عقود من العنصرية العلمانية التي أسسها "مصطفى كمال أتاتورك" بدأت تتلاشى مؤخرا بعد إلغاء حظر الحجاب في الأماكن العامة ومؤسسات الدولة التركية، وذلك بعد 90 عاما من الحظر والمعاناة، والذي تضمنته المراسيم العلمانية عام 1925 ضمن مجموعة من "الإصلاحات" الأتاتوركية بمنع ارتداء أية ملابس ذات مدلول ديني. ودخل قرار رفع الحظر على ارتداء الحجاب في مؤسسات الدولة حيّز التنفيذ، في إطار حزمة الاصلاحات التي أطلقها رئيس الوزراء "رجب طيب أردوغان" والتي تهدف إلى تعزيز الديموقراطية، منها خفض نسبة مشاركة الأحزاب السياسية في البرلمان لتصبح 3% بدلا من 7% وذلك تيسيرا على الأحزاب للانخراط في الحياة السياسية. ولا تقتصر تلك الإجراءات الإصلاحية على النساء، بل تشمل الرجال أيضًا بإعطائهم حرية إعفاء اللحى، باستثناء مؤسسات الجيش والقضاء. ويأتي رفع الحظر بعد إعلان نهاية الشهر الماضي عن حزمة من الإصلاحات لتعزيز الديمقراطية، وقال في خطاب أسبوعي أمام أعضاء حزبه العدالة والتنمية في البرلمان إن القوانين التي تتضمن قيودًا على مظهر النساء والرجال تعد انتهاكًا وتمييزًا ضد حرية الأديان والفكر. وفي هذا الصدد عبر نائب رئيس الوزراء التركي "بكر بوزداغ" عن انتهاء حقبة القمع العلماني للحريات الدينية ففال مغردًا على تويتر: أصبح القانون الذي يتدخّل رسمياً في حرية الملبس وأسلوب الحياة والذي شكّل مصدراً للتمييز والجور بين الناس، شيئا من التاريخ. وكان التضييق على الحجاب قد استحال إلى سواد حالك يلف مواطني الدولة التركية عقب الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال "كنعان أيفرين" عام 1980، حيث منع دستور الانقلاب الصادر عام 1982 المحجبات من دخول سائر الجامعات والمعاهد والمدارس وباقي مؤسسات الدولة، مما دفع نحو 40 ألف طالبة محجبة إلى مغادرة البلاد لاستكمال دارستهن، وعرض المحجبات اللاتي تُقدر نسبتهن ب65% من نساء تركيا إلى تضييق بالغ. ويحاول حزب العدالة والتنمية الحاكم المرة تلو المرة وبتدرج بعيد المدى، حلحلة قضية الحجاب ليصبح بإمكان المرأة التي ترتديه حرية العمل والتنقل في المؤسسات العامة، رغبة في الوصول إلى رفع تام لحظر الحجاب كليا في البلد الإسلامي ذي التوجهات العلمانية المتجذرة، وكان أول من زحزح صخرة العلمانية في تركياهو الأستاذ نجم الدين أربكان، والذي تم الانقلاب عليه في 1982. وكانت أخر التعديلات الطارئة على القضية هو تعديل اللوائح الخاصة بملابس النساء العاملات على الخطوط الجوية التركية والتي تتيح للموظفات ارتداء حجابهن دون أدنى مشكلة، الأمر الذي وصف حينها بأنه انفراجة غير مسبوقة في حظر ارتداء الحجاب في المؤسسات العامة في تركيا. وبموجب القرارات الجديدة تختفي القوانين التي سبق سنها والتي تقول: "يجب الكشف عن الشعر بصفة دائمة خلال العمل"، وهو ما يسمح للموظفات المحجبات العمل بحجابهن بالشركة الجوية التي تملك الدولة فيها حصة قدرها 49.12% وتعد رابع أكبر شركة طيران في أوروبا. وتعد هذه الخطوة حلقة في سلسلة طويلة من العقبات الموضوعة في طريق الحزب، وكان أبرزها قرار مجلس التعليم العالي بمنع أساتذة الجامعة من طرد الطالبات المحجبات من قاعات الدراسة، بل ومثول من يرتكب ذلك أمام التحقيق. وسبق ذلك بطبيعة الحال ظهور زوجة الرئيس التركي عبد الله جول، بحجابها في الاحتفالات الرسمية للدولة بعيد إعلان الجمهورية، وهي أول مرة تظهر فيها امرأة محجبة في هذا الاحتفال المعتاد أن يحضره قادة الجيش، حيث تمنع التقاليد التركية منذ سنوات طويلة زوجات المسئولين في الدولة، إن كنَّ محجبات، من حضور أي مناسبة رسمية يشارك فيها العسكر، باعتبار أن هذا "انتهاك" لمبدأ العلمانية التي رسخها الكماليون. ومن أشهر حوادث الحجاب حادثة منع نائبة إسلامية بحزب الفضيلة الذي كان يقوده الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان بعد انتخابها عام 1999 من أداء القسم وقتها، وتم طردها من البرلمان لكونها محجبة. وبدأت قضية الحجاب تتخذ منحى سياسيًا بعد إعلان أقوى حزب علماني في تركيا (حزب الشعب الجمهوري) اعتزامه على توسيع الحريات وارتداء الحجاب في حال وصوله إلى الحكم؛ الأمر الذي فسره أعضاء في حكومة أردوغان بأنه مجرد دعاية انتخابية لكسب أصوات المتدينين في الانتخابات، لكنه امتدح هذا المسلك من زب علماني على أية حال انطلاقا من حرية الأفراد في ارتداء ما يريدون من ملابس. وتاريخ هذه القضية في تركيا ظهر مع بداية الجمهورية التركية العلمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك (1923- 1938) عندما فرض على المواطنين أزياء الغرب في إطار تطلعه إلى قطع كل ما يربط الناس بالإسلام، فتم حظر ارتداء الطربوش والحجاب وأنواع من اللباس الطويل للنساء. وبعد الانقلاب العسكري الذي قام به كنعان أيفرين 1980 أضاف العلمانيون مزيدا من القيود على المواطنين منها منع المحجبات من دخول الجامعات وسائر المعاهد والمدارس وجميع مؤسسات الدولة؛ ما اضطر آلاف العوائل إلى مغادرة البلاد، بعضهم اتجه إلى أمريكا وبلاد غرب أوروبا وبعض البلاد العربية. وفي ظل تلك الأوضاع التي خيم عليها الاستبداد والقهر اضطرت نساء الأسر التي لم تستطع الهجرة إلى ارتداء القبعات أو الشعر المستعار للتحايل على قرار منع الحجاب.