مع تفاقم فصول الأزمة الأوكرانية، دار الكلام على حرب باردة جديدة. لكن أوجه المقاربة بين اليوم والحرب الباردة في الأمس في غير محلها وهي ملتبسة وخطيرة. ولم تقم قائمة لتلك الحرب من غير 1) هيمنة قوتين عظميين على المعمورة؛ 2) والإقرار المتبادل بتوازن القوى في أوروبا؛ 3) والتنافس الأيديولوجي بين نموذجين؛ 4) والسباق على الصدارة في العالم. زمن الحرب الباردة ولّى، وهوة التباين الاقتصادي والعسكري بين واشنطنوموسكو تعاظمت، وتوزيع القوى على الصعيد العالمي يلفه الغموض والالتباس. ويعود إلى أحدنا القول: هل نعيش في عالم متعدد الأقطاب أو عالم من غير قطب؟ والدول الكبرى في أوروبا تنضوي في شبكة تعاون معقّدة، من منظمة الأمن والتعاون الأوروبية والاتحاد الأوروبي ولجنة الناتو- روسيا، وصولاً إلى برنامج الشراكة من اجل السلام... وكفتا الديموقراطية واقتصاد السوق راجحتان في القارة هذه. وخلافات موسكووواشنطن إزاء ايران وكوريا الشمالية لا يعتد بها، والتباين بين مواقفهما استراتيجي، لكن الأهداف تجمعهما. فكل منهما يسعى إلى الحد من الانتشار النووي. وفي سورية، تنظر روسيا بعين الرضا إلى عرقلة المساعي الغربية، لكن شاغلها الأول هو حماية مصالحها وليس جبه الولاياتالمتحدة. ودحض مقارنة حوادث اليوم بالحرب الباردة يسير. فالغرب يسعى إلى التعاون مع موسكو وليس إلى مواجهتها، ويرجح كفّة تذليل المشكلات بدل المراوحة من غير ربح أو خسارة. ورمى باراك أوباما إلى البدء مجدداً مع روسيا، فمنذ تسلم منصبه، سارع إلى اقتراح التفاوض على اتفاق جديد لضبط السلاح النووي. وفي قضية الدرع الصاروخية الدفاعية، تخلى عن مشروع إرساء موقع رصد مبكر في بولندا، وعرض على موسكو التعاون في الأنظمة الدفاعية. وإثر أزمة قضية سنودن ومنحه اللجوء في روسيا، لم يخف الرئيس الأميركي غضبه، لكنه اليوم يبحث في سبل التعاون التجاري بين البلدين. فاهتمام أميركا بحلف شمال الأطلسي يفتر، ويشغلها، اليوم، الإعداد للانسحاب من أفغانستان وليس خطر يهب من الشرق (لسوء حظ دول البلطيق التي خسرت ثقل الدعم الأميركي في مواجهة روسيا). ويؤدي الاتحاد الأوروبي في الأزمات دور الوسيط ويترك المواجهة، كما حصل في جورجيا عام 2008 وفي أوكرانيا اليوم. وطوال عقدين، لم يسع الغرب في إخراج كييف من الدوران في الفلك الروسي. ويسعى الرئيس فلاديمير بوتين إلى النفخ في التنافس الاستراتيجي بين بلاده والغرب، ويرص صفوف المجتمع الروسي حول النظام عبر الزعم بأن الخارج يهدد الداخل الروسي. وهو يسعى إلى استتباع دول الجوار من طريق توسل سلاح الطاقة، وإلى تسليط الأضواء على مكانة بلاده وتفوقها. لذا، يرفع وتيرة حوادث الاستفزازات الجوية والبحرية ليحاكي التنافس بين الشرق والغرب في الماضي. والحق أن جيورجي أرباتوف المقرب من ميخائيل غورباتشوف اعلن، عام 1987، ما لا ينسى، إذ قال: «نحن ننزل بكم أمراً فظيعاً لا يطاق: سنحرمكم من عدو ينازعكم». ومشروع الاتحاد الأوراسيوي يرمي إلى مواجهة عقائدية مع أميركا «المنحطة»، كما توصف الولاياتالمتحدة في أدبيات النظام الروسي، وإلى شد عرى الأوروبيين من باب قيم المسيحية والمحافظة المتشددة. والمسعى هذا يقرّب بوتين من روسيا القيصرية اكثر مما يقرّبه من العهد السوفياتي. فحلفه مع الكنيسة الأرثوذكسية راجح ولا يستخف به، شأن إعادته الاعتبار إلى ستالين في الأعوام الأخيرة. ومشاعر الريبة إزاء الغرب سائرة في روسيا، ولا شك في أن بوتين لا ينظر بعين الرضا إلى تحالف أميركا مع بولندا، لكن ما لا تطيقه النخب الروسية كلها هو توسيع «الناتو» وضمه دولاً سوفياتية سابقة. وترى موسكو أن منظومة الدرع الصاروخية «الأطلسية» تستهدفها، على رغم محدودية هذه الدرع التقنية وضعف انتشارها انتشاراً لا يخوّلها رصد الصواريخ الروسية العابرة للقارات. ويرى بوتين ان الدعم الأميركي لمنظمات حقوق الإنسان يرمي الى تقويض النظام الروسي. وعلى رغم حذر ادارة اوباما في الأزمة الأوكرانية وحرصها على عدم المبادرة الى تأجيج النزاع، تغالي موسكو في تصوير الضلوع الأميركي بالأزمة، فتعتبر زيارة السيناتور جون ماكين ساحة ميْدان الأوكرانية في كانون الأول (ديسمبر) 2013 بيّنة على المؤامرة الأميركية. ومن البيّنات أيضاً مؤلفات زبيغنيو بريجينسكي على رغم ان آخرها يقترح على اوكرانيا الاحتذاء بالنموذج الفنلندي الحيادي! ولا شك في ان سوء تفاهم يشوب رؤية موسكو الى مواقف الغرب، ففي العاصمة الروسية لا تدرك دواعي تمييز الغرب بين الإسلاميين والجهاديين في سورية عوض دعم مكافحة المتطرفين السوريين من غير تحفظ او تمييز. ثمة خلاف سياسي وراء «الحساسية» الروسية إزاء الغرب، فموسكو تطالب بأن تعود إليها كلمة في قرارات الحلف الأطلسي، وترغب في شراكة مع واشنطن تحاكي الشراكة الأميركية- السوفياتية في الخمسينات، والاتفاق على نزع السلاح الكيماوي السوري هو من بنات مثل هذه الشراكة الروسية - الأميركية المشتهاة. والمفاوضات الروسية- الأميركية حول الأسلحة النووية مناسبة لإحياء الندية مع الولاياتالمتحدة واستعادة مكانة أَفِلَتْ. وترحب موسكو بالتعاون مع أميركا على مكافحة الإرهاب، لكن التعاون هذا يقتصر على جوار كل منهما، ويرفع بوتين لواء مبدأ الفحام سيد داره الذي يحول دون تدخل أي قوة خارجية في الشؤون الداخلية الروسية. وشأن بكين، تنساق موسكو وراء أحلام إحياء عهد عقيدة مونرو في العالم، وهذه تقضي بإطلاق يد كل قوة كبرى في جوارها. وتوسل بكينوموسكو «الفيتو» (حق النقض في مجلس الأمن) في القضية السورية لا يخرج عن هذا السياق، ويشي بالرغبة في حماية حصانة الحكومات والإقرار بنفوذها الإقليمي. أن تداول فكرة حرب باردة جديدة هو صنو الوقوع في شراك البوتينية، ورغبتها في العيش في زمن انقضى. نوع المقال: روسيا سياسة دولية الولاياتالمتحدة الامريكية