدول المسيطرة، وإلا إذا انبعث الإبداع الذاتي للأمة، وإلا إذا أصبحت هناك جرأة في اتخذا الموقف النقدي أو الرافض من النصائح الخارجية، إذا تعدت هذه الجرأة الموقف من التكنولوجيا الملائمة أو أولويات المشاريع، إلي نظرية التنمية الاقتصادية كلها، وإلي هدفها الرئيسي، وسينعكس هذا بالضرورة في تحديد نمط الاستهلاك المستقل والملائم.
إن استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية هي استراتيجية لتنمية اقتصادية مستقلة أو لتنمية اقتصادية متمركزة حول ذاتها، وإذا كانت عملية التنمية عملية مركبة، فإن هذه التنمية المركبة (بمكوناتها الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية) هي أيضًا تنمية مركبة متمركزة حول ذاتها، أو هي نهضة شاملة تنبعث من قلب الأمة، ولك هذا لا يتساوى طبعًا مع مفهوم التحديث (بمضمونه السائدِ) ولذا لجأ البعض إلي استخدام " التحديث المؤصل " (أنور عبد الملك) ولكن من الأفضل أن تقول : " التجدد الذاتي " أي التجدد من داخل الأمة ومن داخل قيّمها، وهذا التجدد الذاتي – لا يغفل عما حوله، ولكن يتفاعل ويتمثل حسب قراره هو - أن التجدد الذاتي - الذي لا يغفل عما حوله – هو روح التنمية المستقلة المركبة. أو روح النهضة القومية الحضارية. وفي كل هذا نحن في الحقيقة نعيد اكتشاف ما قاله الرواد. فالأفغاني عاب على العثمانيين أيامه نفس ما نعيبه في أيامنا فقد " شيدوا عددًا من المدارس على النمط الجديد " وبعثوا بطوائف من شبابهم إلي البلاد الغربية ليحملوا إليهم ما يحتاجون من العلوم والمعارف والآداب، وكل ما يسمونه (تمدنّا) وهو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني (أي أن التمدن لا يكون حقيقة إلا إذا كان منبعثًا من داخل الأمة ومن التطور الطبيعي لمجتمعها) والتجديد الذاتي الذي ينتج " تمدنّا " أصيًلا يؤدي بالضرورة إلي صياغة (أو بعث) مراكز حضارية متباينة، تحدد نظرة إلي الكون والذات والآخرين، تختلف عن نظرة الحضارة الغربية، والربط بين المشروع القومي والاستقلال الحضاري هو بالتحديد ما يجعلنا نرفض بحزم مفهوم ومصطلح " التحديث ".
2- مفهوم الاستقلال الحضاري:
وقضية الاستقلال الحضاري تحتاج مزيداً من الاستطراد.
إن السؤال الخاص بالهدف الحضاري ليس غريباً على ترثنا الفكري الحديث، إذا لم نتجاهل أطروحات التيار الذي نرمز له بالأفغاني ومحمد عبده. ولكن القسم الغالب من نخبنا الحاكمة سياسياً وفكريًا استوعبته الحضارة الغربية بشكل أو آخر، فأزيح هدف الاستقلال الحضاري العربي، وحل محله مصطلح التحديث الذي يعني عند أصحابه أن نكرر ما فعله الغرب خطوة خطوة كي نصل إلي ما وصل إليه، فالحضارة الحديثة – في عرفهم – هي حضارة عالمية واحدة، وهي كل لا يتجزأ، وهي حضارة الغرب، وهدف الحداثة بالتالي يعني أن نكون قطعة من الغرب. كان هذا هو الجو السائد بحيث إن مفهوم التمايز أو الاستقلال الحضاري لم يكن ضمن ترسانتنا الفكرية أثناء ذروة المد القومي في الخمسينيات والستينيات ولكن الفكرة لقيت قبولاً متزايداً في السنوات الأخيرة، وإن ظل المفهوم غامضًا في أذهان الكثيرين، رغم التقبل المبدئي له. ولذا فإن الأمر يحتاج إلي مزيد من الجهد النظري المكثف من أجل تحديد المقصود.
وقد نفضل التعبير عن مفهومنا بمصطلح " الاستقلال الحضاري " لأن الحديث عن " المشروع الحضاري العربي " – في ظل المناخ السائد – قد يُفهم باعتباره مشروع العرب للّحاق بالحضارة الحديثة، أي مشروع حضارة غريبة يتكلم أهله العربية، وهذا اللّبس ينبغي أن يُستبعد. وأود أن أوضح أن مفهوم للحضارة يدخل فيه كل ما أبدعه ويبدعه البشر ويمارسه الإنسان لإشباع حاجاته المادية والكفرة والروحية، أي أن الحضارة عندي لا تقتصر على الإبداع الفكري والروحي فقط. وطبيعي أن مجمل الإبداع في المجالات المختلفة يتحقق عبر الزمن في مجتمع. وعند مستوى أقل من التجريد والتعميم نقول أن هذه العملية تحققت وتتحقق تاريخيًا داخل مجتمعات محددة، وفق تاريخ الإبداع الخاص بها، ووَفق الشروط البيئية المحددة. والمجتمعات التي حافظت على روابطها حتى تبلورت في مرحلة أو أخرى إلفي صيغة متمَاسكة نسميها أمة، كانت إنجازاتها الحضارية (بأنواعها وأشكالها كافة) متمحورة حول نفسها أي تطورت هذه الإنجازات إلي نسْق من المتغيرات تشكلت، وتشكلت علاقتها، على النحو الذي يحقق للمجتمع وَحدته.
وَفق هذا، لا نتصور اعترافًا بأمة بغير اعتراف بالإنجاز الحضاري التاريخي المتكامل لهذه الأمة، فأمه لا تنتج حضارة متكاملة خاصة بها لا يمكن أن تكون أمة، ومصطلح الاستقلال الحضاري هو تعبير عن هذا المفهوم، وهو لا يتنافى مع حقيقة التفاعل الدائم بين الحضارات. ولا مع حقيقة التشابه بين الملامح الحضارية لعدد من الأمم المتقاربة نتيجة كثافة خاصة في الروابط والتفاعلات فيما بيْنها، ولكننا لا نعتقد بوجود رابطة ضرورية وواقعية بين مرحلة النمو الاقتصادي في الغرب، وبين إمكانية التعديلات المطلوبة في النمّط الحضاري، ولذا لا نستنتج أن التوصل إلي هذه التعديلات حتمي (كما فعل ماركس) فقد يتعذر التعديل الكبير – في كل المجتمعات الغربية أو بعضها – في الوقت المناسب، لسبب أو آخر. والتعديل المطلوب هو = في كل الأحوال – معركة قاسية ينبغي على المجتمعات الغربية أن تخوضها باعتبارها معركة متميزة، رغم ارتباطها بإحداث تغييرات ملائمة في كافة الممارسات داخل المجتمع، وقد يؤدي فلها إلي انهيار النمط كله. وبمنجزاته العملية والاجتماعية الكبيرة كلها. ولكن سواء نجحت هذه المجتمعات أو فشلت لاستعادة ما فقدته أثناء الثورة الصناعية البورجوازية، فإن من واجبنا في الشرق أن نستخدم مدخلاً مختلفًا للبعث والنهضة، ونجاحنا في الاحتفاظ بالجواهر الإيجابي لتراثنا الحضاري القائم على التوازن بين الجوانب المادية والمعنوية، وإقامة مجتمع متقدم اقتصاديًا في هذا الإطار، هو إسهام فعلي لتقويم النمط الغربي (من خلال التأثير بنموذج ناجح)، وهو إسهام بالتالي في تطور البشرية بشكل عام.
إن هذا الكلام – إذا استطردنا وتعمقنا في بحثه – لن يبدو كموضوع إنشائي، ولكن قد يبدو كبيرًا على من كان في مثل حالنا، والحقيقة أنه ليس كذلك إلا بمقدار اعتبارنا التنمية الاقتصادية المستقلة مهمة يستحيل علينا تحقيقها، لأن القضيتين مرتبطتان، وكما يعتبر الاستقلال الحضاري كلامًا فارغًا بدون أساس اقتصادي متين، يعتبر تحقيق تنمية اقتصادية مستقلة وأصيلة محاولة عرجاء بدون استقلال حضاري.
3- معدل النمو ومتوسط الدخل :
إذا حددنا أن الهدف الرئيسي البعيد هو الاستقلال الحضاري، وإذا سلمنا بأن تبني هذا الهدف على نحو جاد يعني ثورة عميقة في كل جواب حياتنا فإن كافة سياسات التنمية لابد أن تصمم بحيث تتلاءم مع هذا كله، وتحتل التنمية الاقتصادية في ذلك موقعًا أساسيًا، فالحديث عن مشروع حضاري، مستقل يصبح لغوًا إذا لم يكن مدعومًا بقوة اقتصادية، وتواصُل التنمية بمعدلات عالية جزء لا يتجزأ من مركّب الهدف الرئيسي البعيد، ولكن هذا التصور المتكامل يتطلب إعِادة النظر في مفهوم واستخدام معيار متوسط داخل الفرد، وما يشبهه (أي متوسطات النصبة الكّمية للفرد من منتجات معينة أو خدمات) فهذا المعيار ما زال يستخدم – على نطاق واسع – باعتباره أداة القياس الرئيسية للتقدم، وبالتالي يكتسب معدل النمو أهميته الكبرى باعتباره وسيلة الانتقال من متوسط دخل أدنى إلي متوسط دخل أعلى، وتضمن هذا عادة فرض اقتراب بلد ما من امتلاك القدرة الذاتية على مواصلة النمو، ويتضمن بالتالي أمل تضييق الفجوة (ثم إلغائها) بين مستويات الدخول والمعيشة في الدولة " المختلفة " أو " النامية " وبين الدول " المتطورة ".
وتضييق الفجوة ثم إلغاؤها يساوي في الأدبيات الغربية (في الدول الرأسمالية والاشتراكية) أن عملية " التحديث " والتنمية قد تحققت في جوهرها، وهذا الاستخدام لمتوسط دخل الفرد ولمعدل النمو مرفوض تمامًا من ناحيتنا، لأنه لا يتسق مع مفاهيمنا عن التنمية المستقلة، وما تضمنته من استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية.
إن متوسط دخل الفرد وفق هدفنا الرئيسي البعيد ليس المعيار الرئيسي للتقدم والتخلف، فالمعيار الرئيسي هو الاستقلال أو التبعية (حضارياً وسياسياً واقتصادياً). وبالتأكيد فإن هذا المعيار الكيفي المركب لا يحمل أناقة وبساطة التعبير الكمي الممثل في معيار متوسط دخل الفرد، ولكن إذا كان المقصود التوصل إلي معيار أصدق دلالة،فإن معيارنا الكيفي أكثر كفاءة في تحديد الفارق الجوهري بين الدول التابعة والدول المستقلة أو الدول المسيطرة، وهو أكثر كفاءة في تحديد الإمكانات الديناميكية الكامنة في الاقتصادات المختلفة.
وحتى بالنسبة لقضية الفجوة بين متوسط دخل الفرد عندنا، وعند الدول المسيطرة، تكتسب هذه المعايير أهمية كبيرة (إذا تحقق شرط التنمية المستقلة) ضمانًا لاستمرارنا في تشغيل استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية، إننا نسقط الدلالة التفصيلية (أو الكمية) لحجم الفجوة التي تصل الدول التابعة المختلفة عن دول الشمال (نظرًا للعيوب الفنية العديدة التي تصاحب احتساب متوسط نصيب الفرد)، ولكننا نهتم بالدلالة العامة لوجود فجوة تعكس تفاوتًا حادّا في القدرة الاقتصادية، أي أننا نستفيد من هذه المعايير باعتبارها مؤشرًا لحالة كيفية خطيرة، وليست القضية أننا نسعى إلي سد هذه الفجوة بأي صمن، وليست القضية أننا نتطلع إلى نمط الاستهلاك والحياة في الشمال، ولكننا نقلق قطعًا مما تعينه هذه الفجوة الهائلة من التفوق العلمي والتكنولوجي الكاسح الذي يملكه الشمال، فالحرص على نمط حياة مستقل. أو على مشروع حضاري مستقل، لا يقلل أبداً من الحرص على امتلاك كل المعارف العلمية الحديثة، وعلى سد الفجوة في هذا المجال بالذات، وبأقصى سرعة ممكنة، فالتنمية الاقتصادية المستقلة يستحيل استمرارها بدون هذا المسعى لكسر احتكار المعرفة العلمية. إن أهدافنا من البناء الاقتصادي تختلف عن أهل الشمال، وأولوياتنا تختلف أيضًا حسب هذه الأهداف، وحسب مستوي القوى المنتجة، وكل ذلك يتطلب نظرة مستقلة في ابتكار واستخدام التكنولوجيا الملائمة، ولكن ينبغي في كل الأحوال أن نستهدف الوصول إلي مستوى القدرة التنكولوجية الذي يمكُننا من إنتاج أي شيء نحتاجه لإشباع حاجاتنا المستقلة المتنامية، أو للدفاع – عسكرياً – عن مشروعنا الحضاري ضد الهجمات الخارجية المحتملة، ولست في حاجة إلى التأكيد بأن هذا المنطق لا يتنافى – بل يتطلب – متابعة إيجابية (أي نقدية) واستيعابًا لنتائج الثورة العملية والتنولوجية في الغرب، ولكن هذه معركة ضارية، ليس فقط ضد العمالقة المحتكرين لهذه البضاعة، ولكن أيضًا ضد مخاطر الانبهار، والاستسلام لموقف الاستيراد البليد.
4- استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية :
وقد أسهمت البحوث التنموية في السنوات الأخيرة، وعبر جهد خاص ومتميز لاقتصاد الدول التابعة، في صياغة " مكوّن إنتاجي " ملائم لنموذج التنمية المستقلة، ممثلاً في استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية وتكلفت كتابات عدد من اقتصادينا البارزين بشرح الجوانب المختلفة لهذه الاستراتيجية، بحيث نكتفي هنا هنا بتسجيل تعريف عام ومركّز سجله إسماعيل صبري عبد الله، إن " جوهر القضية هو بناء هيكل صناعي مقدمتها الزراعة ومتسق مع أهداف المجتمع الاجتماعية والحضارية، وهذا الهيكل الذي يُبني على أساس من الاعتماد على السوق الداخلية الضخمة التي تفتحها استراتيجية الوفاء بالاحتياجات الأساسية، يتضاءل اعتماده على التجارة غير المتكافئة مع الدول الرأسمالية، ويمكن أن يخرج من قبضة الشركات متعددة الجنسية. فالتنمية لا يمكن أن تكون مستقلة إلا إذا كانت متوجهة إلي السوق الداخلية، أو متمركزة على الذات كما يقال ي الأدب التنموي الحديث، وهي في الوقت ذاته التنمية التي يمكن أن تغذي نفسها وتسير قدمًا دون استجداء ون خارجي، والقيمة الأساسية لهذا التعريف هي أنها تفهم وتركُب استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية باعتبارها توظيفًا للتنمية الاقتصادية باتجاه الهدف الرئيسي والبعيد؛ كسر التبعية، وتحقيق المنتمين إلى نموذج الاستقلال، والمروُحين لاستراتيجية إشباع
الحاجات الأساسية.
وأعتقد أن استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية إذا حُكمت بالهدف الرئيسي والبعيد (الاستقلال)، فإن المنطق الداخلي لهذه الاستراتيجية والذي يعكس احتياجات عملية، يؤدي إلي تكامل المبادئ الستة (بمفهوم معين وبأوزان متناسِبّة) في توليفة تبدو متسقة، وذلك على النحو التالي باختصار.
(أ) العلاقة مع العالم الخارجي :
تبدو تِلْكّ الاستراتيجية متلائمة تمامًا مع هدف الاستقلال، فهي تؤدي – اقتصاديًا – إلي تقليل الاعتماد على العالم الخارجي كميًا (بالحد من الاستيراد والاقتراض) ونوعيًا (من حيث الاستغناء عن الخارج في إشباع أكبر قدر مكن من الحاجات الأساسية) ويفضي منطق الاستراتيجية إلي هذه النتيجة من خلال التغيير المقترح في نمط الاستهلاك والإنتاج.
(ب) الاعتماد على النفس :
هذا المبدأ بداهية، من خلال الاعتماد الأساسي على تعبئة الفائض الاقتصادي، وباتجاه التنمية إلي إشباع الحاجات الأساسية بالعمل والإمكانات المحلية، ومفهوم أوسع وأكثر ديناميكية : من خلال ما نسميه روح التجدد الذاتي وملاقاة التحديات الخارجية.
(ج) دور الدولة :
إذا كان دول الدولة في التجربة الغربية أساسًا لتفح العالم أما التجربة، فإن دور الدولة في البلدان التابعة أساسي لحماية تجربتها في التنمية من العالم الخارجي، أي أنها تواجه العالم الخارجي من موقع ضعف وليس من موقع قوة – كما كان الحال في الدول الغربية – وهي في موقف الدفاع الاستراتيجي وليست في موقف الهجوم الاستراتيجي، ويتطلب ذلك أن تعمل الدولة كمؤسسة مركزية تستخدم استخداماً أمثل الكفاءات البشرية النادرة في المجالات العملية والفنية والاقتصادية والإدارية، بنفس منطلق الحاجة إلي تركز الكفاءات العسكرية في مؤسسة واحدة. إن نوعية المسؤوليات المترتبة على استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية تتطلب إدارة للعلاقات الدولية (سياسيًا و اقتصاديًا) بدرجة عالية من الكفاءة، بحيث تقلل إلى أدني حد مخاطر وخسائر الصدامات الخارجية المحتملة، وتستفيد إلي أقصى حد من التناقضات الحية بين الدول والكتل المسيطرة. ولا يُتصور أن هذه الاستراتيجية يمكن أن تشق طريقها في التنفيذ بدون نوع من مؤسسات اقتصاد الحرب، ويعني ذلك أن منطق الاستراتيجية يؤدي بالضرورة إلي سيطرة السلطة المركزية على مفاتيح الاقتصاد القومي، وإلى تدخلها المباشر والحاسم في إدارة الاقتصاد. لابد من تخطيط مركزي عيني ومالي يحدد اتجاهات ونسب النمو المتلائمة مع دعم الاستقلال، ومع نمط الاستهلاك المستهدف، وفي إطار التأهب الدائم للضغوط الخارجية المحتملة. ويصعب في الحقيقة أن يتفق مع منطق هذه الاستراتيجية وهمُ الاعتماد بأي قدر على ما يسمى آليات السوق لتخصيص الموارد، أو وهمُ الاعتماد على مبادرة القطاع الخاص المحلي (ومن باب أولى الأجنبي) كعامل حاسم، دون أن يعني ذلك دعوة لتصفية القطاع الخاص، بل لعلنا ندعو إلى عكس ذلك في إطار المحددات المفروضة.
(د) القفزة الكبيرة :
هذا المبدأ مضمون أيضًا بمنطلق الاستراتيجية ويشمل ذلك تعظيم الفائض الاقتصادي المخطّط (حسب مصطلح باران) واستثماره وفقًا لأهداف الاستراتيجية، بالإضافة إلى الهجوم المنتشر على جبهة واسعة (أي ليس على الجبهة الاقتصادية وحدها) في لحظة تاريخية واحدة.
(ه) التوزيع :
منطق إطلاق المبادرات وحشد القوى البشرية لملاقاة التحديات الخارجية والداخلية للتنمية المستقلة، يتطلب الحد من تفاوت الدخول إلى القدرة الضروري لحفز العمل والإبداع، ولا يؤدي إلي الانقسام والتناحر، إلا أن قضية التوزيع بالنسبة لاستراتيجية إشباع الحاجات الأساسية ليست إضافة ملائمة من خارج الاستراتيجية، أي ليست مجرد سياسية داخلية، ولكنها متضمنة في هيكلها الإنتاجية نفسه. ولكن يمكن أن نقول في الوقت نفسه إن إدراك أهمية التماسك الاجتماعي عامل مهم في تيسير التقبل العام لاستراتيجية إشباع الحاجات الأساسية.
(و) التنمية عملية مركبة :
إن الإشارة إلى التغيرات العديدة المزامنة كانت متضمنة – في الواقع – في كل مبدأ من المبادئ السابقة، ولكن لابد من تحديد تصور نظري متكامل لمضمون التغيرات المطلوبة، وهذا ما تغفله كثير من الدراسات حول استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية. إن تحديد التصور المتكامل عملية صعبة؛ وتتطلب التفاعل الخلاق بين علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة مع جهود العاملين في المجالات الثقافية والتعليمية والتربوية. ولكن بدون التوصل إلى تصور متكامل يبدو ممكنًا ومتسقًا – منطقيًا وفعليًا – مع متطلبات المبادئ السابقة، تصبح استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية كخطة وضع الجرس في عنق القط، أي خطة جميلة ولكن غير قابلة للتشغيل، ومحبوب الحق كان مصيبًا تمامًا حين حذر من تحول الحديث عن الاستراتيجية الجديدة إلي " موضة مستهلكة "، وهو يؤكد " أن الاستراتيجية الجديدة التنمية تتطلب تحديدًا أساسيًا لتوازن القُوَى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث أنه ما لم يتم التوصل إلى قرار على أعلى المستويات السياسية، وتتم تعبئة الحركة السياسية بأسرها في داخل البلد خلفها، فستظل هذه الممارسات التخطيطية أكاديمية إلى حد كبير، ولكن كيف تُتخذ القرارات السياسية المطلوبة بدون ما سماه ميردال " الحكومة القوية " ؟ إن ميردال يعتبر سائر الحكومات في الدول التابعة (حتى أشدها دكتاتورية) حكومات " رخوة – SOFT " وهو يعني أنها غير قادرة على فرض القوانين والقرارات التي تبدو ضرورتها واضحة؛ لأن هذه الحكومات خاضعة لأصحاب المصالح المتخندقة في الأوضاع القائمة، والتي تتعارض التشريعات والإجراءات المطلوبة مع مكاسبهم المحققة من بقاء كل شيء على حاله؛ إن "الحكومات القوية" هي شرط أساسي إذن لكي تكون استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية قابلة للتشغيل.
كذلك فإن نموذج التنمية المستقلة هو المتسق منطقيًا مع مبدأ عدالة التوزيع، فهو لا يفترض (كمدخل لهذه العملية) إمكان إجراء تعديل أساسي في علاقات التوزيع، مع بقاء نفس القوى الدولية والمحلية مسيطرة على علاقات الإنتاج داخل النموذج (أو داخل النظام) رغم تعارض مصالح هذه القوى – جذريًا – مع مبدأ إعادة توزيع الدخل. إلا أن نموذج التنمية المستقلة يأخذ عمقه الحقيق – كما أشرنا – عند التحامه مع استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية، التي تتضمن (بحكم تعريفها) ثورة في نمط الاستهلاك، وهجومًا مباشرًا على مواقع الفقر، أي أن عدالة التوزيع مُتضمنة ومضمونة فعلاً في بنية الاستراتيجية، ولكن يحسن في هذه الحالة أن نحدد التحدي الذي يواجه استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية، لا على أنه إعادة توزيع الناتج، ولكنه في الحقيقة نمط الاستهلاك الملائم، وتقبّل المجتمع بفئاته الوطنية المختلفة لهذه النمط. وغني عن البيان أن تحديد نمط الاستهلاك المستهدف، والالتزام به، ليس عملية اقتصادية بحته، ونني بذلك أن التحديد والالتزام عملية تشترك فيها اعتبارات وأدوات متنوعة، ونعني أيضًا أن تحديد نمط الاستهلاك وتطوره لا يتحدد فقط حسب مستوى القوى المنتجة المتاحة.
لقد عاب جلال أمين على الاقتصاديين تشويه فكرة العدالة، إذ حولوها إلي قضية إعادة توزيع الدخل، وبدلاً ن التساؤل عن طبيعة المنتجات نفسها، وعما إذا كانت تلبي حاجات حقيقية للإنسان أو لا تلبيها، قِنع الاقتصاديون بمطلَب تافه ليس أفضل كثيرًا من رغبة الفرد في أن يلحق بمستوى معيشة جاره، البحث حول نمط الاستهلاك بحيث لا يكون هذا النمط مجرد تعبير رشيد عن إمكانات الاقتصاد القومي في مرحلة ما، وخطوة للاقتراب من النمط الاستهلاكي السائد حاليًا في الدول الصناعية الغربية، فهذا التصور يظل مثقلاً بالتبعية الفكرية، ويعني أننا لم تتغير في الأعماق إلي الدرجة المطلوبة لملاقاة التحدي.
فإذا انتقلنا إلي تحديد الوسيلة المتسقة مع الهدف الذي ننشده (غلبة الجانب الاجتماعي في المركّب التنموي) فسنجد أنها منطقيّا الاعتماد على تعبئة جماهير الأُمة، ويتطلب ذلك وضوحًا نظريًا تقدمه اجتهادات الفكر الإسلامي، مطلِقة حركة البشر ومبادراتهم، ومؤكٌدة مشروعية المشاركة (وهي أوسع من مفهوم الشورى التقليدي وإن تضمنته بالقطع) الواسعة في معارك الأمُة وفي مختلف مستويات القرار. إن وسيلتنا الأساسية لتحقيق التنمية المستقبلة هي اعتماد مطْلق على مفهم للفعل الاجتماعي يسعى لتعبئة كل ما يبذله البشر من طاقات متنوعة ومتنافسة في إطار مجتمع – أُمة معين عبر التشكيلات المؤسسة الملائمة. وإذا كان مفهومنا النظري لا يقيم عراقيل في وجهه هذا الأسلوب، فإن المتطلّبات العملية لا تترك لنا مجالاً لاختيار آخر. فنحن لا نستطيع على سيل المثال أن نختار الاعتماد على الطاقات المبدعة للنّخب السياسية الرشيدة، وعلى تدخلها السياسي المخلص، ونبعد – أو نُحيْد – جماهير الشعب عن ساحة الصراع من أجل التنمية المستقلة، نحن لا نستطيع أن نختار هذا الأسلوب من الناحية العملية؛ لأن طريق التنمية المستقلة يتضمن كما قلنا احتمالاً ممتدًا، وقتال هذه الأيام لم يعُد مواجهة بين فريقي من الفرسان؛ فالتقنيات العسكرية الحديثة ألغت الفارق بين الخط الأمامي، والخطوط الخليفة، وأصبح الجميع في قلب أهوال المعركة العسكرية بالمعني الحرفي والمباشر، فضلاً عن استنزاف الموارد للمجهود الحربي وتأثير ذلك على مستوى التقدم والرفاه الاقتصادي العام، فكيف نضمن الصمود في طريق التنمية المستقلة، دون مشاركة إيجابية نشطة من جماهير الأُمة كلها ؟ ولكن كيف نقنع الأُمة بهذه المشاركة وقبول التضحيات ؟ إن الثورات العظيمة أو لحظات النهضة تقودها عقيدة، فهل نملك هذه العقيدة التي تعيد للعرب لياقتهم القتالية ؟ لا شك أن الدين والإسلام تحديدًا، يقدم هذه العقيدة.
وكي لا نخدع أنفسنا، ينبغي أن نتعرف بأن تشغيل نموذج الاستقلال، على النحو الذي حددناه، شاملاً استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية، يعُتبر أمرًا بالغ الصعوبة، فالنموذج يفترض مواجهة لا تهدأ ضد قوى كبرى، مواجهة حضارية وسياسية واقتصادية، وقد تكون عسكرية، ولكن هذه المواجهة – على ضرارتها – هي " الجهاد الأصغر ". فهي حرب ضد أعداء خارجيين لهم أبعاد محسوسة، ومؤسسات متميزة، ولهم مصالح واضحة تتعارض مع مصالحنا تعارضًا جذريًا. الشيء نفسه يقال عن مجاهدة الفئات الاجتماعية التي ترتبط بالأعداء الخارجيين، والتي تمثل كياناً غريبًا مشوهًا فكل هذا أمر سهل نسبيًا، وممكن حشد كل القوى الوطنية في مواجهته، وبمعنويات عالية.
أما " الجهاد الأكبر " فعلاً فهو " جهاد النفس " الذي يُزيد من صعوبته أن العدو قد تغلغل وأصبح قابعًا بالفعل داخل نفوسنا، ممثلاً في نمطه الاستهلاكي والحضاري، فصفحة المستهلكين، وخاصة أبناء ما يسمى بالطبقة المتوسطة (أو القطاع الحديث لا فرق) ليست بيضاء بغير سوء، نكتب عليها ما شئنا، فهناك عادات تشكلت وأصبحت حقيقية مادية تصعب زحزحتها (ولا نقول إزالتها)، وقد حصرنا على الإشارة – أكثر من مرة – إلى أنه لا يكفي أن يبدو نموذج ما متسقًا منطقيًا لكي نقبله، فإن لم يكن النموذج قابلاً للتشغيل في الحياة الواقعية يصبح الجهد في بنائه مجرد رياضة ذهنية عقيمة، فهل يمكن تغيير البشر من الأعماق ؟ إن القول باستحالة ذلك يعني أن النموذج بالفعل غير قابل للتشغيل، ولكننا نعتقد حقيقة بإمكان هذا التغيير، إذا لم تقم تقديراتنا على مَجّرد الحسابات العادية لصالح الاقتصاد أو الاجتماع فحسب.
إننا نعتقد أن بإمكاننا التغيير، وفي ذهننا عجز العقول الالكترونية عن حساب طاقة الشعوب في لحظة مواجهة تاريخية، ولا شك أن تحقيق نهضة حضارية من اللحظات التي لا تخضع للحسابات التقليدية، ومع فرض توفر هذه اللحظة، فإن مهمة الباحث أن يحاول تحديد تصور للعوامل الأساسية التي تضمن نجاح هذه اللحظة، وتضمن استقرار تشغيل النموذج حتى يتحقق هدفه الرئيسي البعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.