ولكن على العكس من بوليتكوفسكايا، لم يكن العالم العظيم ونصير حقوق الإنسان أندريه ساخاروف قد مات قتيلاً. ولقد بدا حفل التأبين الذي أقيم تشريفاً له وكأنه احتفال ببزوغ عصر جديد. كانت روسيا آنذاك تقلب صفحة جديدة من تاريخها، صفحة كانت حافلة بالشكوك وعدم اليقين إلا أنها كانت أيضاً غنية بالأمل في أن تكون روسيا قد وضعت قدميها على أول طريق التحول إلى \"دولة طبيعية\". \r\n إنها تلك الصفحة التي ربما أغلقت إلى الأبد باغتيال بوليتكوفسكايا. لقد كان الحداد الذي جمع ذلك الحشد الصغير من المفكرين والمثقفين في باريس بمثابة الحداد على الأمل في روسيا مختلفة. لقد كنا ندفن حلم المثقفين والديمقراطيين الجمعي في روسيا ديمقراطية حيث تستطيع شجرة الحرية وحكم القانون أن تضرب بجذورها في الأعماق وأن تزهر وتثمر، بعد الشتاء السوفييتي البارد الطويل. كانت صور بوليتكوفسكايا المعلقة على الجدران وكأنها تفتح أعيننا على واقع أكثر عبوساً وكآبة. لقد انتهى الحلم الذي ربما لم يكن قابلاً للتحول إلى حقيقة منذ البداية. \r\n إن ما نشهده اليوم عبارة عن قصة مختلفة تمام الاختلاف. فروسيا تحاول فعلياً أن تشتري طريقاً يعود بها إلى النظام العالمي باعتبارها قوة فاعلة بارزة، قوة تستعيد سلطانها وسطوتها باستبدال النفط والغاز بالأسلحة النووية والاستعاضة عن الخوف بالجشع. لقد كان في توازن الرعب في العصر السوفييتي تمهيداً للطريق أمام الاعتماد على النفط من جانب واحد لمصلحة روسيا. فبأرصدتهم النقدية الهائلة يشتري أثرياء روسيا ملكيات فاخرة في كل أنحاء العالم، وتشتري روسيا شخصيات ألمانية بارزة مثل مستشار ألمانيا السابق جيرهارد شوردر، إن لم تكن تشتري دعم ألمانيا أيضاً. \r\n على الرغم من الاختلافات الهائلة التي تفصل بين روسيا في عهد ما بعد الشيوعية وبين إيران، إلا أنهما يشتركان في العديد من السمات. فالثروة التي تدرها موارد الطاقة تمنح كل من البلدين شعوراً بالفرصة الفريدة، والاقتناع الراسخ بأن الوقت يلعب في مصلحتهما، وأنهما أصبحا الآن قادرين على الثأر بعد المهانة التي تعرضا لها من قِبَل العالم الخارجي. إن الأمر وكأنهما يجمعان بين ثقافة المهانة لدى العالم العربي الإسلامي وثقافة الأمل لدى آسيا. وكل من البلدين يتسم بروح قومية سافرة، ويتصور أنه لا قبل لأحد بمقاومته، وذلك لأنهما يستشعران أن الولاياتالمتحدة أصبحت في انحدار الآن نتيجة لورطتها في العراق، إن لم يكن في أفغانستان أيضاً. \r\n مما لا شك فيه أن الفوارق بين روسياوإيران هائلة. فالنظام الإيراني إيديولوجي إلى حد بعيد، ويستمد قدرته على البقاء من رغبته الصريحة في تدمير إسرائيل. ولا يتمتع هذا النظام بالدعم الحاشد من مجتمعه، إلا حين يتعلق الأمر بالكرامة الوطنية أو السعي نحو التحول إلى قوة نووية. \r\n أما النظام الروسي فهو على النقيض من ذلك يستمد قدرته على البقاء من المال، وليس الإيديولوجية. وفي سعيه إلى إعادة بناء قوة روسيا ونفوذها على الصعيد الجغرافي السياسي يحظى بوتن بتأييد الغالبية العظمى من السكان. والشعار الذي يرفعه الآن، \"حقق الثراء والزم الصمت\"، يشبه الأولويات التي رتبها جيزو لفرنسا في منتصف القرن التاسع عشر، حتى ولو كانت \"متبلة\" بمسحة قوية من الكبرياء الإمبراطوري. وما دامت أموال النفط تتدفق، فلن يجد أغلب الروس في أنفسهم حنيناً إلى الفرجة الديمقراطية التي انفتحت أثناء سنوات ولاية يلتسين، بكل ما صاحبها من فوضى، وفساد، وضعف على الصعيد الدولي، والافتقار إلى أي احترام للدولة. \r\n تُرى هل يختلف الروس كثيراً عنا في العالم الديمقراطي في الغرب، أم أن الديمقراطية عبارة عن رفاهية لا تتوفر إلا للمجتمعات القديمة المستقرة المزدهرة الراضية؟ يبدو أن الروس في غمار بحثهم عن الاستقرار في فترة ما بعد الاتحاد السوفييتي، قد وجدوا الأمان في بوتن، الذي قد لا يضاهي بطرس الأكبر في تكوينه البدني، إلا أنه أثبت موهبته السياسية وقدرته على فهم واستيعاب مزاج الشعب الروسي، ومن ثم التحكم فيه وتحريكه كما يحلو له. \r\n يرى أغلب المواطنين الروس أن الرخاء الاقتصادي، والمواد الترفيهية التي تبثها المحطات التلفزيونية، قد أصبح يشكل المرادف العصري للمرح الصاخب الذي كان سائداً في أيام الإمبراطورية الرومانية. وحتى الحرب الدائرة في الشيشان، رغم أنها قد تساهم في الفساد الأخلاقي الذي يبتلي روسيا ككل، والتهديد بانحدار مروع إلى ثقافة العنف، إلا أن نفس الحرب تغذي أيضاً شعوراً وطنياً أو الحنين الشعبي إلى استعادة وضع روسيا الإمبراطورية وهيبتها نجح نظام بوتن في استغلاله إلى أقصى حد ممكن. \r\n في نفس الوقت، لم يفز أفراد الشعب الروسي العاديين إلا بأقل القليل. ولا يستطيع أحد أن ينظر إلى تفشي حالات اغتيال الخصوم السياسيين والمنافسين في عالم المال والأعمال، وتنفيذ عصابات الجريمة المنظمة لعقود القتل، باعتبارها دلائل تشير إلى استعادة الاستقرار. ويصدق نفس القول على استغلال نظام بوتن لمشاعر كراهية الأجانب على المستوى الشعبي والتي انتشرت ضد مواطني جمهوريات الإمبراطورية السوفيتية سابقاً، مثل جورجيا. \r\n ربما تكون روسيا قد استعادت مركزها كقوة عالمية، ولكن هل تحظى باحترام العالم، وهل يشعر الروس بالسعادة والرضا في قرارة أنفسهم؟ إن روسيا دولة غنية، إلا أن الروس، أو على الأقل الغالبية العظمى منهم، ما زالوا فقراء، بل لقد انحدر متوسط العمر المتوقع لدى الروس ليصبح أقرب إلى نظيره في أفريقيا من نظيره في أوروبا الغربية. وفي نهاية المطاف سوف يكون لزاماً على الشعب الروسي أن يدرك أن الأمم الحديثة لا تستطيع أن تحيا بالقوة وحدها \r\n \r\n \r\n حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2006 . \r\n www.project-syndicate.org \r\n \r\n