تفاقم خطر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروف باسم «داعش»، الذي يسيطر مقاتلوه في الوقت الراهن على مساحات واسعة من الأراضي العراقية والسورية، وقد دخل مجدداً على خط الاضطراب الإقليمي بشكل صاخب بإعلانه عن قيام ما سماه «الدولة الإسلامية» أو «الخلافة الجديدة» في نهاية الأسبوع الماضي!وأثناء هجومهم على العراق في بداية الشهر الماضي، سوَّى مقاتلو «داعش» بالأرض حاجزاً ترابياً يقع على الحدود العراقية السورية. ونص بيان نشر إلى جانب صورة لجرافة تتولى هدم الساتر الرملي أن الجماعة دمرت حدود «سايكس- بيكو» التي قسمت الدولتين، والتي يعتبرها المسلحون حدوداً مصطنعة أوجدتها قوى الاستعمار الأوروبية. ويشير المؤرخ ماليز روثفين إلى أن «هذا الإجراء الرمزي من قبل مقاتلي داعش ضد هذا الهيكل الاستعماري، الذي يرجع إلى قرن من الزمن يظهر مدى اقتناع واحدة من أكثر الجماعات المتطرفة التي تقاتل في الشرق الأوسط الآن بأسطورة براءة ما قبل الاستعمار». وتشير حدود «سايكس بيكو» إلى اتفاقية سرية أبرمها في عام 1916 دبلوماسيان بارزان، بريطاني وفرنسي، هما السير «مارك سايكس» و«فرانسوا جورجز- بيكو»، وكانت لندن وباريس تخططان آنذاك لاقتسام أراضي الإمبراطورية العثمانية المتداعية -عدوتهما في الحرب العالمية الأولى- إلى جانب روسيا، واتفقتا على تقسيمها إلى مناطق نفوذ وسيطرة. غير أن ذلك سرعان ما تحول إلى اتفاقات معلنة مع بعض الزعماء العرب، تشمل تقديم ضمانات لقيام دولة عربية عاصمتها دمشق في مقابل الحصول على دعم ضد العثمانيين. ولكن ما أعقب الحرب العالمية الأولى هو مصدر المظالم في العالم العربي. ففي حين أكد الحلفاء المنتصرون الطموحات الوطنية للرومانيين والبلغاريين واليونانيين وشعوب أوروبا الشرقية الأخرى الذين كانوا يعيشون تحت سيطرة الدولة العثمانية، إلا أنهم لم يتحملوا إسداء هذا المعروف للعرب الذين سعوا إلى نيل استقلالهم. وسرعان ما أرسل الفرنسيون قوات إلى سوريا وفرضوا إجراءات وحشية ضد المنشقين القوميين. وفرض البريطانيون سيطرتهم على ما أصبح الآن حقول النفط في العراق المعاصر، وحولوا ميناء مدينة البصرة إلى موقع استراتيجي على طول الطريق إلى نطاقهم الاستعماري في الهند. وفي حين لم تعكس الدول المستقلة التي نشأت خلال العقود التالية وعقب الحرب العالمية الثانية، بصورة مباشرة الحدود التي رسمها اتفاق «سايكس- بيكو»، إلا أنها أيضاً تحمل بصمة التدخل الأوروبي؛ ولاسيما التقسيم الطائفي لسوريا ولبنان وتأسيس هذا الأخير، وقيام إسرائيل الكارثي. ويخيم هذا الميراث الأبدي على سياسات الشرق الأوسط المضطربة كما لو كان خطيئة أصلية. وخلال الأشهر الأخيرة أشارت مجموعة من المعلقين إلى «تفكك» اتفاق «سايكس- بيكو» بعد انهيار الحدود بين سورياوالعراق من جراء الحرب الأهلية والأزمة السياسية، وهو ما أفضى إلى عودة الحديث بشأن احتمال تقسيم المنطقة من جديد! ولعل هذه هي الرواية التي يحبذ تنظيم «داعش» اعتناقها والترويج لها، مقدماً نفسه بزعم المنتقم للتاريخ ووريث «الخلافة» بعد الإمبراطورية العثمانية. وعلى مدار قرون، سيطر العثمانيون على إمبراطورية ضخمة مترامية الأطراف ومتنوعة، كانت موطناً لكثير من الإثنيات والعقائد. وعلى رغم المظالم المختلفة، إلا أن الإمبراطورية اشتهرت بالتسامح. وأما الآن فالمتعصبون المتعطشون للدماء الذين يديرون التمرد في سورياوالعراق ينبشون القبور ويدمرون الرموز الدينية ويستهدفون كل من يختلف معهم دينياً أو مذهبياً. نوع المقال: العراق سياسة دولية