بقلم: محمد السخاوي (1) إن القانون الأساسي الذي يحكم حركة كل طرف من طرفي أي صراع هو أن كل طرف منهما يسعى بكل ما منحه الله من إمكانيات مادية وغير مادية أن يعظم من إمكانياته ويعبئها وهو يخوض الصراع ضد الطرف الآخر ، كما يسعى كل طرف منهما إلى توسيع دائرة حلفائه وأصدقائه الذين يناصرونه ويقفون بجانبه عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ، ويسعى أيضاً كل منهما إلى الاهتمام بأن يحول الذين لم يستطيع أن يجعل منهم حلفاء أو أصدقاء إلى محايدين ، هكذا تكون دوائر الحركة لكل طرف ثلاث دوائر : [1] دائرة الحلفاء الذين يدعمونه عملياً في أرض المعركة . [2] دائرة الأصدقاء الذين يدعمونه دبلوماسياً . [3] دائرة المحايدين الذي يقفون على الحياد من الصراع الدائر بين الطرفين . والمهم الذي يجب أن نعيه هو أن متانة البنيان الداخلي لكل طرف وبالذات في جانبه البشري (الوحدة الوطنية والقومية) تكون بمثابة القواعد التي تبني عليها الدوائر الثلاثة المذكورة ، ودائما تكون العلاقة بين هذا البنيان وهذه الدوائر ذات طبيعة طردية ، فكلما تعمقت وتوسعت وترابطت وتكاملت قواعد البنيان الداخلي كلما تعمقت وتوسعت دائرة الحلفاء ودائرة الأصدقاء وزاد انضباط دائرة المحايدين ، ويحدث العكس تماماً إذا كان هذا البنيان الداخلي هشاً ، فتضيق تماماً دائرة الحلفاء وكذلك دائرة الأصدقاء لحساب الطرف الآخر المعادي . (2) نشن قوى الاستعمار والصهيونية العالمية هجوماً تاريخياً ممتداً على الأمة العربية يستهدف وجودها (دينها وعقلها ومقدراتها وبنيتها القومية) ، واعتمد هذا الهجوم التاريخي الاستعماري الصهيوني على إستراتجية " التجزئة " أي عدم تمكين الأمة العربية من توحيد كيانها الواحد في دولة واحدة وتقسيمها بين مجموعة من الأجزاء وتحويل هذه الأجزاء إلى دول ، ولسنا هنا معنيين ببيان أسباب ودوافع هذا النوع العدواني الغربي الصهيوني على الأمة العربية ، لأنه مسألة عينية واضحة تماماً أمام عيون المواطنون العرب في كل الأقطار العربية عبر التاريخ المعاصر ، كل الأجيال العربية المعاصرة تحفظ عن ظهر قلب معاهدة لندن 1840 – التي فرضها الغرب على محمد على واستهدفت عزل مصر عن أمتها العربية ، وتحفظ الاتفاق الودي 1904 الذي قسم الوطن العربي بين قوى الاستعمار الغربي وبالذات إنجلترا وفرنسا وكان ذلك بداية التدشين لمقررات مؤتمر بال الصهيوني سنة 1897، وتحفظ الأجيال كذلك وعد بلفور واتفاقية سايكس / بيكو التي جزأت الوطن العربي إلى مجموعة من الأقاليم تحولت إلى مجموعة من الدول الإقليمية ، وتحفظ تنفيذ وعد بلفور بدعم الدول الاستعمارية للعصابات الصهيونية في فلسطين 1948 وإقامة الكيان الصهيوني جداراً فاصلاً بين مشرق الوطن العربي ومغربه ، محفور في ذاكرة المواطن العربي بل محفور في ذاكرة الأمة الفالوجة وكفر قاسم ودير ياسين، محفور في ذاكرة الأمة العدوان عل الأرض العرض، وتختزن ذاكرة الأمة العدوان الثلاثي وعدوان 1967 على مصر وغزو لبنان واحتلال العراق وأبو زعبل وبحر البقر وجنين والفالوجة والرمادى وبغداد والبصرة والعمارة وتكريت..الخ (3) قامت القوى الامبريالية الصهيونية بعد عدوان 1967 بعمل مراجعة لإستراتيجية سايكس / بيكو لتجزئة الوطن العربي بسبب حدثين مهمين لم تتمكن خريطة سايكس / بيكو السياسية للأمة أن تمنع حدوثهما : الأول : مؤتمر الخرطوم في نوفمبر 1967 – الذي حضرته كل الدول العربية ، هذا المؤتمر يعرف بمؤتمر اللاءات الثلاث [ لا صلح – لا تفاوض – لا اعتراف ] ، وعزز المؤتمر هذه اللاءات بدعم دول المواجهة مصر والأردن وسوريا وإعادة بناء القوات المسلحة في الدول الثلاث إستعدادا للحرب القادمة ، في هذا المؤتمر تحملت الدول البترولية إعادة بناء القوات المسلحة لخوض معركة استرداد الكرامة.. لم تنسى القوى الامبريالية الصهيونية هذا الحدث وبالذات ما قامت به الدول البترولية وتعاملت معه بشكل موضوعي . الثاني : هو الانتصار العسكري العربي الذي تحقق في أكتوبر 1973 ، هو انتصار عربي بكل معنى الكلمة من حيث الإعداد للحرب والحرب والنتائج ، صحيح أن السادات جر المنطقة لتفريغ هذا الانتصار من مضمونه السياسي وحول انتصار العسكرية العربية إلى هزيمة سياسية وهزيمة العدو إلى نصر سياسي ، لكن مرة أخرى لم تنسى القوى الامبريالية الصهيونية هذا الحدث وتعاملت معه أيضاً بشكل موضوعي . بعد تقييم " العدو " للتطورات التي حدثت بعد 1967 في الخرطوم وعلى جبهات القتال ، فإنه – أي العدو – وضع سايكس / بيكو موضع الاتهام لأن ما رسموه وصمموه من تجزئة لم تمنع ولم توقف النزوع القومي لدى دول الأمة الذي تجسد في تحمل الدول الغنية ( البترولية ) كل تكاليف إعادة بناء وتدريب القوات المسلحة لمصر والأردن وسوريا على أحدث الأسلحة وعلى أرقى فنون القتال ، وإزاء هذا الاتهام لدول التجزئة العربية فإن القوى الامبريالية الصهيونية تبنت سياسة تجزئوية جديدة تستهدف تدمير هذه الدول وتفتيت كل دولة من الدول العربية إلى مجموعة من الدويلات التي تعجز عن أن تفعل ما فعلته دول سايكس / بيكو بعد 1967 ، حيث سيؤدي هذا التفتيت إلى تدمير الوجود القومي العربي ديناً وعقلاً وإمكانياتاً وبنية قومية ومن ثم يتحقق العجز الموضوعي للأمة الذي عجزت أن تحققه تجزئة سايكس / بيكو 1916 . من محطات هذا الطريق الاستراتيجي للعدو اتفاقيات فك الاشتباك ، واتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام لعزل مصر عن جسدها العربي ، وكذلك الوثيقة الصهيونية المنشورة والتي تتحدث بالتفصيل عن تفتيت الدول العربية كلها وأضافت إليها دول الجوار والعمق الإسلامي تركيا وإيران وأفغانستان وباكستان ، وكذلك وثيقة الأمن القومي الأمريكي الصادرة 2003 التي تنص بوضوح على أن أمريكا لن تسمح لدولة أو مجموعة من الدول أن تكون في وضع استراتيجي يهدد المصالح الأمريكية ، وتعتبر أمريكا إسرائيل " قلب "مصالحها في المنطقة ، ومن ثم فإن كل من الوثيقة الصهيونية ووثيقة الأمن القومي الأمريكي يجمعها التكامل والترابط الناتج عن التكامل والترابط الذي يجمع الأمن القومي الأمريكي والأمن الصهيوني في بوتقة واحدة ، ومن ثم فإن أمريكا وإن لم تنص في وثيقتها مباشرة عن تفتيت الدول العربية لكن المسئولين الأمريكيين باركوا في أكثر من مناسبة سياسة التفتيت التي تطول كل الدول العربية وتجعل من تفتيت مصر الجائزة الكبرى ، ويتم التفتيت على أسس عرقية وطائفية . ومن محطات تنفيذ هذا الطريق الاستراتيجي غزو لبنان واحتلال بيروت 1982 بهدف تقسيم لبنان ، غزو العراق ونهب مقدراته وقبل ذلك إهدار كرامته وتدمير البنية الثقافية الحضارية وتقسيمه طائفياً وعشائرياً وتنظيم هذا التفتيت في إطار يجمع بين القيدرالية والكونفدرالية ، وليس صحيحاً الدفاع عن الفيدرالية في العراق بتشبيهها بالفيدرالية الأمريكية لأمرين . الأول أن الفيدرالية الأمريكية ليست طائفية مثل الفيدرالية الأميريالية في العراق ، والثاني أن النظام في العراق بعد الاحتلال يجمع بين الفيدرالية والكونفدرالية وهو إلى الكونفدرالية أقرب ليكون طريقاً للتقسيم والانفصال ، ومن المحطات أيضاً ما يحدث في لبنان من لعب على وقر الطائفية وما يحدث في السودان واللعب على وتر " العرقية " وما يحدث في الصومال ليس ببعيد عن كل ذلك ... والطريق مازال مفتوحاً . والجديد في هذا الأمر ، أن المقاومة العربية الباسلة وبالذات في العراق حققت بانتصاراتها على حوالي 300000 جندي من قوات الاحتلال ( 150000 جندي أمريكي + 150000 مرتزق ) تعطيلاً لهذا الطريق الاستراتيجي الصهيوني ، مما حدى بالعدو أن يضع استراتيجية مكملة ومعاونة لإستراتيجية التفتيت ولا يلغيها ، هذه الاستراتيجية هي الاحتواء والغزو من الأطراف أي وضع الإسلام الأوربي الآسيوي (الماليزي – الاندينوسي ) في مواجهة الإسلام العربي الراديكالي ، أي الضغط على صلابة الإسلام العربي بواسطة الإسلام الليبرالي الأوروبي الآسيوي ، هذا هو الخط العام لتقرير مؤسسة راند الأمريكية، وهو كما قلنا ليس بديلاً للوثيقة الصهيونية ولا لوثيقة الأمن القومي الأمريكي ولكنه مكملاً وداعماً لأهدافهما في الحصار من الأطراف والغزو والتفتيت من الداخل . كل ما ذكر ليس من عندنا ، وإنما هو منقول عن وثائق أمريكية صهيونية صادرة عن مؤسسات معترف بها رسمياً في أمريكا والدولة الصهيونية والمطلوب من أي مخطط استراتيجي أن يتعامل معها ولو باعتبارها الاحتمال الأسوأ . والسؤال : هل من مسئول استراتيجي في أي بلد عربي يتعامل مع هذا التصور الاستراتيجي بالعدو باعتباره الاحتمال الأسوأ ؟ أشك في ذلك تماماً وإلا بما نفسر حالة الضعف والوهن الشديد للوضع العربي العام ؟ هذا الوضع المسئول عنه بشكل كامل هم حكامنا ملوكاً ورؤساءً . (4) المشكلة المضافة ، أنه إزاء حالة الوهن والضعف العربي الرسمي في مواجهة العدو حدث تقاطع بين مصالح الأمن القومي العربي ومصالح الأمن القومي لدول الجوار بما لا يخدم مصالح الأمن القومي العربي ، وبدون تفاصيل لا لزوم لها في هذه الورقة أضرب ثلاثة أمثلة ، مثل إيران ، ومثل تركيا ، ومثل إثيوبيا ، إن مصلحة أمننا القومي العربي تتطلب أن يكون التكامل هو الصيغة التي يجب أن تكون عليها العلاقة بين أمننا وأمن كل من الدول الثلاث ، ولكن وهننا سيجعلنا القصعة التي يتكالب عليها الجميع لالتهامها ، ويومها لن يرحم التاريخ الذي لن يتوقف . (5) حتى الآن ، يعيش الحكام العرب في الغيبوبة ، ظناً منهم أنهم يعيشون في حمى دولهم الإقليمية ويحاولون أن يتكيفوا سلبياً مع مصالح العدو ظانين أن مصالحة لا تتناقض مع مصالح دولهم ، لا هم ولا مستشاريهم قرأوا جيداً أحداث ما بعد 1967 وشطب العدو للخريطة السياسية للمنطقة التي صممها سايكس / بيكو واستبدالها بخريطة سياسية جديدة على أنقاض دولهم يسمونها تسميات عديدة ، الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير ، المهم أن لا تكون هناك دول عربية بل دويلات عرقية طائفية ، ولا يكون هناك أمة عربية وقومية عربية وإسلام بل شرق أوسط جديد صهيوني الملة والاتجاه . (6) في مواجهة هذا الوضع ، ولأن سنة التاريخ لا تتوقف ، فإن الشباب العربي في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال حمل لواء المقاومة الذي أسقطه حكامنا، وشكلوا فصائل لمقاومة " العدو " دفاعاً عن وجود الأمة كلها ، عقيدة وحضارة ومواردا ، ....... إلا أن حكامنا انساقوا وراء مزاعم العدو عن الشباب العربي المقاوم ، واعتبروهم أعداء لهم ، وأعدوا العدّه لمحاربتهم ، والنتيجة مزدوجة فقد أصبح حكامنا والعدو في خندق واحد وأصبح الشباب رافع اللواء في مواجهة مع عدو يتحالف معه حكامنا ... هذا وضع ينتابه الخلل الشديد ويتعارض مع متطلبات أمنهم ووجود دولهم المستهدف من قبل العدو كما توضح مواثيقه ، إنهم مستهدفون كطريق موصل لاستهداف الوجود القومي ... المطلوب : 1- أن يتعامل حكامنا مع استراتيجية العدو باعتبارها استراتيجية الاحتمال الأسوأ الممكن الحدوث . 2- إعادة تركيب الأوضاع القومية : 1. مصالحة ديمقراطية حقيقية بين كل حاكم على كل دولة وبين كل جزء من الشعب العربي في كل دولة عربية . 2. إعادة ترتيب أوضاع الجيوش العربية كما حدث بعد 1967 وبث الروح في اتفاقية الدفاع العربي المشترك . 3. إعادة بناء العلاقات مع شباب المقاومة في كل الوطن العربي ووضع استراتيجية مقاومة عربية واحدة تجمعهم إلى جانب الجيوش العربية لمواجهة العدو الإمبريالي الصهيوني وفك الاشتباك بين شباب المقاومة وفصائلها وبين النظم العربية . 4. وفي إطار ذلك يجب أن ندرك هزيمة العدو في بلادنا وتحوله إلى دولة من الدرجة الثانية وكذلك تعرض فكرة الدولة الصهيونية للاهتزاز الشديد ، وإدراك استفادة العديد من دول الجوار وغيرها من هزيمته على يد شبابنا وعلى أرضنا . 5. بعد إعادة ترتيب البناء القومي وتعبئة إمكانياتنا القومية نتوجه إلى توسيع دائرة الحلفاء والأصدقاء الدوليين بدءاً بدول الجوار الإسلامي . 6. كل هذا في إطار رؤية استراتيجية متكاملة تأخذ في اعتبارها كل المخاطر ، ومن الممكن أن يكون للجامعة العربية دورا بارزا في تحقيق ذلك.