غالبا ما يعتقد الطلاب الذين يتفوقون في اللغات في المدارس، بمزيد من الفخر، أنه إذا ما مضى كل شيء على ما يرام، فإن الأمر سينتهي بهم إلى أن يصبحوا مترجمين. وينظر الطلاب الآخرون في صفوفهم في دراسة لغة كاللاتينية مثلا، بعين الحسد إلى هؤلاء الطلاب المتفوقين. ولا بد أن هؤلاء الطلاب خلال سنوات دراستهم للمواد الكلاسيكية في المدرسة، وخلال استمتاعهم بتفوق الطلاب الآخرين، قد مضوا يتساءلون عن العمل الذي يحتمل أن يسعوا إلى القيام به عندما يتقدم بهم العمر إلى العالم الحقيقي، وهم يعرفون بداية وبصفة عامة، أن آخر ما يرغبون فيه هو أن ينتهي بهم المطاف إلى العمل مدرسين في مدارس كمدارسهم، وخاصة إذا كان ذلك يعني تدريس المراحل الأولية من اللغة اللاتينية في الصفوف المختلفة. ولا شك أيضا في أنهم بحلول ذلك الوقت سيكونون قد اكتشفوا أن اللغة اللاتينية قد غدت لغة ميتة منذ قرون عديدة مضت، حيث إنه ما من أحد يكتب شيئا جديدا بها، وربما تخطر ببالهم فكرة أن يصبحوا مترجمين للكتب.. ولكن هل خطر ببال أي أحد اليوم أن بعض الكتب الحديثة ينبغي أن يترجم إلى اللاتينية؟ ترى، ما الذي يمكن أن يكون عليه رد فعل جيمس جوياس قبل رحيله عن عالمنا إزاء تقديم روايته "عوليس" في ترجمة لاتينية؟ هكذا فإن المرء يصل إلى الخلاصة المحزنة التي تفيد بأن كل السنوات التي أمضاها في دراسة اللاتينية ليست لها جدوى عملية، ما لم يقتنع المرء بفكرة قضائه عمره في تدريس هذه اللغة في إحدى المدارس. ما الذي يكسبه المرء من دراسة لغة ميتة وتعلم ترجماتها إلى لغته؟ إن المرء بدخوله مجال الدراسات الكلاسيكية، يمكنه الزعم بأنه على الأقل تعلم كيف يضع كلمات غريبة معا لتشكل معنى من نوع ما. وليس من المدهش أن نعلم أن دارسي اللاتينية واليونانية القديمة، يقررون لدى التحاقهم بالجامعة تعلم لغة لا تتاح دراستها في المدارس. فعلى الأقل بمعرفة اللاتينية يتعلم المرء كيف يشكل جملة من كلمات ليست جزءا من حياته اليومية، ولكن لأن الترجمة جزء من تعليم لغة أجنبية، فإنها نادرا ما تتم دراستها من أجل ذاتها. لا يزعم المرء أنه مترجم جيد ثم ينكر أنها شيء مارسه من دون استخدام لغات، فكل لغة لها سماتها الخاصة، وليس من المدهش أن مثل هذا المفهوم المقيد للترجمة يمضي جنبا إلى جنب مع الوضعية المتدنية التي يوضع فيها المترجم، والميزات التي غالبا ما تطرح بين الكاتب والمترجم على حساب هذا الأخير. وقد ألقى هيلير بلوك محاضرة عن الترجمة في عام 1931، اختتمها بالكلمات الدالة التالية: "لم يتم استيعاب أهمية الترجمة ولا صعوبتها بعد". نظرة إلى الترجمة باعتبارها نشاطا ثانويا وبحسبانها "عملية ميكانيكية"، وليس نشاطا "إبداعيا" في إطار كفاءة أي شخص له أرضية أساسية في لغة بعينها خلاف لغته الأم. والأمر كما عبر عنه خبير بقوله: "لا يمكن أن تكون هناك ترجمة مطلقة، أكثر مما يمكن أن تكون هناك قصيدة مطلقة أو رواية مطلقة، وأي تقييم للترجمة لا يمكن القيام به إلا بالأخذ في الاعتبار عملية إبداعها ووظيفتها في سياق بعينه". وهناك ملاحظة مهمة حول اللغة مفادها أنه: "لا توجد أبدا لغتان متماثلتان بما يكفي لاعتبارهما تمثلان الواقع الاجتماعي نفسه، فالعوالم التي تعيش فيها المجتمعات المختلفة هي عوالم متمايزة، وليست العالم ذاته وقد وضعت عليه لافتات مختلفة". إذا ما تم قبول المبدأ القائل بأن التماثل لا يمكن أن يكون موجودا بين اللغات، فإنه يمكن أن يصبح من اليسير الدنو من مسألة "الخسارة" و"الكسب" في عملية الترجمة. إن كل ترجمة تعد وصولا إلى نقطة معينة ابتكارا، وهي باعتبارها كذلك تشكل مصدرا فريدا. يجد المترجم، أي مترجم، نفسه في وضعية صعبة في بعض الأحيان، إذا ما ترجم شيئا ما حرفيا أو كلمة بكلمة، حيث قد تبدو النتيجة غير مألوفة، ولكن تغيير أي شيء، إذا ما وجد نفسه مضطرا للقيام بذلك، سيجعله يبدو كما لو كان قد تخلى عن دور المترجم. ولا ينبغي أن ننسى كذلك أن اللغات تتغير بصورة حتمية مع الزمن، وهذا هو بالضبط ما جعل الهوة تتسع بين اللاتينية الشفوية واللاتينية الأدبية. في قرون مضت، تم تكريس الكثير من الوقت لإنجاز ترجمات للكتاب المقدس وغيره من النصوص المسيحية، وبقيت المشكلة الأساسية: ما الذي يقوله مؤلف ما وكيف يقوله؟ تلك هي مشكلات المترجم. اشتهر إدوارد فيتز جيرالد بترجمته لرباعيات عمر الخيام، وقد أكد أن النص "ينبغي أن يعيش مهما كان الثمن"، ومع تحول أسوأ ما في حياة المرء، فإنه لا يستطيع الحفاظ على الأصل في وضعية أفضل، وقد كان فيتز جيرالد هو الذي أطلق العبارة الشهيرة القائلة "إن من الأفضل أن يكون لديك عصفور حي على أن يكون لديك صقر محنط". وفي الحقيقة، ليس من المبالغة القول إن ترجمته للشعر الفارسي قد جعلت عمر الخيام أكثر شهرة في الغرب من شعراء فرس مشهورين مثل حافظ الشيرازي. وبمرور الوقت، فإن العالم من خلال حشود من الباحثين الذين درسوا اللغات التي كانت مجهولة من قبل، أو لم يكن وجودها معروفا، فتحوا آفاق إمكانيات أكبر أمام المترجم. فاللغات الشرقية مثل العربية، الفارسية، الصينية واليابانية، قدمت جميعها مساهمتها في الأدب العالمي، من خلال جهود رجال ونساء تكبدوا عناء تعلم هذه اللغات، أو من خلال جهود رجال ونساء كانت هذه اللغات هي لغاتهم الأم. وفي وقت لاحق أحرزوا ما يكفي من المعرفة بلغات، مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية.. وهكذا فتحوا الأبواب أمام آداب ظلت مجهولة على امتداد سنوات طويلة. يقال لنا إنه مع مرور الزمن فإن اللغات تتغير، ولكن لغات كثيرة تصبح عتيقة ويتوقف الناس عن تعلمها، واللغات تموت عندما يقرر الذين يتحدثونها الانتقال بمواهبهم واستخدامهم اليومي، إلى لغات أخرى ينظرون إليها على أنها أكثر جدارة.. وهذا يعني في جوهره أن لغات كثيرة تحتضر كل يوم. نوع المقال: عام