معلوم أن الفكر النقدي، قد تبلورت معالمه، عند علماء المسلمين في عصر الرسالة وبعده، تحت نهج العملية الاجتهادية التي رسمها الشارع الحنيف، وذلك أن الأدلة الشرعية محصورة معدودة فيما يتعلق بالكتاب والسنة، ولكن ينطوي تحتها معاني أصولية، يندرج فيها جميع الحوادث المستجدة، والمسمى الآن فقه النوازل، من جهة لحوقها بتلك الأصول وهذا سر قول الشرع الإسلامي؛ بصلاحيته لكل زمان ومكان؛ فتعدد تلك الأصول والمنطوية تحتها معاني جامعة للحوادث المستجدة؛ سبباً في إبراز العمل الاجتهادي لتنزيل فقه النوازل على تلك الأصول، وما إن برز بعملية لحوق الفروع إلى الأصول؛ القياس والتي هي مادة الاجتهاد. فكان العملية الاجتهادية باب من أبواب النقد الفكري على صعيد الاجتهاد في معرض النص الظاهر والمجمل والمشكل وعلى صعيد القياس والأدلة المختلف فيها والتي ظهرت بعد ظهور كنوز معالم القياس –مادة الاجتهاد- وكان من ضمن تلك النقود النقد الفكر المقاصدي، إلا انه لم يدون كما دون القياس والاستحسان والأدلة الأخرى، وكان أول من بذر نبتته وبنى لبنته الإمام الجويني في كتابيه البرهان في أصول الفقه وغياث الأمم في التياث الظلم، ولكن بقيت قواعد ذلك العلم متناثرة بين كتب أصول الفقه والحديث والتفسير والفقه نفسه، حتى بروز نجم الإمام الشاطبي الغرناطي الإسباني في القرن الثامن الهجري، فأسس نظريته المقاصدية في كتابه الموافقات والاعتصام. وإليك بيان نقده المقاصدي من خلال طرحه لفكرة الجمع بين كليات الشريعة وجزئياتها. اقتضت الإرادة الإلهية منذ بدء الخليقة تزويد الإنسان بنعمتين من أعظم النعم، هما العقل والدين، وكل منهما يتكامل مع الآخر من أجل سعادة الإنسان في دنياه وأخراه، والذين يدركون مقام العقل في الإسلام لا يمكن أن يخطر ببالهم إمكانية تغييب هذا العقل. لقد كانت المعجزات قبل نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم مادية تدهش العقل فتشله عن التفكير، أما عندما بلغت الإنسانية سن الرشد وشاء الله ختم رسالات السماء إلى الإنسان كانت معجزة الإسلام عقلية لا تدهش العقل فتشله عن التفكير، وإنما تستثيره وتستحثه على التفكر ولذلك جاء الحديث الصريح عن العقل في القرآن في 49 آية وجاءت مئات الآيات التي تتحدث عن مرادف العقل مثل اللب والتدبر والفكر والحكمة وغيرها، ولقد جاءت كثير من آيات القرآن تستخدم المنطق والعقل في الاستدلال: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء-22). لكن واقعنا المشاهد اليوم يؤكد ما يمكن أن نطلق عليه «الأمية الفكرية» أو الفقر المعرفي والديني وهو ما ظهر أثره على الشباب مما يشكل خطراً وإساءة للإسلام، ونظرا لتعدد ميادين الفكر تعددت ميادين الأمية الفكرية، فهناك أمية في الفكر العلمي، وأمية في العلوم العقلية، وأمية في الآداب والفنون وأمية في الفكر السياسي، وفي الفكر الاقتصادي وأمية في العلوم الشرعية والدينية. وهناك أبعاد كثيرة تقف وراء هذه الأمية منها: - غياب المؤسسات الثقافية والتعليمية في الاضطلاع بالدور الحقيقي المنوط بها في قيادة المعلم والمثقف. فلم نعد نرى المربي المثقف الذي يحب مهنته ويسعد بتربية الأجيال بالقدوة والفكر السليم، وأصبح أسلوب التعليم عندنا لا يحمل ثقافة ولا يثري فكرا، حتى أصبح الطلاب معبئين بالمعلومات عن طريق الحفظ والتلقين دونما التركيز على الفهم والتفكير والإبداع. - أضف إلى ذلك كارثة العولمة التي سرقت منا شبابنا في كل شيء: المأكل والملبس والفكر والثقافة.. الخ، فضلا عن الاستخدام السيئ للأجهزة الالكترونية التي أخذنا منها أسوأ ما جاءت به، حتى أصبح الشباب يجيدون معرفة المفاتيح الالكترونية، ولكنهم بكل أسف لم يعرفوا المفاتيح الإنسانية. - تراجع المؤسسات الدينية وغياب دور المسجد في التوعية والإرشاد ونشر الدين الوسطي الصحيح الذي يجمع بين التراث ومستجدات العصر. - الادعاء: وهو مرض استشرى بين بعض الناس الذين يخيل إليهم أنهم بمعلوماتهم البسيطة والضئيلة قد بلغوا مرتبة العلماء، فبدلا من أن يجلسوا مجالس المستفتين ويتحلوا بأخلاق طلاب العلم، نراهم يجلسون مجالس الإفتاء وهم إلى الجهل والفقر المعرفي أقرب! والحالة الفكرية المثلى أراها تتمثل في التزويد بالثقافة المتوازنة التي تجمع بين العقل والنقل، والتجربة والوجدان، والتي تجعل صاحبها على وعي بالذات وبالآخر، وبالتاريخ والمستقبل والمصير. - هذا يدخل ضمن قضية تجديد الخطاب الديني الإسلامي، وهي قضية مركبة، بل ومعقدة، وفي الحديث عنها ما هو طيب وضروري ومشروع، وما هو خبيث ومغلوط ومرفوض. والكلام في ذلك يحتاج إلى عدد من المقدمات: المقدمة الأولى: التجديد في الفكر الإسلامي، وهذا التجديد ليس مجرد أمر مشروع وجائز ومقبول، وليس مجرد حق من حقوق العقل المسلم على أهل الذكر والاختصاص من علماء الإسلام، وإنما هو سنة وضرورة وقانون، ومن دون التجديد الدائم والمستمر للفكر وللفقه وللخطاب الإسلامي، تحدث الفجوة بين الشريعة الإسلامية التي هي وضع إلهي ثابت ومقتضيات ومتطلبات الواقع المتغير والمتطور دائمًا وأبدًا مما يعني أن الجمود والتقليد في الفكر والفقه والخطاب الإسلامي لن يفضيا إلا إلى «انفلات» الواقع المتطور أمام حاكمية الشريعة الثابتة، ويعني أيضًا العجز عن جعل هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فتغيب حجة الله على عباده، وهدايته لخلقه، بعد أن ختمت الشرائع السماوية بشريعة الإسلام ، فكون هذه الشريعة الإسلامية هي خاتمة شرائع السماء إلى الإنسان، والتي ترتهن صلاحيتها لكل زمان ومكان، بالتجديد الدائم في الفكر والفقه والخطاب الإسلامي .والمقدمة الثانية: أن حاجة المسلمين أمام هذا «الغزو الفكري» الذي جاء في ركاب «الغزو العسكري» إلى تجديد الفكر والفقه والخطاب الإسلامي أكثر ضرورة وأشد إلحاحًا؛ لأنه هو السبيل لتقديم «البديل الإسلامي» الصالح لتلبية احتياجات ومتطلبات ومستجدات الواقع الجديد، وذلك حتى يمتلئ الفضاء الإسلامي بالبديل الإسلامي، فيزول «الفراغ» الذي صنعه الجمود والتقليد، والذي يسعى التغريب الوضعي العلماني لملئه والتمدد فيه. - الحديث عن العقوبات في أي تشريع سواء كان دينيا أو وضعياً يتطلب النظر إليها في إطار منظومة متكاملة لهذا الدين أو الفلسفة أو النسق الفكري. وعند ذلك ستكون العقوبات هي الضامن لحقوق الإنسان، ولن تكون مضادة لحقوق الإنسان كما يظن الذين لا يرون من الشريعة سوى العقوبات. - إن أهم شرط من شروط الحوار هو الاعتراف المتبادل والقبول المشترك بين أطراف الحوار، وهو ما يعني الاعتراف بسماوية هذه الأديان دون أن يستلزم ذلك الانتقال من دين إلى آخر، وهذه هي الصيغة الإسلامية في العلاقات بين الأديان السماوية، التي تشبه كثيرا العلاقة بين الأحزاب في أي مجتمع من المجتمعات. فالكل يعترف بالآخر مع احتفاظ كل حزب ببرنامجه الذي يسعى للتقدم من خلال تطبيقه، وهذا المعنى يبدو جليا في قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «الأنبياء أولاد علات (أي إخوة من الأب) أمهاتهم شتى ودينهم واحد».أما الذي نشاهده حالياً فهو اعتراف من أتباع الإسلام بالآخر، بينما نجد هذا الآخر لا يعترف به دينا سماويا حتى أن الوفود الإسلامية المشاركة في مثل هذه الحوارات تجلس في صفوف الديانات الوضعية، فيصبح هناك طرف يرسل والآخر لا يستقبل مما جعله يبدو كأنه حوار مع الذات وليس مع الآخر. - إن تراجع الأزهر، وكذلك ازدهاره، تابع لخط سير الأمة وحضارتها، ولكن الأزهر ظل طوال تاريخه مركز المقاومة وطليعة النهضة والتجديد، وساعده على ذلك كونه مؤسسة الأمة، واستقلاله عن السلطة. ونجد أن هبوط مستوى الأزهر بمعاهده وكلياته هو جزء من الهبوط العام الذي أصاب معظم المؤسسات في مجتمعنا، بدءا من الجامعات المدنية، إلى الثقافة، إلى الصحافة، إلى التعليم العام.. الخ، ولكن الرسالة المتميزة للأزهر جعلت الغيرة عليه وعلى رسالته أشد وأكبر. وعندي بعض المقترحات للاهتداء بها هي: أولاً - أن يبدأ التشعيب في التعليم الأزهري من المرحلة الإعدادية إلى قسمين ( شرعي ومدني )، وليس ( أدبي وعلمي )، وأن تعود مدة التعليم في القسم الشرعي بالمعاهد الأزهرية كما كانت قديما (4 سنوات للإعدادي، 5 سنوات للثانوي)، بحيث يدخل هذا القسم الشرعي حفظة القرآن الراغبون في أن يكونوا متخصصين في الشريعة وعلومها والعربية وآدابها. وهؤلاء هم الذين يدخلون كليات الشريعة وأصول الدين والدعوة والدراسات الإسلامية واللغة العربية، بينما تظل الدراسة بالقسم المدني على ماهي عليه مثل المدارس العامة، وهؤلاء هم الذين يدخلون الكليات المدنية. ثانياً - فتح أبواب كليات الأزهر التقليدية أمام خريجي الجامعات المدنية الراغبين في التخصص في العلوم الشرعية، الذين ينظرون للدعوة الإسلامية على أنها رسالة وليست وظيفة. ثالثاً - إحداث إصلاح جذري في المناهج والمقررات التي تدرس بالكليات الأزهرية التقليدية بحيث يدرس الطالب- مع القرآن والسنة وعلومهما- إبداعات العصر الحضاري الأول، وإبداعات عصر الإحياء والتجديد الحديث، وذلك بدلا من المذكرات التي لا هدف من ورائها سوى الربح المادي. رابعاً - تكوين أوقاف جديدة كمصدر للإنفاق تكفل للأزهر استقلاله المالي عن ميزانية الدولة ليعود له الاستقلال الفكري. الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة