فوجيء الكثيرون بحجم وظهور السلفيين بعد الثورة.. وتساءل البعض مندهشا ومستنكرا على طريقة القذافي : من أنتم؟ .. أين كنتم؟ وكيف وُجدتم فجأة؟ لم يهبط السلفيون أرض مصر صبيحة الثاني عشر من فبراير، إنهم مصريون أصلاء والسر في كثرتهم وتنوعهم أن السلفية تيار عفوي يُنسب إليه كل شاب وفتاة قرر الالتزام واهتم بالعقيدة واتبع خيارات فقهية تبناها قطاع عريض داخل الصحوة الإسلامية. وإذا كان المصريون جميعا تنفسوا ولأول مرة منذ عقود نسيم الحرية خارج سراديب القهر، فإن التيار الإسلامي والسلفي منه بشكل خاص هو الأعظم تأثرا، والأظهر فرقًا.. وليس هذا بمستغرب، فلقد عادى نظام مبارك وبخاصة في سنوات العادلي التيار السلفي باعتباره "تيار الخلايا النائمة"، وهو ما سوغ لأجهزة القمع اعتقال وتعذيب وتكبيل الألوف دون قيد أو قانون، ودأب الجناح الإعلامي والفني لجهاز أمن الدولة على تشويه صورة الإسلاميين عموما وبخاصة أولئك المتمسكين بالهدي الظاهر، فيربطهم بالعنف ويخلط عمدًا وسخفًا بينهم وبين جماعاتٍ متراجعةٍ أو ميتةٍ أو موهومةٍ في كثير من الأحيان. وفي ميدان التحرير نشأت حالةٌ وطنيةٌ جديدةٌ وفريدةٌ، اكتشف فيها المصريون روعة تنوعهم والتحامهم، خرج آلاف الشباب السلفي الثائر ورابط في شوارع مصر وميادينها، وبعد التنحي التحق التيار السلفي بركب العمل السياسي ليثبت أن العزوف السابق كان انعكاسًا لتشوه الحياة السياسية في مصر ما قبل الثورة، ولكن تكوين الأحزاب لا يمكن أن يكون نهاية تأثير الثورة على السلفية في مصر. تثبيت الدعائم انطلق المنهج السلفي من ركائز أساسية وهي : تحرير العقل من نير الخرافة والأوهام، وتخليص العقيدة من الّلجج والغموض والتقعر، وأخذها رقراقةً واضحةً من الكتاب والسنة. ومن أهم ملامح هذا المنهج ما أكد عليه السلف الصالح من وجوب اتباع الدليل دون التقيد بقول إمامٍ بعينه أو مذهبٍ برسمه، وبهذا تُحرر السلفية العقل المسلم من أغلال التقليد والفتن المذهبية، مع الحفاظ على التراث والعناية به والاستفادة منه. لذا فإنه من المستشنع أن تتحرر السلفية من تقليد الأئمة الكبار لتقع في تقديس المتأخرين فضلا عن المعاصرين، فإن من يفعل ذلك يتنكر لأصل منهجه، ويبدو عابثًا، كمن حرر نسرًا من قفص كبير لا ليطلقه في الفضاء الرحب، وإنما ليسجنه في قفص أصغر وأضيق. فهل كانت محاربة التقليد قاصرة على المذاهب الكبرى الراسخة، ليسجن الناس في اختيارات من لم يبلغ هذا الحد أو يدانيه، ويحبس الطلاب على الاستغراق في علوم الإسناد، بدلاً من إعداد المجتهدين بحق، وتنمية القدرة على فهم الدليل وفقهه والتي لا تتأتى دون التعمق في علم أصول الفقه؟ وإذا كان المنهج السلفي يرفض تقديس البشر على صعيد الإيمان والاعتقاد، أو التقيد بأقوالهم على صعيد الفقه والفتوى، فمن باب أولى أنه لا يسمح بتحصين أحد على الصعيد الحركي، فالمنهج أولى بالذب عنه من الأشخاص، ونصرة الأخ ظالمًا تستوجب أن يُؤخذ على يديه لا أن يُدافع بالباطل عنه لعظم قدره وجليل شأنه، فلا شك أن هذا منزلقٌ خطيرٌ من شأنه إضعاف الثقة وخلق البلبة لدى الناس في رؤية وتقييم التيار السلفي السياسي الوليد. غربة لا اغتراب "فطوبي للغرباء".. نسمة رحيمة في هجير التفرد والفتنة تثبت أفئدة المؤمنين وتدفعهم إلى التمسك بدينهم والدعوة إليه، وتحملُ بشرى دنيوية وأخروية، فكما بدأ الإسلام غريبًا ثم زالت غربته وكثر أتباعه وانتشرت دعوته، فكذلك سيعود غريبًا .. لكن هذه الغربة ستزول، فلا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين."الإسلام ليس غريبا".. إنها ليست صفة ثابتة أو مطلوبة له ولأتباعه، ولكنها حالة عارضة ولصعوبتها ومرارتها جاء التثبيت والبشارة النبوية "طوبى للغرباء"، والفرق بين الصفة الثابتة والحالة العارضة كبير جدا.. إنه الفرق بين الابتلاء بالغربة وبين الاغتراب (أي خلق حالة الغربة والحفاظ عليها) ، وعدم السعي لرفعها، بل الاستئناس بها رغم وحشتها. كيف كان الغرباء الأوائل؟ غربتهم اضطرارية لم يسعوا إليها.. بل ظلت الدعوة سرًا لسنوات، حتى أُمروا بالجهر. صابرون متعلقون بالله مستبشرون بوعده. يشعرون بنعمة الله عليهم ويحملون شفقة ورأفة على من حولهم، وليس نقمةً وحنقًا. مغتنمون للفرص الدعوية، متحينون لرفع الغربة ودفعها مع الصبر عليها. إن عالمية الإسلام ويسره تجعلان أتباعه ( يألفون ويُؤلفون)، و( يُخالطون الناس ويصبرون على أذاهم)، ومن هنا يتضحُ جرمُ من يلصقُ صفاته الشخصية بالإسلام، فإذا كان هو انطوائيًا انتقاديًا موسوسًا مُغرقًا في مثالية فكرية فإن أخلاقه ليست قالبا للمنهج، وإنما أخلاق صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم بحلمه وسعة صدره ورأفته بالخلق. وإذا أراد التيارُ السلفيُّ أن ينجحَ سياسيًا فعليه أن يخاصم فكرة الاغتراب وينفِّر منها، وهذا لا يتأتَّى دون تعزيز لمفهوم "المشاركة"، والبحث عن نقاط التلاقي لا التصادم. وهو لا يتأتي إلا بالتوقف عن تصنيف الناس، ولا يخفى أن حالة الارتياب والتصنيف لم تحدث من التيار السلفي بحق غيره، بل إنها زعزعت التيار السلفي نفسه في كثير من الأحيان، فلم يكد يسلم منها داعية أو عالم وإن أفنى عمره في نشر السلفية والذب عنها. إن اعتياد التصنيف كطريقةٍ أوليةٍ للتعامل مع الآخر يؤدي في النهاية إلى تعقيد حالةِ "الاغتراب" وتكاثرها، والحفاظ بقوة على العزلة الفكرية، وهو ما يقطع الطريق على أمور مثل: الاندماج المشاركة التحالف التوافق التبادل الفكري. وليس التصنيف وحده الذي يغذي الاغتراب، وإنما إدمانُ التفاصيل والغرقُ فيها، وعدم القدرة على تكوين رؤية متكاملة، فالاهتمام المبالغ فيه بالصغائر والتفاصيل، أو المضي فيها دون نظرةٍ شاملةٍ يدمرُ أي أملٍ للمشاركة والتلاقي بين المتشابهين فضلا عن المختلفين، وهو ما يؤسسُ " لفن المستحيل" حيث يذهب كلٌ إلى اغترابه ولا عزاء للسياسة. من البعيد إلى الوطن ليس السلفيون وحدهم من أمضوا عقودًا بأرواح بعيدة عن الوطن، بل المصريون جميعا هُددت وطنيتُهم، وعمل نظامُ القمع والفساد على تجريف المشاعرِ الوطنيةِ، ومسخ الهويةِ المصريةِ، حتى بات الحديثُ الوطني لدى الكثيرين ساخرًا مضحكًا. وفي هذا الخضم المتطاول من سرقة الوطن وإخراج أهله من الاهتمام به، كان التيارُ السلفيُّ مهتمًا بأجزاء مترامية من الأمة الإسلامية، وهو أمر يحثنا عليه الإسلام دون شكٍ، ولكن ليس هروبًا من الوطنِ، أو خوفًا من حبه والانتماء إليه. ومن بركات الثورة المصرية العظيمة أنها أعادت للمصريين وطنيتَهم، وأعادت السلفيين للمشهد الواقعي من حولهم، فالهم والاحتراق والنصرة ليست حكرًا على أوطان الإسلام البعيدة، والانشغال بالوطن وهمومه وفهم ما يحدث فيه والبذلِ لإصلاحه ليس عيبًا أو منقصةً، بل فطرةً وواجبًا. مبادرة لا كشف مؤامرة تنتاب المغتربَ المتفردَ حالةٌ من الشك والتوجس، لذا فإن من ضيّق حدود منهجه فلم يعد يتسع إلا له، أو لمن يطابقه حتى حين، يشعر دائما بخطر المؤامرة، ليس كالشخص العادي الذي يدرك مؤامرات الآخرين، بل إن تفكيره يرتكز على المؤامرة، فهي دائما التفسير الأصدق والأحكم. ثمة يد في الخفاء تمكر وتتآمر .. إنها ليست يد واحدة فالمغترب يتربص به الجميع تقريبًا، أما هو فإنه يحافظ على نفسه .. على عقيدته وأفكاره، إنه حمل ثقيل في ظل كل هؤلاء المتآمرين، وغايةُ الأمل أن تنتهي الدنيا ولم تنجح خططهم في اختراقه. ومن يرتكز تفكيره على المؤامرة فلا يمكن أن يكون مبادرًا، إنه سلبي فردي يشعر بالعجز، هو هدف لمن يدبرون ويبادرون، وحكمته تهديه إلى رفع أسوار "الجيتو"، ووضع بوابات من التصنيف والفرز دون الوصول إلى قلبه وعقله. فلما كانت ثورة كبرى، زلزلت الحصون وفتحت العقول وجمعت الناس على أهدافٍ كليةٍ مشتركةٍ، وأذابت ثلوج الجهل بالآخر، استوجب على التيار الإسلامي والسلفي خاصةً التحررَ من الارتكاز على نظرية المؤامرة، واكتساب روح المبادرة. يجب أن يتصدر التيار السلفي المشهد الإيجابي العملي، وأن ينأى بنفسه عن تبديد الروح الثورية بالحديث المستمر عن مؤامراتِ تقسيمٍ ومخاوفَ خارجيةٍ تصرفُ الذهنَ عن المخاطرِ الحقيقيةِ التي تهددُ مسيرةَ استكمال الثورة، وبناء وطنٍ حرٍ. وتستلزم المبادرة التخفيفَ من المثالية الفكرية والتحلي بالطرق العملية، فلطالما كانت الإجابة لمن يعمل في عمل محرم أو به شبهة ( من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه)، ولكن الساحة خلت من حلول عملية جماعية، تنطلق من الإيمان بأن (ما لا يدرك كله لا يترك جله)، وتُهديء من وسواس "الصحة المطلقة" بقوله صلى الله عليه وسلم ( سددوا وقاربوا). من الاستنساخ إلى التميز واحترام التخصص وتتطلب المبادرة وجود بنية قوية ومتميزة من الأشخاص الإيجابيين، والدعوة إلى التميز واحترام الفروق الفردية بين البشر، وعدم حجب أفق البذل أمام الشباب المخلص، وقصره على طلب العلم وتعليمه، فهذا يخلقُ نسخًا مكررةً متشاحنةً، واللحظة الراهنة تتطلبُ إدراكًا جديدًا للمتطلبات يتسم باحترام التخصص وتشجيع التميز، والخروج من الجدل إلى العمل من أرضية المشترك، فالفعل أشد أثرًا في الإيمان وفي الحياة من مجرد الترك.