يرى الدكتور جون فول فى الأطروحة الأكاديمية التى نال بها درجة الدكتوراه فى التأريخ من جامعة هارفارد الأمريكية عام 1971 التى كانت بعنوان «تأريخ الطريقة الختمية فى السودان»، أن قصة العالم الإسلامى فى العصر الحديث هى قصة التعاطى بينه وبين الغرب فى سياق أوضاع العصر الحديث. وأن الهجمة الأوروبية الاستعمارية على بلاد المسلمين فى القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين بالإضافة إلى تصدع الإمبراطوريات الإسلامية التى كانت قائمة: العثمانية والبويهية والمغولية الإسلامية فى الهند (سواء كان ذلك نتيجة للهجمة الغربية أو كان سببًا لوقوعها)، قد دفع المسلمين فى اتجاهات عدة لمناهضة تلك الهجمة والدفاع عن ديار الإسلام ورقعته الممتدة : اتجاه يرجع ضعف المسلمين وقابليتهم للاستعمار لما ابتدع المسلمون فى دين الله من بدع وخرافات لوثت أصول الإسلام المتمثلة فى الكتاب والسنة وأفضى ذلك إلى ضعف المسلمين وأن الحل يكمن فى تنقية عقائد المسلمين والعودة بها إلى ما كانت عليه فى الصدر الأول للإسلام وقد مثّل هذا الاتجاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب الحنبلى فى نجد، وأعلن الجهاد لإنجاز تلك المهمة على الأضرحة والمزارات فأقام مع آل سعود الدولة السعودية الأولى مهتدية بتلك المبادىء. أما الاتجاه الثانى فقد تمثل فى قيام حركات التصوف فى كثير من أصقاع العالم الإسلامى وإحياء عقيدة المهدية لدى أهل السنة، وغاية ذلك الإحياء هو مقاومة الحملة الاستعمارية تحت قيادة المهدى يرجع نسبه إلى الأسرة النبوية أو مجدد للدين مؤيد بالخوارق تحارب معه الملائكة مع جموع المسلمين الهجمة الاستعمارية. وهكذا ظهر المهدى فى بقاع كثيرة فى العالم الإسلامى متأثرا بفكرة الجهاد التى أحياها محمد بن عبد الوهاب لكن وفقا لتصورات صوفية ترى أن المهدى مؤيد بقوى خارقة تنتظر المدد من السماء لدحر الغزاة، وهكذا انتشرت الحركات الصوفية على امتداد العالم الإسلامى حتى أصبحت هى السمة والتعبير عن الإسلام فى تلك الأنحاء. أما الاتجاه الثالث فهو اتجاه برز فى أخريات الحقب الاستعمارية متأثرا بالطبع بما جاءت به من أفكار عصر التنوير والحداثة وهو يرى ضرورة اللحاق بركب النهضة الغربية واتباع ذات الأسباب التى انتهجها الغرب فى النهوض بمجتمعاته ومن ذلك الفصل بين عالمى الدين والدولة نسجًا على منوال عصر التنوير والنهضة حيث ظلت الكنيسة تحتكر تفسير الديانة المسيحية وتسيطر على الحكام وعلى الحياة الثقافية ووقفت حجر عثرة فى وجه العلوم الطبيعية مما حتم التخلص من سيطرتها وحصرها فى أمور التعبد الروحية. والشاهد هنا أن سقوط العالم الإسلامى تحت السيطرة الاستعمارية كان نتيجة لسقوطه من سدة الريادة و لتوقف المسلمين عن صناعة الحضارة والتنحى عن دور الأمة المثلى الأنموذج للبشرية من الناحية الأخلاقية الإنسانية، ومن ناحية التفوق المادى الذى كلما ارتقى ارتقت فرص الارتقاء بكرامة الإنسان وإنسانيته فمن شأن ذلك تحقيق حد الكفاية بسبب الوفرة وقد يرتكس ذلك التفوق المادى بالناس أيضا فى حمأة الشهوات فى غياب منظومة من القيم الرفيعة ( ومن الإنصاف الإقرار بأن الرقى المادى لأوروبا قد جلب معه الكثير من القيم الإنسانية الرفيعة مع ما جلب من إفرازات مصادمة للقيم المشتركة للديانات السماوية الثلاث.). وانتهت ريادة دفة التقدم فى بعده المادى على الأقل إلى أوروبا تأسيسًا على علوم وتقنيات فى العمارة والطب صنعها المسلمون حيث كانت كتبهم فى العلوم والهندسة وعلم الحساب والطب هى عمدة الكتب فى الجامعات الأوروبية حتى بداية القرن السابع عشر الميلادى، (للدكتور أمين حامد زين العابدين رصدٌ ممتازٌ وموثقٌ لذلك نشر سلسلة منها فى مجلة المبتعث السعودية لعام2013 )، وعليه فتخلفُ المسلمين ليس بسبب الدين بل إن بعض مفكرى عصر التنوير كانوا فى معرض المقارنة بين دور المؤسسات الدينية المعادى للتقدم فى أوروبا يشيدون ببساطة الإسلام وعقلانيته المتصالحة مع القوانين الطبيعية، فكأن أوروبا مع بدايات القرن الثامن عشر قد خلعت رداء الذيلية والتخلف وقلدته العالم الإسلامى الذى يعود إليه الفضل فى إخراجها من عصورها المظلمة إلى عصور النور بادى ذى بدء. والعبرة هنا أن الريادة وصناعة الحضارة متاحة عبر امتلاك ناصية علوم الطبيعة بما يحقق أعلى درجات الحرية والتكريم للإنسان، صحيح أن امتلاك ناصية العلوم لا يحقق وحده عالمًا إنسانيًا يسوده العدل والمساواة فى غياب مبادئ سامية تعلى من قيم السلوك الإنسانى لكن غيابه يقعد بأهل العزائم والرفعة الأخلاقية لأن مقاليد الأمور تكون بيد من يملك علم الطبيعة والقدرة على تسخيرها. تزامنت حملة أوروبا الاستعمارية مع تفكك الإمبراطوريات القديمة فيها وولد بعد مؤتمر (ويستفاليا) عام 1648 نظام ( الدولة - الأمة) أو الدولة القطرية وهى دولة مركزية متجانسة عرقا وديانة لتحل محل تلك الإمبراطوريات القديمة التى كانت تضم الواحدة منها مجتمعات متباينة الديانات والأعراق والثقافات. وهكذا برز النظام الدولى الجديد القائم حتى الساعة على ركيزة ( الدولة - الأمة). ومن مشكاة الدولة - الأمة برزت أيديولوجيات القومية فى أوروبا حتى أصبحت من الرسوخ بما يمكن أن يوصف بالإله المعبود، وتراوحت فكرة القوميات هناك تشددا واعتدالا؛ ففى ألمانيا جزم ( فيخته) بارتباط اللغة بالنقاء العرقى واعتبر اللغات الأوروبية الأخرى هجينًا نتج عن هجرة القبائل الجرمانية إلى فضاءات تسود فيها اللغة اللاتينية ولغات أخرى فهى بذلك الوصف ليست فى مصاف لغة (الدويتش) الأنقى التى لم تشبها الشوائب، وعليه فالنظرية القومية قامت على وحدة اللغة لكنها لم تخل كما ورد من شنشنة العرقية العنصرية. وقد فعل الفكر القومى فعله فى المجتمعات الأخرى واعتبر كأنه الأنموذج المفضى بالمجتمعات إلى التطور والنماء كما فعل فى أوربا، لذا فقد تبنت جمعية الاتحاد والترقى فى تركيا فكرة القومية الطورانية وتتريك مكونات الإمبراطورية العثمانية المتباينة التماسًا للتجانس الذى هو عمدة الدولة - الأمة. استفزهذا التطور المجتمعات المتعددة الثقافات فى إطار الإمبراطوية ومن كنانة ذلك خرجت القومية العربية وتراوحت هى الأخرى للمفارقة بين عرقية مرجعيتها الجاهلية الأولى حيث نقاوة اللغة ونقاء العرق إلى اعتدالية رأت استحالة نقاء العرق وجعلت وحدة اللغة أساسًا للقومية عند ساطع الحصرى، وهكذا أدى تبنى الفكر القومى من قبل الأتراك إلى قيام الثورة العربية وانهيار الإمبراطورية العثمانية ضمن عوامل أخرى بطبيعة الحال. ونالت أكثر دول العالم الثالث استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، ووجدت العالم منقسمًا فى حقبة الحرب الباردة إلى قطبين اشتراكى شرقى ورأسمالى ليبرالى غربى فتوزعت أشواق النخب فى ذلك العالم تلتمس أنماطًا عصرية للحكم، وكان أنموذج ( الدولة - الأمة) تركة خلفها الاستعمار فانصب الصراع على أشكال الحكم ومحاولات تطبيق عمياء لم تستدرك أخطاء الاستعمار. يقول فى ذلك وزير خارجية الهند الأسبق ( جاسوانت سنج ) فى كتاب ضخم عن محمد على جناح مؤسس باكستان: إن افتتان( جواهر لال نهرو) زعيم الهند المعروف بنظام ( الدولة - الأمة) المركزية القابضة فى أوروبا واعتماد الديمقراطية على الأغلبية الميكانيكية هو الذى أدى لانقسام الهند وقيام باكستان إذ رفض فى عناد تقديم أى تنازل للأقلية المسلمة وهى أقلية كبيرة العدد كان يمثلها حزب الرابطة الإسلامية بزعامة جناح دعت إلى فيدرالية فضفاضة تتيح للأقاليم قدرًا من السلطة فى إدارة شئونها. ونتج عن إصرار نهرو وحزب المؤتمر على مركزية الدولة انفصال الأقاليم ذات الكثافة الإسلامية فى شرق البنغال وشمال الهند إلى انفصالها وقيام الباكستان. وهو عين ما ذهب إليه الأستاذ محمد جمال باروت : « من هنا ما كان لهذا النموذج ( أى الدولة - الأمة) وحيثما طبق فى المناطق المركبة الهوية إلا أن يحول ملايين السكان بين عشية وضحاها إلى أقليات مضطهدة ، ويقول أيضًا : « إن مصطلحات «القبرصة» و «المقدنة» (من مقدونيا) و« اللبننة » هى نتاج انهيار نظام مؤسسى مركب الهوية، وتوشك رياح العولمة العاتية أن تقضى على ما تبقى من سلطان للدولة - الأمة عبر الدمج الاقتصادى فى اقتصاديات العالم التى تتحكم فيها الشركات متعددة الجنسيات وعبر الحد من سلطات الدولة - الأمة كأمر واقع فى ميادين الإعلام والتربية والثقافة عبر الشبكات العنكبوتية وتزايد تأثير منظمات المجتمع المدنى وهو تطور بقدر ما ينتج من تكتلات اقتصادية كما الحال فى منظمة (بريكس) واقتصادية وسياسية كما فى حالة الاتحاد الأوروبى فإنه يضعف الدولة - الأمة المصطنعة فى العالم الفقير لذلك نرى نذر هبوطها إلى مستوى ما دون الدولة للقبلية والعشائرية والجهويات. وشهدت فترة الاستقلال فى كثير من الدول العربية وبعض الدول الإفريقية صراعًا حادًا بين النخب العروبية فيما بينها وبين المجموعات الإسلامية صرفها جميعًا عن معالجة التركة الاستعمارية فى قيام الدول وترسيم الحدود الذى فرضه التسابق بين الدول الاستعمارية ولم تفرضه ضرورات التجانس كما هو الحال فى أوروبا ليس بالعودة إلى الصيغ الإمبراطورية القديمة ولكن بتدابير كالفيدرالية على مستوى الدولة الواحدة أو بالصيغ الاتحادية الفضفاضة بين أكثر من دولة كانتا فى السابق كيانًا واحدًا درءًا للتصدع الناتج من عدم تجانس تلك المجتمعات وهو ما يحدث الآن فى أكثر من بلد. أما إخفاق النخب الأهم فقد كان غياب مشروع نهضوى يقوم على حقيقة أن المناجزة مع الاستعمار قد انتهت وأن مناجزة أخرى مع التخلف والمرض هى المعركة الوطنية الأهم. صحيح أن نكبة فلسطين قد أعادت المواجهة إلى الواجهة مجددًا لكنها للأسف اتخذت ذريعة للتسلط وتكريس أيديولوجيات معينة لم تفعل للقضية الفلسطينية شيئًا لكنها جمدت حتى مجرد التفكير فى بلورة مشروع نهضوى ينقل المنطقة من دائرة العجز والتردى المستمر إلى العصر. والمشروع النهضوى لا يتم بالنقل الحرفى كما رأينا للتجربة الأوروبية لكنه يتم بتصرف يراعى الخصوصيات الثقافية والحضارية وقد تنبه لذلك رواد الثورة الجزائرية عندما أشاروا فى ميثاقهم إلى أن هدف التحرير هو «إقامة دولة عصرية فى إطار المبادئ الإسلامية» وقد صرفتهم الصوارف عن تحقيق ذلك وعجزُ المسلمين عن اجتهادات تقيم مواءمة بين العصر وبين المبادئ الإسلامية كسياج حضارى تترعرع فى كنفه النهضة وامتلاك ناصية العلوم كما اتفق الآن من النجاح للميراث الكونفوشى فى الشرق الأقصى، فمثلما أن التصدى الذى كان لصد الهجمة الاستعمارية يندرج فى سياق التحرر من سيطرة الإنسان على أخيه الإنسان فإن امتلاك ناصية العلوم والتقانات التى تمكن شعوب ذاك العالم العربى والإسلامى من الاكتفاء من ضرورات العيش الكريم يعد شرطا لازمًا لتحقيق الكرامة الإنسانية. ومن البشارات التى حدثت مؤخرا فى المنطقة تحقيق الديمقراطية فى أكثر من بلدعربى فيما عرف بثورات الربيع العربى مؤخرا أو ما أطلق عليه الدكتور طارق سعيد رمضان « صحوة العرب» التى لا تستحق عنده اسم الثورة حتى تحقق مقاصدها فى الديمقراطية والرفاهية والتقدم لشعوبها فيلزم المحافظة على هذا المكسب الذى يعد شرطا ضروريًا لعملية استئناف البحث عن مشروع نهضوى ينقل الأمة والمنطقة من أوضاعها السيئة الحالية إلى فضاءات أرحب تستشرف بها حقبا من صناعة التقدم؛ ولأن الديمقراطية الوليدة ما زالت قائمة وإن ظلت ضعيفة مهزوزة تجور بها الأزمات طورا وتهتدى إلا أن تبعات بقائها واستمرارها تقع على عاتق النخب جميعا، ونصيب المسئولية فى ذلك فى الدول التى وصل فيها الإسلاميون للسلطة عبر الاقتراع يكون أوفى وأكبر من أنصبة غيرهم عبر الحكمة والتصالح مع الواقع الشاخص فى مجتمعاتهم وإشراك المكونات الأخرى لشعوبهم فى القضايا المتعالية بطبيعتها على الانتماء الحزبى والمذهبى والعقائدى وإزالة المخاوف من التسلط والاعتماد على الشعارات بديلا عن تغيير الواقع البئيس الذى تعيشه مجتمعاتهم. إن المحافظة على مكسب الديمقراطية يعد شرطًا ضروريًا لالتقاط الأنفاس ولمعالجة التركة الاستعمارية وتركة الاستبداد استعدادا لتحديات حقبة ما بعد الحداثة التى ستضعف أكثر الدولة - الأمة وللتأهب لوضع وتنفيذ مشروع للنهضة.