مع النجاحات المتكررة التي يحققها تيار الإخوان المسلمين السلمي عبر الآليات الديمقراطية في كثير من الانتخابات البلدية والنيابية عاد إلى الظهور الحديث عن موقف الإسلاميين عن الوطنية والقطرية بين ذام لها ومتقبل للفكرة. كتب "تركي على الربيعو" في الحياة 4/2/2006 عن "الوطنية المذمومة في الخطاب الإسلامي" يقول بصورة قاطعة (لا نعثر في الخطاب الإسلامي على مفردة "الوطنية" التي تغيب عنه نهائيا). ولا أدري كيف يجرؤ باحث أو كاتب على مثل هذا التقرير ، ويمر دون تعقيب عليه حتى مرور أسبوعين!!! تزول الدهشة إذا أكملنا قراءة المقال فإنه يعتبر مصدره كتاب الصديق "منتصر الزيات" حول الجماعة الإسلامية رؤية من الداخل ، وهذا وأيم الله ، جناية على البحث العلمي والقراءة الجادة. وتعود الدهشة مرة أخرى إذا سرنا مع المقال إلى أن نكتشف أن الخطاب الإسلامي عنده يبدأ من الشهيد "سيد قطب" وينتهي مع الأستاذ "جمال البنا" ولا يستدعي تشابه الأسماء وصلة القرابة اللصيقة للباحث إلى الذهاب إلى شقيق الثاني الإمام الشهيد "حسن البنا" الذي يعد المؤسس الثاني أو الثالث للخطاب الإسلامي المعاصر بعد الأفغاني عبده رشيد رضا. ولم يعفب الكاتب قوله في ثنايا الخطاب "وذلك على سبيل المثال لا الحصر" فالمقولة تستدعي إلى الذهن أنه حصر كل الخطاب الإسلامي ويدلل على صحة فرضيته بأمثلة قليلة. ولكي يعود إلى الاعتدال في البحث يقول :" مع كل نقائض الديمقراطية والوطنية كما يراها الخطاب الإسلامي إلا أن القبول بها أصبح واقعا ومنهجا عند الكثير من الأحزاب ، وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي انخرطت قبل غيرها في اللعبة الديمقراطية وفي المجال السياسي عموما الذي عليه أن ينهض على قاعدة من التعددية السياسية التي تنهض بدورها على قاعدة من المواطنة والمساواة". ينقل عن الكاتب أن شعار "الإسلام هو الحل" شعار تحشيدي لاستقطاب الناس للعملية الانتخابية ، وأنه لا يلغي الوطنية ، بل ينهض على قاعدة من المواطنة في إشارة إلى طمأنة الأقباط. يتساءل الأستاذ تركي الربيعو في نهاية مقاله " هل سيركن الخطاب الإسلامي المعتدل منه والراديكالي إلى هذا الزاد النظري الفقير في الوطنية والمواطنة أم أنه سيطور نفسه كثير في هذا الاتجاه؟. ويتوقع أن يمر الخطاب الإسلامي بحالة مراجعة للكثير من مفاهيمه وأن هناك مرحلة جديدة مازالت ملامحها غير واضحة. *** ثم كتب "عمر كوش" في الحياة اللندنية مرة أخرى في 18/2 حول " في معنى الأمة والدولة والمواطنة" يقرر فيه أن مفهوم الأمة من المفاهيم المركبة تعرض لتغيرات وتبدلات عدة. وأن مفهوم الأمة الإسلامية جرى اختصاره في البعض الأحيان إلى جملة المسلمين فقط رغم أن مفهوم الأقليم بجانب مفهوم الجماعة يتضمن البشر والمحيط. وقد أستدعى مفهوم "دار الإسلام" في مواجهة "دار الحرب" فقط في أثناء الحروب أو حين يتهدد المسلمين خطر خارجي في حين أن مفهوم الجماعة والأمة لا ينفي التعدد والاختلاف ، وأن الدولة الإسلامية نشأت في إطار تعددي. يقرر الكاتب أيضا حقيقة غابت عن الكثيرين مثل : أن دولة المدينة قامت على أساس من التعاقد الاجتماعي الحقيقي وبإرادة طوعية حرة من خلال : بيعة العقبة الثانية وأضيف أنا إليه "وثيقة المدينة" وقد تقرر من خلال هذين العقدين أمران : الأول : أن الأمة مصدر السلطات الثاني : أعطت دولة المدينة حق المواطنة لجميع مواطنيها من دون تفرقة بينهم في لون أو جنس أو دين أو لغة. يشير الكاتب عمر كوش إلى حقيقة تاريخية تغيب عن الشباب الذي لم يدرس التاريخ الإسلامي : إن واقع الحال التاريخي قد اتجه إلى التعدد في الكيانات الإسلامية سواء في الخلافة العباسية في بغداد أم الأموية في دمشق والأندلس ثم نشأت كيانات الغلبة التي ارتبطت بالخلافة العباسية ارتباطا رمزيا أو أسميا ثم كانت محاولة الخلافة العثمانية لتشكيل ما يسمى "الجامعة الإسلامية" التي نجحت إلى حد ما في إدارة التنوع والاختلاف العرقي والمذهبي والديني داخلها ثم فشلت في نهاية عهدها. جاءت الحقبة الاستعمارية التي أدت إلى التجزئة والتبعية ، تجزئة الأمة الإسلامية إلى دويلات قومية بعضها مصطنع تماما (خاصة الثرية منها أو ذات الدور الخاص مثل إمارات الخليج ودول الطوق الشرقي للكيان الصهيوني) برز أثناء فترة المقاومة للاستعمار مفهوم الدولة القومية ، وحيث كان العامل الإسلامي هو الأبرز في عناصر المقاومة والمطالبة بالاستقلال والتحرر. لم يغب مفهوم الأمة عن الحس الشعبي إطلاقا لارتباطه بالمفهوم الديني لوحدة العالم الإسلامي التي كونتها العقيدة والحضارة والتراث وأحيانا اللغة على الأقل عند تلاوة القرآن الكريم. قبل وأثناء ومع الحقبة الاستعمارية نشأ مفهوم الدولة القومية الذي أحدث كما يقول عمر كوش (تأثيرات مهمة على مفهوم الدولة الإسلامية حيث نشأ تعدد من نوع جديد) يعرف الحدود السدود والجنسية والعلم والجيوش والعروش ثم جاءت موجة العولمة في إطار ما بعد الحداثة لتهدد مفهوم الدولة القومية من جديد داخل العالم كله في إطار ما يسمى بالقرية الكونية الواحدة في تهديد واضح لمفاهيم السيادة القومية والدولة والوطنية القومية والعزة القومية والأمن القومي الوطني أو الإقليمي ليحل محله مفهوم جديد عن الأمن والسلم الدوليين واستباحة التدخل في الشئون الداخلية للدول والحروب الاستباقية ليس فقط لمحاربة الإرهاب والعنف بل لمواجهة ما هو أعجب وأغرب في الشئون الصحية (إنفلونزا الطيور كمثال تهدد الصحة العالمية ، وقبلها الإيدز والسارس وجنوب البقر .. إلخ) ومعها وبعدها الهجرة الدولية وخطرها على التركيب السكاني لدول أوروبا وأمريكا .. إلخ. وهنا هبت دول العالم الثالث ومعظمها إسلامي لتحمي ما تبقى من كرامتها وسيادتها واستقلالها مما أعاد إلى الأذهان من جديد مفهوم الدولة الوطنية الذي بات يهدده مفهوم الدولة العالمية والأسواق المفتوحة وأجندة واسعة تحاول الولاياتالمتحدة فرضها عبر الأممالمتحدة في مؤتمرات متعددة ومتكررة حول السكان والطفولة والعلاقات الزوجية والجمعيات الأهلية وهي تتناقض مع نفسها عندما تحرم جلب جنودها أمام العدالة في المحكمة الجنائية الدولية وفي نفس الوقت يرتفع صوتها لجلب آخرين من اليمن كالشيخ عبد المجيد الزنداني أمام محاكمها الخاصة ، وتطالب بفتح الأسواق بينما يرفض أعضاء الكونجرس عقود إدارة 6 موانئ أمريكية كبرى بواسطة شركة من "دبي" وينجحون في وقف الصفقة وتأجيل تنفيذها حتى الآن. لم ينفصل الإسلاميون ولم تغب الحركة الإسلامية عن تلك التطورات الفكرية خاصة وأنهم لا يحلقون في آفاق الأفكار وفقط ولكنهم ينزلون إلى أرض الواقع وأحيانا ينطلقون من الواقع لبناء نظرية فكرية وصدق حسن البنا مؤسس أكبر حركة إسلامية شعبية في القرن العشرين الميلادي عندما وصف حركته بقوله: " نحن قوم عمليون". *** بدأت الفكرة القومية والدولة الوطنية تبرز في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وكانت ذروتها في الثورة الفرنسية وإصدار إعلان حقوق الإنسان ، وقامت الدولة القومية في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا على أنقاض الإمبراطوريات السابقة التي خلفت دول العصور الوسطى التي تحالفت فيها الكنيسة مع الأباطرة الإقطاعيين. في هذه الأثناء كانت الإمبراطورية العثمانية هي التي تسيطر على المنطقة من أرض الرافدين إلى الجزائر تقريبا. وكانت فكرة إصلاح الإمبراطورية هي السائدة في أذهان المفكرين الإسلاميين ودعاة النهضة والساسة. حمل في نهاية القرن التاسع عشر لواء الفكرة الإسلامية "جمال الدين الأفغاني" ومرجعنا الأساسي في هذا الموضوع هو السفر العظيم للأستاذ الدكتور محمد محمد حسين أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة الإسكندرية "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" في طبعته الثانية عام 1382ه (1962م) "مكتبة الآداب بالقاهرة". يقرر الدكتور في مقدمة الطبعة الثانية عن النزاع الذي طرأ في البلاد العربية بين نزعة إسلامية تليدة موروثة تمثلت في التعلق بفكرة "الجامعة الإسلامية" وبين النزعات القومية الطارئة التي أطلت على المنطقة مع أوائل القرن الرابع عشر الهجري ( العشرين الميلادي) والمعارك التي تفرعت عن ذلك حول الوطنية الخالصة وبين النزعة العروبية بعد الفرقة الطارئة فكان نزاع بين النزعات الإقليمية وبين النزعة العربية ثم ما هو تصور العروبة : هل هي امتداد للإسلامية السابقة؟ أم هي صورة من القوميات الغربية اللادينية؟ يقول الدكتور :" لم يكد الخلاف فيها جميعا يخرج عن اتجاهات ثلاثة: اتجاه يدعو إلى العودة لينابع الإسلام الأولي؛ واتجاه آخر يدعو لاحتذاء الغرب وتتبع خطاه؛ واتجاه ثالث يدعو إلى إسلامية متطورة يفسر فيها الإسلام تفسيرا يطابق الحضارة الغربية ، ويبرر أنماطها وتقاليدها الكتاب يتناول الفترة التاريخية من الثورة العرابية إلى قيام الحرب العالمية الأولى ، ويقتصر على مصر فقط ، ويبحث أساسا في انعكاس الأفكار على الأدب المصري شعرا ونثرا. واهتم بتوضيح الخطوط الرئيسية والاتجاهات العامة والتيارات الأساسية. سياسيا حمل لواء الجامعة الإسلامية "مصطفى كامل" الزعيم الوطني المصري المعروف وبدأت المزاوجة بين الفكرة الإصلاحية والمفهوم الوطني البعيد عن الجامعة الإسلامية مع فشل الثورة العرابية وقدوم الاحتلال الإنجليزي وزيادة النزعة القومية الطوارنية في تركيا عاصمة الإمبراطورية العثمانية. كان الأب الروحي للوطنية المصرية الإصلاحية هو الإمام الشيخ محمد عبده. ففي مدرسته تخرج آباء الوطنية المصرية السياسيون مثل أحمد لطفي السيد " وسعد زغلول وقاسم أمين وغيرهم. كانت سنوات المنفى للإمام محمد عبده ، وانفصاله عن أستاذه "الأفغاني" ومحاوراته مع فلاسفة الغرب مثل "سبنسر" و"هاناتو" ومجادلاته مع "فرح أنطوان" وغيره من الأسباب التي دفعته إلى بللورة فكرة جديدة تعتمد التجديد والإصلاح وتنزع إلى الهدوء بدلا من الثورة ، والتفاهم مع المحتل بدلا من المواجهة ، وإصلاح التعليم الديني الأزهري لقيادة التجديد الديني بدلا من الانصراف عنه إلى التعليم المدني.. إلخ. مات الإمام 1905م وازدهرت المدرسة الوطنية مع ثورة 1919م بعد محنة الجامعة المصرية بسبب الفتنة الطائفية التي أعقبت اغتيال بطرس غالي باشا وعقد المؤتمر القبطي الأول وما تلاه من أحداث، وكان تلامذة الإمام هم قادة الحركة الوطنية قبل وبعد الحرب الأولى. عادت الفكرة الإسلامية بقوة بعد انهيار الخلافة الإسلامية وخلع الخليفة عام 1924م وراودت البعض أحلام تولي الخلافة مثل الملك فؤاد في مصر والشريف حسين في مكة وغيرهما. ما يهمني هنا أن الحركة الإسلامية الشعبية " الإخوان المسلمون" استطاعوا بلورة رؤية واضحة نحو فكرة "الوطنية" وأيضا "الوطن" وما يجره ذلك من القضايا الوطنية الخالصة بجانب الهموم الإسلامية والعربية. وهذا ما فات الباحثون والكاتب "الربيعو" الإشارة إليه وانتقلوا مباشرة إلى حديث الشهيد "سيد قطب" واعتبره معبرا عن الخطاب الإسلامي وحده. *** قال حسن البنا في رسالة دعوتنا ( ولا يوجد لدى تاريخ لنشرها وأعتقد أنه في بداية الثلاثينات لأنها من أوائل الرسائل التي كتبها البنا) قال : "وموقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ، ففرقت القلوب وبلبلت الأفكار أن نزنها بميزان دعوتنا ، فما وافقها فمرحبا به ، وما خالفها فنحن منه براء ، ونحن مؤمنون بأن دعوتنا عامة محيطة لا تغادر جزءا صالحا من أية دعوة إلا ألمت به وأشارت إليه " . ثم بدأ بدعوة " الوطنية " وفصصها إلى أجزاء ومكونات : وطنية الحنين ، وطنية الحرية والعزة ، وطنية المجتمع ، وطنية الفتح ، وطنية الحزبية. ثم قال : " ها أنت تري أننا مع دعاة الوطنية ، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد ، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوى الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام. ثم أضاف إلى فكرة الوطنية معاني أخري حول : حدود الوطنية ، وغاية الوطنية . ويقول في ختام العرض : " أفرأيت بعد هذا كيف أننا متفقون مع أشد الناس غلوا في الوطنية في حب الخير للبلاد والجهاد في سبيل تخليصها وخيرها وارتقائها ، ونعمل ونؤيد كل من يسعى في ذلك بإخلاص ، بل أحب أن تعلم أن مهمتهم إن كانت تنتهي بتحرير الوطن واسترداد مجده فإن ذلك عند الإخوان المسلمين بعض الطريق فقط أو مرحلة منه واحدة ، ويبقي بعد ذلك أن يعملوا لترفع راية الوطن الإسلامي على كل بقاع الأرض " . رسالة دعوتنا.ص22 مجموعة الرسائل/ط المؤسسة الإسلامية/ بيروت/ط ثالثة 1983ه. ويقول في رسالة التعليم في ركن العمل : " ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق : 1- إصلاح نفسه 2- تكوين بيت المسلم 3- إرشاد المجتمع 4- وتحرير الوطن بتخليص من كل سلطان أجنبي غير إسلامي سياسي أو اقتصادي أو روحي " . مجموعة الرسائل سابقة ص 360 وفصل مراتب الوطن عند الإخوان في رسالة إلى الملك فاروق وملوك وحكام بلدان العالم الإسلامي كلها ورئيس حكومة مصر النحاس باشا عام 1945 م. والوطن في عرف الإسلام يشمل : 1- القطر الخاص أولا . 2- ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى فكلها للمسلم وطن ودار. 3- ثم يرقي إلى الإمبراطورية الإسلامية الأولي التي شادها الأسلاف بدمائهم الغالية العزيزة فرفعوا عليها راية الله ، ولا تزال آثارهم فيها تنطق بما كان لهم من فضل ومجد ، فكل هذه الأقاليم يُسأل المسلم وبين يدي الله تبارك وتعالي : لماذا لم يعمل على استعادتها ؟ 4- ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعا ، ألست تسمع قول الله تبارك وتعالي : " وقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ " وبذلك يكون الإسلام قد وفق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جميعا : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا " ( الحجرات ) . رسالة " نحو النور " مجموعة الرسائل ص 78 . إذن هذا حديث عن الوطن والوطنية يمكن أن تتفق معه ويمكن أن تختلف مع بعضه ، لكن أن يقول كاتب إننا لا نعثر في الخطاب الإسلامي على مفردة الوطنية ، كما قررّ تركي علي الربيعو فهذا اجتراء على الحق والبحث والنظر. ولنا عودة إلى حديث البنا وتطبيقاته العملية واهتماماته هو والإخوان بالقضية الوطنية والقومية العربية وحركات التحرر الوطني.