الفاتيكان والكرسى الرسولى رمزان لكيان متناقض التكوين، متشعب الخلفيات والأهداف؛ فهو ينعم بوضع متفرد لا مثيل له فى العالم، عن غير وجه حق، كما أنه نموذج واضح لكل ما هو غريب وغير منطقى، ورغم ذلك لا أحد يتكلم أو ينتقد إلا على استحياء -ولا نقول: يطالب بالتصويب- إلا فيما ندر؛ فتبدو كومضات ما إن تشرئب حتى تخبو فورا!. ويمكن إيجاز وضعه الداخلى بعبارة شاملة: أنه شهادة على ماضٍ تاريخى قد ولّى شكلا، لكن حاضره لا يزال يحمل ويواصل ما كان عليه من الجبروت. وإن أضفنا شيئا ما فيما يتعلق بالظاهر البرّاق، لقلنا إنه يسيطر على العالم بثرواته ومؤامراته. وإن بحثنا بشىء من الدقة لوجدناه قائما على التزوير والتحريف، سواء فى تكوينه منذ العصور الأولى، أو فى نصوصه الدينية والمدنية؛ وذلك على مدى عمره، وفى تدخلاته فى الشئون الداخلية لمختلف البلدان، منذ نشأته وحتى يومنا هذا!. وعلى الرغم من كونهما مؤسستان مختلفتان قانونا من حيث الشكل والمضمون؛ فإنهما فى واقع الأمر تمثلان واجهتان لعملة مزيفة واحدة؛ إذ يمكن القول إن الفاتيكان هو المقر الإدارى للكرسى الرسولى ولقداسة البابا. والفاتيكان فرضا هو "دولة رسمية" غُرست فى مدينة روما بإيطاليا، يوم 11 فبراير 1929، عن طريق اتفاقات لاتران، بهدف أن تكون الدعامة الأساسية التى يقوم عليها الكرسى الرسولى . ومساحة الفاتيكان عبارة عن 44% من الكيلومتر المربع، والطول الأقصى لهذه "المدينة" الهلامية 1045 مترا، وعرضها 850 مترا، وهو ما يجعل منها أصغر دولة فى العالم؛ فهى ثلث مساحة إمارة موناكو، وتقارب 20% من مساحة غابة بولونيا فى مدينة باريس بفرنسا. وثلث هذه المساحة تحتلها المبانى، والثلث الثانى بعض القصور والممرات، والثلث الأخير حدائق ومتنزهات. وتمثل هذه المدينة المقامة بجوار مقبرة بطرس الرسول أكبر تطور معمارى حضارى فى التاريخ؛ فمن مقبرة مزعومة، قد ثبت حديثا عدم وجودها أصلا، قد تطورت بالتحايل والأحاييل إلى كيان من الكيانات المسيطرة على العالم. خلفيات لا بد منها يضم الفاتيكان مجمل منشآت الكنيسة الكاثوليكية الرومية. ولغته الرسمية الداخلية هى الإيطالية وليست اللغة اللاتينية التى هى لغة الكنيسة الكاثوليكية الرومية، وإن كانت اللاتينية هى اللغة القانونية لدولة الفاتيكان، التى تكتب بها النصوص الرسمية ثم تُترجَم إلى عدة لغات، إلا أن اللغة الفرنسية هى لغة الفاتيكان الدبلوماسية؛ لأن الفاتيكان يسجل نفسه فى المنظمات الدولية على أنه دولة فرانكوفونية. و"الكرسى الرسولى" هى العبارة القانونية للحكومة المركزية للكنيسة الكاثوليكية. ولعل اختياره الفرنسية لغة دبلوماسية يرجع إلى رغبته فى الحفاظ على خيط ثابت لسيطرته على فرنسا (المحور الأساس لأوروبا)، بدليل أنه عقد اتفاقا ينص على أن رئيس الجمهورية الفرنسية يكون فى الوقت نفسه الرئيس الفخرى لكنيسة سان جاك دى لاتران!. وكل رئيس فرنسى جديد عليه، فور توليه الرئاسة، أن يتوجه إلى روما ويحضر القداس الذى يقيمه البابا، وأن يلقى أمامه بخطاب هو عبارة عن تجديد ولاء فرنسا، حكومة وشعبا، للفاتيكان والكرسى الرسولى؛ ما يضع علامات استفهام عديدة حول إعلان فرنسا العلمانية وفصل الدين عن الدولة. وصغر حجم الفاتيكان لا يسمح لها باحتواء كل العاملين بها؛ لذلك امتدت تشعباتها فيما حولها. وهو ما لم تنص عليه اتفاقات لاتران التى أنشأتها، لكن ما من أحد يمكنه الاعتراض، إلا على استحياء !. وبخلاف ملكيته بعض البازليكات والقصور -ومنها القصر الصيفى للبابا "كاستل جوندولفو". ويقع على أكثر من 40 هكتارا- توجد عشرات العمارات تضم العاملين لديها، بخلاف أربعمائة هكتار فى ضواحى روما أقيمت عليها محطة الإذاعة الخاصة بها "راديو الفاتيكان" ومكاتبه، وهو يذيع بأكثر من ثلاثة وثلاثين لغة؛ وذلك عدا عشرات العمارات الأخرى ومئات العاملين وآلاف الأفراد الموزعين فى مؤسسات متعددة، ومطبعة تعمل بأربعة وتسعين لغة، ودار نشر، وجريدة يومية هى "أُسرفاتورى رومانو"، ومكتبة متفردة فى مقتنياتها من الوثائق والمخطوطات من مختلف العصور والأعمال الفنية النادرة، ومرصد، ومطار للطائرات المروحية. وبعد انتهاء مجمع الفاتيكان الثانى عام 1965، أنشئت إدارات جديدة، إحداها مسئولة عن وحدة المسيحيين، وأخرى لغير المسيحيين، وثالثة لغير المؤمنين، ورابعة للعلمانيين، وللسلام وحقوق الإنسان، وغيرها لأمريكا اللاتينية، وللهجرة والسياحة، أو لوسائل الاتصالات الاجتماعية. ومن الصعب حصر عدد العاملين فى كل هذه المؤسسات واللجان؛ فالأرقام تتغير وفقا للمصدر، لكن ذلك يكشف فى الوقت نفسه عن مدى تداخل الفاتيكان والمؤسسات التابعة له؛ لا فى إيطاليا وحدها، بل فى المجتمع الدولى بأسره. أما الكرسى الرسولى، فيعود إلى أيام بطرس الرسول، كما تقول الكنيسة. وقد قُتل هذا الرسول عام 64 ميلادية، أيام اضطهاد نيرون، ويقولون إنه دفن فى المكان الذى تقام عليه البازليكا المعروفة باسم "القديس بطرس"، وهى أكبر كنيسة بنيت فى التاريخ. والكرسى الرسولى هو مقر البابوات الروم خلفاء بطرس الرسول، وكان يمثل الكيان المسئول عن الكنيسة الكاثوليكية قبل أن يكون رمزا للكاثوليكية. وهو الذى أنشأ مدينة الفاتيكان بالاتفاق مع الحكومة الإيطالية، بموجب اتفاقات لاتران، وهو المعترف به فى القانون الدولى؛ إذ إن سفراء دول العالم يُعتمدون فى الكرسى الرسولى. والكرسى الرسولى يرسل مندوبيه لتمثيله فى الدول التى وقّع معها بروتوكولا دبلوماسيا. وقد أدت اتفاقات لاتران عام 1929 إلى بدعة جثورة، اختلف حولها المشرّعون، ولم تقبل كل الدول بهذه القرارات، لكن ما من دولة جرأت على الاعتراض رسميا على إقامة الفاتيكان، بل ولم يكن فى وسعها أن تعترض رسميا. وفى واقع الأمر، لا يوجد أثر يدل على الأصل التاريخى لمكان الفاتيكان؛ فالمنطقة على مرتفع إيطالى مقامة عليه مدينة روما. وأيام الإمبراطورية الرومانية كانت مباريات عربات الخيل تقام فى ساحة منطقة جبل الفاتيكان. ويقول الأسقف "پول پوبار" (P. Poupard) فى كتابه عن "الفاتيكان": "وفقا لتراث تاريخى بعيد، يقال إن بطرس الرسول قد جاء إلى روما ليقيم بها كنيسة فى قلب الإمبراطورية، وإنه ذُبح فى هذه المنطقة التى كان تُعدَم فيها القرابين البشرية. وقد أكد ذلك كليمون أسقف روما فى خطاب إلى الكورنثيين فى أواخر القرن الأول، كما يؤكده إجناسيوس أسقف إنطاكيا فى سوريا فى خطابه إلى الروم الذى كتبه لهم من مدينة إزمير ربما فى عام 107، أيام حكم تراجان. وفى مطلع القرن الثالث ظهر التراث القائل بأن مبشر الجليل -أى بولس هذا- قد صُلب ورأسُه إلى أسفل، مثلما هو ممثل على جدارية من القرن الخامس عشر فى أحد كهوف الفاتيكان تحت البازليكا، كما أن المؤرخ يوسبيوس قد احتفظ لنا بوثيقة من القس الرومانى جايوس تشهد بأن قبر بطرس فى الفاتيكان. وقد شُيد أول مبنى تكريما لذلك الرسول بقرار من قسطنطين، أول إمبراطور مسيحى، غالبا حوالى عام 322، بعد عشر سنوات تقريبا من مرسوم ميلانو" . و"مرسوم ميلانو" هذا هى الوثيقة التى أصدرها الإمبراطور قسطنطين ليسمح بموجبها للمسيحيين بأن يمارسوا ديانتهم مثل باقى الديانات الموجودة فى الإمبراطورية. أى أن المسيحية حتى ذلك التاريخ كانت تُحارَب رسميا وبضراوة؛ فما بالنا فى القرنين السابقيْن؟!. وما تقدم من استشهاد للأب "پوپار" هو عبارة عن نموذج يوضح كيفية اختلاق الأصول التى دأبت المؤسسة الكنسية على فبركتها، فتبدأ بكذبة ثم تُصدَّق، ثم تُقنَّن، ثم يُبنَى عليها.. وهنا، القصة تعتمد على تراث شفهى لا سند تاريخيا له سوى عبارة "يقال" التى تدين الحدث أكثر مما تؤرخ له. وهى قصة غير منطقية من أساسها فى وقت كان يعانى فيه النصارى اضطهادا كاسحا. وثابت تاريخيا أنه لم يكن من العُرف تشييد مقابر لمن يُعدَمون من الخارجين على القانون أو المجرمين فى نظر الدولة الرومانية، بل كانوا يُتركون جثثا للطيور الجارحة وللحيوانات المفترسة لتلتهمها وليكونوا عبرة لغيرهم؛ فقصة مقبرة ترجع إلى عام 64 لبطرس الرسول -الذى كان فى نظر الإمبراطورية الرومانية خارجا على القانون ومثيرا للقلاقل ويهدد الديانات القائمة، بل والذى أُعدم فعلا- هى يقينا قصة تلفيقية اختلق الأسانيد التاريخية لها، رجال دين كنسيون مشهود لهم بالتزوير، لترسيخها وللتعامل معها والبناء عليها على أنها حقيقة مؤكدة!. والطريف أنه فى عام 1969، اعترفت الأكاديمية البابوية للآثار أن مقعد أو عرش القديس بطرس فى روما هو فى الحقيقة عرش الإمبراطور شارل الأصلع (Ch. Le Chauve)، الذى استُخدم عند تتويجه فى سنة 875!. وما من أحد منهم اهتم بتصويب الفرية الدينية "الورعة" المبنى عليها الفاتيكان. وما أكثر الوثائق المزيفة التى استُخدمت لتشييد هذا الصرح الفاتيكانى!، وأهمها "وثيقة هبة قسطنطين"، وغيرها كثير، حتى تم اشتقاق عبارة لها مغزاها تسمّى "التزوير الورع"!. العدد القادم (وثيقة "هبة قسطنطين) الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة