هيئة الدواء: نحرص على توفير الأدوية بالسعر العادل (فيديو)    ضياء رشوان: كل السيناريوهات لدى مصر موجودة لحماية الأمن القومي    عمر مرموش يجري جراحة إصبع اليد بنجاح، وهذه فترة غيابه    كاميرات المراقبة تكذب فيديو ل شخص زعم استبدال أمواله بمطار القاهرة    تصرف غريب من أحمد الفيشاوي في العرض الخاص لفيلم بنقدر ظروفك ( فيديو)    "مبقيش كتير".. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    أزهري: ليس من حق الآباء إجبار بناتهم على ارتداء الحجاب    حزب الله يشدد على عدم التفاوض إلا بعد وقف العدوان على غزة    حجازي: نتجه بقوة لتوظيف التكنولوجيا في التعليم    امتدت لساعة.. قرارات مثيرة بعد جلسة الخطيب وجمال علام (تفاصيل)    المصري يفوز على النصر القاهري بهدفين لهدف وديا استعدادا لمودرن فيوتشر    خصومات تصل حتى 65% على المكيفات.. عروض خاصة نون السعودية    تكثيف المراجعات النهائية لطلاب الثانوية العامة بالفيوم.. «إحصاء وإنجليزي»    البحوث الفلكية: الأحد 16 يونيو أول أيام عيد الأضحى المبارك 2024    قرار جديد ضد سائق لاتهامه بالتحرش بطالب في أكتوبر    تكنولوجيا رجال الأعمال تبحث تنمية الصناعة لتحقيق مستهدف الناتج القومي 2030    «رفعت» و«الحصري».. تعرف على قراء التلاوات المجودة بإذاعة القرآن الكريم غدا    محمد عبد الحافظ ناصف نائبا للهيئة العامة لقصور الثقافة    مدير مكتبة الإسكندرية: لقاؤنا مع الرئيس السيسي اهتم بمجريات قضية فلسطين    رفقة سليمان عيد.. كريم محمود عبدالعزيز يشارك جمهوره كواليس «البيت بيتي 2»    الأعلى لشئون الإسلام وقيادات الإعلام يتوافقون على ضوابط تصوير الجنازات    رئيس البرلمان العربي يشيد بتجربة الأردن في التعليم    أستاذ بالأزهر: الحر الشديد من تنفيس جهنم على الدنيا    أمين الفتوى بدار الإفتاء: سداد الدين مقدم على الأضحية    وكيل «صحة الشرقية» يتفقد سير العمل والخدمات الطبية بمستشفى الحسينية    هل وصل متحور كورونا الجديد FLiRT لمصر؟ المصل واللقاح تجيب (فيديو)    تأثير استخدام مكيفات الهواء على الصحة.. توازن بين الراحة والمخاطر    وزيرة الهجرة: نحرص على تعريف الراغبين في السفر بقوانين الدولة المغادر إليها    سامح شكرى لوزيرة خارجية هولندا: نرفض بشكل قاطع سياسات تهجير الفلسطينيين    عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024.. خليك مميز    رئيس الوزراء يتابع موقف منظومة رد الأعباء التصديرية    لست وحدك يا موتا.. تقرير: يوفنتوس يستهدف التعاقد مع كالافيوري    عاجل| أسوشيتد برس تعلن تعليق إسرائيل خدمات الوكالة في غزة    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    "سيارة الغلابة".. انخفاض أسعار بي واي دي F3 حتى 80 ألف جنيه (صور)    زراعة النواب تقرر استدعاء وزير الأوقاف لحسم إجراءات تقنين أوضاع الأهالي    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    العثور على جثة طفل في ترعة بقنا    «نجم البطولة».. إبراهيم سعيد يسخر من عبدالله السعيد بعد فوز الزمالك بالكونفدرالية    التصفيات الآسيوية.. "الأبيض" يلتقي نظيره البحريني    ب ممارسات حاطة بالكرامة والتقييد.. شهادات توثق تعذيب الاحتلال ل معتقلي غزة (تقرير)    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    في اليوم العالمي للشاي.. طريقة تحضير «بسكويت الماتشا» في المنزل    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    روسيا تفشل في إصدار قرار أممي لوقف سباق التسلح في الفضاء    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 21-5-2024 في الدوري المصري والبطولات العالمية    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    شبانة: مندهش من الأحداث التي صاحبت مراسم تتويج الزمالك    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    استعدادات وترقب لقدوم عيد الأضحى المبارك 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثَوْرَةُ مِصْرَ ٱلْمَجِيدَةُ وَٱلْمَقَايِيسُ ٱلْعَالَمِيَّةُ لِلْأَخْلَاقِ
نشر في الشعب يوم 06 - 03 - 2012

1- عَيْشٌ، حُرِّيَّةٌ، عَدَالَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ، كَرَامَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ
عِنْدَمَا انتفضَ شعبُ مصرَ العظيمُ في الخامسِ والعشرينَ من يناير 2011م، كَانَتْ مَطَالبُهُ وَاضِحَةً، جليّةً: عَيشٌ، حُرّيّةٌ، عَدَالةٌ اجْتِمَاعِيّةٌ، كَرَامةٌ إِنْسَانِيّةٌ. ثورة يناير 2011م هِيَ ثورة على تراكمت هائلة من الظّلم، والقمع، والقهر، والكبت، والإملاق، والتّجهيل، والتّضليل، والتّجويع، مظالم شديدة وقعت على الشّعب المصريّ منذ انقلاب العسكر سنةَ 1952م حَتَّى لحظة كتابة هذه السّطُور. استيلاءُ عسكرِ مصرَ عَلَى الحكمِ سنة 1952م لمْ يكُنْ فِي حَدِّ ذَاتِهِ حَدَثًا فريدًا أَوْ ظَاهرةً محدثةً في تاريخِ البشريّةِ. فتاريخُ الانقلاباتِ العسكريّةِ في العالمِ بَدَأَ قبلَ انقلابِ مصرَ بكثيرٍ، وظاهرةُ الاستبدادِ والدّيكتاتوريّةِ عرفتْها الإنسانيّةُ في دولٍ أخرى كثيرةٍ، قبلَ أنْ يبتلي اللّهُ بها مصرَنَا سنة 1952م. فَيُقَالُ إنّ الدّيكتاتوريّاتِ بدأتْ مَعَ الإمبراطوريّةِ الرّومانيّةِ(1). حَكَمَ العسكرُ مصرَ ستّةَ عقودٍ (1952م-2012٬) تمثّلُ أحلكَ وأسوأَ فترةٍ تاريخيّةٍ مرّتْ عَلَى مِصْرَ مُنْذُ بدءِ الخليقةِ. قَامَ حكمُ العسكرِ لمصرَ منذُ البدايةِ عَلَى أسسٍ هشّةٍ، واهيةٍ، ضعيفةٍ، فَكانَ لَابدَّ لَهُ أنْ ينهارَ عاجلًا أو آجلًا. أقامَ عسكرُ مصرَ حكمَهُمْ على الكذبِ، والظّلمِ، والجهلِ، والتّضليلِ، والفهلوةِ، والطّاعة العمياءِ، والولاءِ، والقمعِ، والإرهابِ، وكبتِ الحرّيّاتِ، والسّرقةِ، والنّهبِ، وتجويع العلماءِ، ومعاداةِ العلمِ، والتّحالفِ مَعَ أعداءِ البلادِ والعبادِ. مَازالَ لَدَيْنَا بعض المصريّينَ الّذينَ يتحدّثونَ عَنْ فترةِ حُكمِ عبدِ النّاصرِ باحترامٍ وتقديرٍ. والسّببُ في رَأْيهم أَنَّهُ كانَ منحازًا للفُقَرَاءِ، وَكَان ينتصرُ للعروبةِ والقوميّةِ العربيّةِ. نَسَى هَؤلَاءِ أَنَّ المستبدينَ يتحايلونَ دائمًا لكسبِ تعاطفِ العامّةِ، بشتّى الحيلِ والألاعيبِ. فيُحكَى مَثَلًا أنّ الطّاغيةَ القذّافي كَانَ يُقدّمُ خدمةَ المواصلاتِ العامّةِ مَجّانًا للشّعبِ اللّيبيّ، حتّى تَزْدَادَ شعبيّته!! والمتأمّلُ لسياسةِ عبدِ النّاصرِ، وَمَا آلتْ إليه مِنْ نتائجَ مدمّرةٍ للاقتصادِ المصريِّ، لا يحتاجُ إلى جهدٍ كبيرٍ، ليدركَ أنّ مصرَ كانَت تديرُهَا مجموعةٌ مِنَ المغامرينَ، الطّمّاعينَ، الهواةِ، الجهلةِ، الّذينَ وضعوا أسسَ حكمِ هَذَا الشّعبِ بالنّارِ والحديدِ. الدّكتاتوريّاتُ العسكريّةُ هِيَ أسوأُ أَنْوَاعِ الدّيكتاتوريّاتِ عَلَى الإطلاقِ. فَالعسكرُ بطبيعتهم لا يفهمونَ إلّا لغةَ القوّةِ. هُنَا يحدثُ تعطيلٌ للقانونِ، بَلْ يتمُّ تفصيلُ قوانين خاصّةٍ بالحكمِ العسكريِّ الاستبداديِّ. ديكتاتوريّةُ هتلرَ العسكريّةُ كلّفتِ الإنسانيّةَ أكثرَ مِنْ خمسينَ مليون قتيلٍ سقطوا في الحربِ العالميّةِ الثانيّةِ. وَيُقدّرُ بعضُ النّقّادِ ضحايا ديكتاتوريّةِ ستالينَ بخمسينَ مليون نسمةٍ. ديكتاتوريّةُ عَسْكَرِ مِصْرَ قتلتْ، بَلْ فتكتْ بأكثر منْ ثمانينَ مليون مصريٍّ، فتكتْ بهم بالرّصاصِ، والجوعِ، والإملاقِ، والقمعِ، والتّعذيبِ، والمعتقلاتِ، والتّضليلِ، والتّزويرِ، والكذبِ، والنّهبِ. القتلُ بالرّصاصِ يمكنُ أنْ يكونَ أرحمَ مِنَ القتلِ جوعًا، أو فقرًا، أو مرضًا. لِكُلِّ ديكتاتوريّةٍ مُنَظِّرُوهَا وَمُفَكِّرُوها. ديكتاتوريّةُ عسكرِ مصرَ استعانتْ منذُ البدايةِ بصعاليكِ الكُتّابِ مِنْ أمثال محمّد حسنين هيكل الّذي يُعدّ أكبرَ مضلّلٍ في تَاريخِ مصرَ الحديثِ. في ألمانيا يرى بعضُ النّقّادِ أنّ هيغل وَآخرينَ قَدْ مهّدُوا بكتاباتهم لقيامِ ديكتاتوريّةِ هتلر وموسوليني. يَقُولُ سَامِي هَابيل: «وَفي القرنِ التّاسعَ عشرَ الميلاديِّ، كَانَ الفكرُ الألمانيُّ يشهدُ تداعياتِ الثّورةِ الفرنسيّةِ، عَلى يدِ أبنائها، ويجدّدُ نفسَه عَلى معارضةِ أفكارِ فلاسفةِ عصرِ التّنوير، ويدعو إلى تمجيدِ دورِ الدّولةِ، وتحريضِ النّزوع القوميّ، وَعدّت أفكار هيغل وليست ولاسال ودوهرنج واشبنغلر وغيرهم، أَنَّهَا هِيَ الّتي مهّدتْ لِقيامِ أشهر ديكتاتوريّتيْنِ بَعْدَ الحربِ العالميّةِ الأولى. وَهُمَا نازيّةُ هتلرَ، وفاشيّةُ موسوليني. وَمِنَ اليسارِ الهيغليِّ، وَنَقْدِ أفكارِ هيغل، نشأتِ الماركسيّةُ، وظهرتْ معها مقولةُ ديكتاتوريّةِ البروليتاريّةِ»(2).
2- عَسْكَرُ مِصْرَ: مُؤَهِّلَاتُهُمْ لَا تَتَجَاوَزِ الثَّانَوِيَّةَ العَامَّةَ
لنتأمّلْ قَليلًا مواصفاتِ هَذِهِ الطّبقةِ، طَبَقَة عَسْكَرِ مِصْرِ، الّتي أَذَاقَتْ شعبَ مِصْرَ ويلاتِ العذابِ، وَالجوعِ، وَالمرضِ، وَالقَمعِ، وَالقَهرِ، عَلَى مَدَارِ ستّةِ عقودٍ من الزّمَانِ تعتبرُ هِيَ الأسود، والأسوأ، والأحلك في تاريخِ مصرَ عَلَى الإطلاقِ. نُريدُ أن نتفحّصَ مُؤَهِّلَاتهم وَقدراتهمْ وَعقولهمْ. والمقصودُ بالعسكرِ هُنا ليسَ الجيش المصريّ برمّته، حَاشَا اللّهُ. بَلْ «حثالة» الجيشِ فَقَط . أَمّا سائرُ أفرادِ القوّاتِ المسلّحةِ المصريّةِ، فَهُم مواطنونَ شرفاءُ، مطحونونَ مثل سائرِ أفرادِ الشّعبِ المصريِّ. الغالبيّةُ العظمى مِنْ «عسكر مصر» هُمْ مِنْ حَمَلَةِ الثّانويّةِ العامّةِ بمجموعٍ ضعيفٍ جدًّا. بعضُهُمُ التحقَ بالكلّيّةِ الحربيّةِ بمجموعِ 46٪. غالبيّتُهم لَمْ يلتحقوا بالكلّيّاتِ العسكريّةِ حُبًّا في الجيشِ، أو رغبةً في الدّفاع عنْ أرضِ الوطنِ، أَوْ بدافعٍ مِنْ وطنيّةٍ زائدةٍ، أَوْ وَازِعٍ مِنْ حَمَاسَةٍ فَائِقَةٍ، بَلْ لمجرّدِ ضَمَانِ دَخلٍ ثَابتٍ، وَمُستقبلٍ زَاهرٍ. غَالبيةُ هَؤلاءِ العسكرِ يمقتونَ الحياةَ العسكريّةَ، والعيشَ في الثّكناتِ والمعسكراتِ، وَقَضاءَ الأيّامِ واللّيالي في الصّحراءِ الجرداءِ، والشّمسِ الحَارقةِ، والظّروفِ القَاسيةِ. وَهَكَذَا تَبدَأُ المصائبُ بِخَطَأٍ قَدْ يبدو بَسيطًا هيّنًا، لكنّه يُؤدّي بَعْدَ ذَلِكَ إلى نتائجَ مُدمّرةٍ، وَعَوَاقبَ وخيمةٍ. لدينا إذًا حاملُ ثَانويّةٍ عامّةٍ بَمَجْمُوعٍ ضعيفٍ جِدًّا، يقضي سنتينِ أو أكثرَ في كُلِّيّةٍ حربيّةٍ، يَتَعَلَّمُ خلالَهَا إطلاقَ النّارِ، وبعضَ العلومِ العسكريّةِ. يتخرّجُ بعدَ ذلكَ، ليجدَ نفسَهُ ضابطًا بنجمةٍ عَلَى كتفِهِ. البدلةُ العسكريّةُ مغريةٌ، جذّابةٌ، توحي بالقوّةِ والمهابةِ. لكنّ هَذا الضّابطَ الصّغيرَ سرعانَ ما يدركُ أنّ الزِّيَّ العسكريّ وحدَهُ لا يَكفي لتأمينِ حَيَاةٍ كَريمةٍ، وَتكوينِ أسرةٍ صغيرةٍ. فالمرتّبُ ضئيلٌ، وأعباءُ المعيشةِ كبيرةٌ، والأسعارُ باهظةٌ. مَاذَا يفعلُ إِذًا؟ لا يَجدُ هَذَا الضّابطُ الصّغيرُ مخرجًا له إلّا الفَسَادَ وَالخداعَ والنّفاقَ. هَذَا إنْ شَاءَ أنْ يواصلَ عملَهُ في القوّاتِ المسلّحةِ. عليه أن يطيعَ رُؤَسَاءَه طَاعةً عمياءَ، وعليه أن يفعلَ كُلَّ شَيْءٍ من أجلِ أَنْ يترقّى سَريعًا، لِكَي يزيدَ دخلُهُ قليلًا. لكنّه سرعانَ ما يدركُ أنْ هَذَا أيضًا لا يَكْفي. فَلَا يجدُ مفرًا مِنَ السّعي إلى الحصولِ عَلى وظيفةٍ مدنيّةٍ، بلقبٍ عَسْكَرِيٍّ، بَعْدَمَا يكونُ قَدْ وَصَلَ إِلَى رُتْبَةٍ عُليا. وَهَذِهِ أكبرُ جَرِيمَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يرتكبَهَا امرؤٌ في حياته. لَقَدْ صَارَ لدينا حالةٌ تَحْتَاجُ إلى دِرَاساتٍ عميقةٍ وتحليلاتٍ دقيقةٍ، لنفهمَ مَا حدثَ لمصرَ وجيشها خلالَ ستّة عقودٍ تعتبرُ الأحلكَ والأسوأَ في تاريخِ مصرَ عَلَى الإطلاقِ: حَامِلُ ثانويّةٍ عامّةٍ بمجموعٍ ضعيفٍ، وبقدرةٍ محدودةٍ جدًّا عَلَى التّحصيلِ والفهمِ والاستيعابِ، يلتحقُ بإحدى الكليّاتِ العسكريّةِ لمدّةِ سنتينِ، يتخرّجُ بَعْدَهَا ضَابطًا صَغيرًا ببدلةٍ عسكريّةٍ، وَدَخْلٍ محدودٍ، يريدُ أن يحقّقَ أحلامَه المشروعةَ في تكوينِ أسرةٍ والعيشِ حَياةً كريمةً، فلا يجدُ أمامَه إلّا النّصبَ والفسادَ والتّضليلَ. هُنَا تحدثُ خيانةٌ للزّيّ العسكريِّ، وخيانَةٌ للوطنِ، وخيانةٌ للنّفسِ. فَالزِّيُّ العسكريُّ لم يخترعوه لكي يتمخترَ المرءُ به وسطَ المدنيّينَ! الزّيُّ العسكريُّ لم يُصمّموه ليقومَ حاملُهُ بتأديةِ عملِ الجرّاحِ، في علاجِ المرضى، أَوْ ليقومَ بعملِ الفَلّاحِ، في حراثِةِ الأرضِ، أو لتأديةِ وظيفةِ عَامِلِ النّظافَةِ فِي تنظيفِ الشّوارعِ، أو لِلقيَامِ بعملِ عُمّالِ البناءِ فِي تعبيدِ الطّرقاتِ، أو عَمْلِ المهندسِ فِي تشييدِ البناياتِ. الزِّيُّ العسكريُّ مخصّصٌ للعسكريّينَ الّذينَ يمارسونَ أعمالًا عسكريّةً في جبهاتِ القتالِ. أمّا أنْ يقومَ امرؤٌ بارتداءِ البدلةِ العسكريّةِ، ليتمخترَ بِهَا أَمَامَ المدنيّينَ بمناسبةٍ وبدونِ مناسبةٍ، بقتالٍ وبدونِ قتالٍ، فِي معاركَ وبدونِ معاركَ، فَهُوَ يُصبحُ كالمرأةِ الّتي تذهبُ إلى عَمَلِها بقميصِ نومها، برغمِ أنّ قميصَ النّومِ مخصّصٌ لحجرةِ النّومِ فقطْ، أو كالطّبيبِ الّذي يرتدي معطفه الأبيض خارجَ عيادتِه، ويمشي به في الشّوارعِ والطّرقاتِ، متمخترًا متباهيًا، أوْ كعلي عوض (العربجي) الّذي يرتدي زيَ العربجيّةِ، ليزورَ به حفلةً فِي دارِ الأوبرا. المجتمعاتُ الحديثةُ الرّاقية لا تسمحُ بمثلِ هَذَا العبثِ. لَا يحقُّ لِأَيِّ طبقةٍ في المجتمعِ أنْ تتعدّى حدودَهَا، وتعتدي على حقوقِ الآخرين، وتجرح مشاعرهم، ناهيك عَنْ هتكِ أعراضهم. نلخّصُ حالةَ العسكرِ في مصرنا كَمَا يَلِي: إنسانٌ ضعيفُ القدراتِ والتّحصيلِ، يتلقّي تعليمًا عسكريًّا لمدّةٍ وجيزةٍ جدًّا، هَذَا التّعليمُ العسكريُّ لا يساعدُه حتّى أنْ يُصبحَ مُتقنًا لعملِهِ العسكريّ، نَاهيكَ عَنْ سَائِرِ الأعمالِ المدنيّةِ الأخرى. الالتحاقُ بالكلّيّةِ الحربيّةِ لا يحدثُ عَنْ حبٍّ للجنديّةِ وعشقٍ للحياةِ العسكريّةِ، بَلْ بدافعٍ مادّيٍّ بَحتٍ. بعدَ التّخرّجِ يفرحُ الضّابطُ بزيّهِ العسكريِّ، لكنّه يكتشفُ كَرَاهِيَتَهُ الشّديدةَ للحياةِ في معسكراتِ الجيشِ وثكناتِهِ، وَتطوقُ نفسُهُ إلى الحياةِ المدنيّةِ. فلا يجدُ أمامَهُ إلّا استخدامَ وظيفتِهِ، وزيّهِ العسكريِّ، مطيةً لتحقيقِ أهدافِهِ الأصليّةِ، وهيَ الحصولُ عَلَى المالِ والجاهِ والسّلطةِ. عندئذٍ تتحوّلُ الألقابُ العسكريّةُ إلى وسيلةٍ للنّصبِ وَالسّرقةِ وَالإرهابِ. أصبحَ لدينا جيوشٌ مجيّشةٌ من حملةِ الألقابِ العسكريّةِ الباحثينَ عَنْ وظائفَ مدنيّةٍ، برغمِ عَدَمِ صلاحيتهم أَصْلًا للقِيامِ بأيِّ وظيفةٍ مدنيّةٍ، ناهيك عَنِ القيامِ بحكمِ مدينةٍ، أو محافظةٍ، أو مصرَ بأكملها. فَهُمْ يمارسونَ الإرهاب والنّصب بالألقاب: «لواء»، «فريق»، «مشير». كَانَ الأولَى بقياداتِ الجيشِ المصريّ الشّجاعِ معالجة هذِهِ الظّاهرةِ المدمّرةِ، عَنْ طَريقِ رفعِ مرتّباتِ أفرادِ القوّاتِ المسلّحةِ، والاستفادةِ مِنْ خبراتِ أصحابِ الكفاءاتِ في رفعِ مستوى أداءِ الجيشِ المصريّ. لكنْ للأسفِ صَارَ لدينا أعدادٌ كبيرةٌ مِنْ ضُبّاطِ الجيشِ، لا يلتحقونَ بالجيشِ إلّا بهدفِ الوصولِ إلى وظيفةٍ مدنيّةٍ باللّقبِ العسكريِّ. والنّتيجةُ مدمّرةٌ للجيشِ والدّولةِ والمجتمعِ جميعًا. فالجيشُ المصريّ يتمُّ تفريغُهُ بصورةٍ ممنهجةٍ مِنْ حَمَلَةِ رتبٍ كان يمكنُ أن يُساهموا في تطويرِ قدراتِ القوّاتِ المسلّحةِ، لكنّهم اتّجهُوا إلى الأعمالِ المدنيّة، بقدراتٍ محدودةٍ، ومؤهلاتٍ معدومةٍ، فكانَ الضّررُ مضاعفًا: خسارةٌ لجيشِ مصرَ، وإقصاءٌ لأصحابِ المؤهلاتِ الحقيقيّةِ منَ المدنيّينَ الّذينَ يستطيعونَ القيامُ بالأعمالِ الّتي انتزعَهَا العسكرُ لأنفسِهم في الوزارات، والمحلّيّاتِ، والمدنِ، والمحافظاتِ، والشّركاتِ.
الحقيقةُ الْمُفزعةُ الّتي لَا يُدركُهَا معظمُ النّاسِ في مصرَ هِيَ أنّ مصرَ محكومةٌ مُنْذُ سنة 1952م بطبقةٍ مِنْ حملةِ الثّانويّةِ العامّةِ من أصحابِ المجاميعِ الضّعيفةِ جدًّا. بالطّبعِ سيخرجُ علينا المكابرونَ، وَمَا أكثرَهُمُ اليومَ، ليقولوا: كيفَ تقولُ هَذَا، وَكَانَ وَمَازَالَ لدينا وزراء مِنْ حملةِ الدّكتوراةِ، يَقُومونَ بعملِهم؟ وَالإجابةُ بسيطةٌ: ليسَ هؤلاءِ إلّا مجرّدَ دمى يحرّكُهَا العسكرُ كقطعِ الشّطرنجِ، مِنْ هُنَا إلَى هُنَاكَ. وَقَدْ شَاهَدْنَا مسرحيّةَ تعيينِ شَرَفٍ رئيسًا للوزراءِ، حيثُ كَانَ المنظرُ يشبهُ مَا يجرِي في مَسرحِ العرائسِ. العَسكَرُ يحكمونَ، وحكومة شرف تتلقّى الشّكاوى، والضّربَاتِ، واللّعناتِ. وليسَ هَذَا بمستغربٍ عَلَينَا. فحيَاةُ المصريّينَ مُنْذُ انقلابِ 1952م هِيَ مَسْرَحيّةٌ سَخِيفَةٌ.
العسكرُ الّذينَ يسيطرونَ على مقاليدِ الأمورِ في مصرَ، ويحكمونَ قبضتَهُم عَلَى الجيشِ، والشّرطةِ، والمباحثِ، والمخابراتِ، والبلديّات، والمحافظاتِ، لا تزيدُ مستويَاتُهُمُ العلميّةُ عَنْ مستوى حَمَلةِ الثّانويةِ العامّةِ. فَهُمْ بدؤوا هَكَذَا: مؤهّلٌ متوسطٌ، مستوى تحصيلٍ ضعيفٌ، كراهيةٌ شديدةٌ للحياةِ العسكريّةِ، طموحاتٌ مادّيّةٌ بحتةٌ، أهمَّ ما تعلّموه: إصدارُ أوامرَ والطّاعةُ في تنفيذِهَا، فكرُهُمُ النّقديُّ منعدمٌ، وتقديرُهُمْ لِلعلمِ وَالثّقافَةِ غَيْرُ موجودٍ.
فَكَيْفَ يقومُ العسكرُ بِحُكْمِ البلادِ؟ يقومُ حكمُ العسكرِ في مصرَ عَلَى: 1- الكذبِ، 2- تزويرِ الانتخاباتِ، 3- تلفيقِ التّهمِ، 4- قهرِ الشّعبِ، 5- تجويعِ النّاسِ، 6- تجهيلِ الجماهيرِ، 7- تلهيةِ أفرادِ المجتمعِ بالمسلسلاتِ والسّخافاتِ، 8- استعبادِ الشّعبِ، 9- إرهابِ المعارضينَ، 10- فتحِ السّجونِ والمعتقلاتِ أَمَامَ الأبرياءِ، 11- نهبِ ثرواتِ البلادِ، 12- تقديمِ تنازلاتٍ بِلَا حدودٍ لخصومِ مصرَ، مِنْ أَجْلِ الحصولِ عَلَى دَعمِهم للبقاءِ في السّلطةِ، 13- تخصيصِ أكثر مِن نصفِ ميزانيةِ الدّولةِ للجيشِ، والشّرطةِ، والمخابراتِ والمباحثِ. 14- رفعِ قدرِ طبقةِ العسكريّين والبوليسِ، وَالحَطِّ مِنْ سائِرِ طبقاتِ المجتمعِ الأخرَى، 15- نقلِ احتفالاتِ تخريجِ طلبةِ الحربيّةِ والشّرطةِ علَى الهواءِ مباشرةً في تليفزيونِ الدّولةِ الرّسميّ، 16- فرضِ قانونِ الطّوارئ عَلى البلادِ، 17- تحويلِ الجامعاتِ إلى سجنٍ كبيرٍ، ووضعِ مصيرِ كلِّ شيءٍ في يدِ «أمنِ الدّولةِ»، 18- تخديرِ الشّعبِ منْ خلالِ تقديمِ ما يسمّى «دعمًا» عَلَى السّلعِ الأساسيّةِ، مِن أجلِ تلميعِ صورةِ الدّولةِ، 19- إحكامِ قبضةِ العسكرِ على البلادِ مِن خلالِ تعيينِ لواءاتِ الجيشِ محافظينَ لشتّى محافظاتِ مصرَ، 20- الاعتمادِ عَلَى أهلِ الثّقةِ مِنَ اللّواءاتِ، برغمِ انعدامِ مؤهلاتهم العلميّةِ، وتفضيلِهم علَى أهلِ الاختصاصِ، وَأَصْحَابِ الكفاءَاتِ. 21- توظيفِ رعاعِ المدنيّينِ مِن أصحابِ النّفوسِ الضّعيفةِ، والأخلاقِ الوضيعةِ، الّذين يسهل توجيههم، بَعْدَ التّأكّدِ من طاعتِهم وَوَلائِهم. 22- توظيفِ الفنِّ لخدمةِ أهدافِ الحكمِ العسكريِّ. 23- إرغامِ النّساءِ المصريّاتِ على ممارسةِ الدّعارةِ تحتَ مسمّى خدمةِ المصالحِ العليا للدّولةِ (صفوت الشّريف وسعاد حسني نموذجًا). 24- التّجسّسِ على الشّعبِ، وليسَ عَلَى أعداءِ البلادِ الحقيقيّينَ.
أَمَّا الشّرفاءُ منْ أفرادِ الجيشِ المصريِّ، فَهُمُ الّذينَ يقومونَ بواجبِهم في الدّفاعِ عنْ حدودِ الوطنِ، وهُمُ الّذينَ خَاضُوا الحروبَ الأخيرةَ معَ أعداءِ البلادِ، واستُشهدُوا في سبيلِ الدّفاعِ عَنْ مصرنا وأرضِنَا. هؤلاءِ هُمُ الأبطالُ الحقيقيّونَ، مِنْ أمثالِ سعد الدّين الشّاذلي، وكُلّ مَن يركّز على عمله في الجيش، بدون تجاوز حدوده، طمعًا في منصبٍ مدنيّ. وَعَلَى وجهِ النّقيضِ مِنْ هؤلاءِ نجدُ «حثالةَ الجيشِ»، الّذينَ نُطلقُ عليهم لفظَ «عسكر» يخوضونَ معركةً أخرى، معركة يمكنُ تسميتها «احتلالًا بالوكالةِ». فهمُ الّذينَ يعتبرونَ الشّعبَ المصريَّ عبيدًا، وهمُ الّذينَ فتحوا أبوابَ السّجنِ الحربيِّ أمامَ أفرادِ الشّعبِ المصريِّ، ليُذيقوهم ذلّ العذابِ. وهمُ الّذينَ يقومونَ بالتّجسّسِ على الأبرياءِ من المصريّينَ، وَكأنّ شعبَ مصرَ قَدْ صَارَ عدوًا لمصرَ. وَهمُ الّذينَ يتطفّلونَ على الحياةِ المدنيّةِ في مصرَ. وهمُ الّذينَ يفرضونَ أنفسَهم حكّامًا لمحافظاتِ مصرَ المختلفة، بدونِ مؤهلاتٍ، وبدونِ حقٍّ، وبدونِ انتخابٍ. وَهُمُ الّذينَ يهتكون أعراضِ بناتنا، ويغتالونَ أبناءنا في بورسعيد، وشتّى ميادين مصرَ ومدنها. جيشُ مصرَ في قلوبنا. أَمَّا عسكرُ مصرَ، فَلَابُدَّ منْ محاكمتهم على كُلّ ما ارتكبوه من جرائم في حقّ هذا الشّعبِ العظيمِ.
3- الْفِعْلُ وَرَدُّ الفِعْلِ
المبادئُ الّتي نَادىَ بِهَا المصريّونَ في ثورتهم المجيدةِ في الخامسِ والعشرينَ من يناير 2011م كَانَتْ رَدَّ فِعْلٍ طَبيعيًّا عَلَى مَا أصَابَهُم مِنْ مظالمَ شديدةٍ منذ انقلابِ العسكرِِ سنةَ 1952م: لا ينادي بِالْعَيْشِ (= الخبز) إلّا الجوعى. ولا يطالبُ بالحرّيّةِ إِلّا المكبّلُ، المقيّدُ، المقهورُ. ولا ينادي بالعدالةِ الاجتماعيّةِ إِلَّا المظلومُ، المطحونُ، المهمّشُ. ولا يُطالِبُ بالكرامةِ الإنسانيّةِ إِلّا من تُهانُ كرامته يوميًّا، ويُهتكُ عرضه، وتُسلبُ حقوقه الإنسانيّة. تاريخيًّا يُمْكِنُ اعتبارُ تاريخِ تطوّرِ العقيدةِ الإسلاميّةِ على مرِّ قرونٍ طويلةٍ تاريخًا للفعلِ وردِّ الفعلِ، لأحداثٍ ووقائعَ معيّنةٍ وردودِ أفعالِ العبادِ عَلَيها. تَاريخُ تطوّرِ العقيدةِ الإسلاميّةِ هُوَ تاريخٌ شائقٌ ممتعٌ، يصعبُ الإلمام بهِ نظرًا إلى كثرةِ المذاهبِ وتعدّدِ المللِ والنّحلِ. نكتفي هُنا بالإشارةِ إلى بعضِ مسائلِ الخلافِ بينَ الحنابلةِ والمعتزلةِ، ثُمّ بينَ الأشاعرةِ والمعتزلةِ. سنلاحظُ أَنَّ معظمَ معتقداتِ الحنابلةِ وأفكارِهم مَا هِيَ إِلَّا ردّ فعلٍ عَلَى مباديء المعتزلةِ وَأُصُولِهم. ومَن يتأملْ كيفَ تبلورتْ معتقداتُ الحنابلةِ، لا يمكنه إِنْكَارُ الانطباعِ بأنَّ الحنابلةَ الّذينَ قَاسُوا وتعذّبوا كثيرًا عَلَى أيدي المعتزلة أرادُوا أن يعبّروا عن سخطِهم وغضبِهم على المعتزلةِ، وَعَلَى كُلِّ مَا هُوَ مُعْتَزَلِيٍّ. لقد أَصِيبوا بمَا يُشبه العقدةَ النفسيّةَ تجاهَ المعتزلةِ، فأصبحَ كُلُّ شيءٍ معتزليٍّ، أو فيه رائحة الاعتزالِ،مكروهًا غيرَ محبّبٍ إلى نفوسِهم. وَكُلُّ شيءٍ خالفَ المعتزلةَ وأصولهم، هو العقيدةَ الصحيحةَ والإسلامَ الحقّ. وَلنذكرْ هنا بعضَ الأمثلةِ عَلى ذلكَ: أَوَّلًا: ذمّتِ المعتزلةُ التقليدَ، فقالتِ الحنابلةُ بوجوبهِ. ثَانِيًا: قالَ المعتزليّ أبو الهذيلِ العلّاف بفناءِ الجنّةِ وَالنَّارِ، فقالتِ الحنابلةُ بعدمِ فنائِهما. ثَالِثًا: انتقدَ إِبراهيمُ النّظّام المعتزليُّ الخلفاءَ الراشدينَ وصحابةَ رسولِ اللّهِ (صلعم)، فردّتِ الحنابلةُ بعدمِ وجوبِ ذكرِ عيوبِ الخلفاء ِالراشدينَ أوْ صحابةِ الرّسولِ (صلعم). رَابِعًا: نفتِ المعتزلةُ الشّفاعةَ،فقالتِ الحنابلةُ إِنَّهَا حَقٌّ. خَامِسًا: قالتِ المعتزلةُ بعدمِ إمكانيّةِ عذابِ القبرِ الجسميِّ، فأقرّتِ الحنابلةُ بصحّتهِ. سَادِسًا: قالتِ المعتزلةُ إِنَّ القرآنَ مخلوقٌ، فردّتِ الحنابلةُ أَنَّهُ غيرُ مخلوقٍ. سَابِعًا: قالتِ المعتزلةُ إِنَّ اللّهَ لا يُريدُ الشَّرَّ والمعاصي مِنَ العبادِ، فكانَ رَدُّ الحنابلةِ أَنَّ الشَّرَّ والخيرَ جَمِيعًا منْ عِنْدَ اللّهِ. ثَامِنًا: نفتِ المعتزلةُ رؤيةَ اللّهِ بالأبصارِ يومَ القيامةِ، فقالتِ الحنابلةُ إِنَّ المسلمينَ سيرونَ اللّهَ في الجَنَّةِ يومَ القيامةِ. تَاسِعًا: قالتِ المعتزلةُ إِنَّ اللّهَ «ليسَ كمثلِهِ شَيْءٌ»(الشورى:11)،فَردّتِ الحنابلةُ بِأنَّ: «الشَّيْءَ الّذي لَا كالأشياءِ، قَدْ عَرَفَ أَهْلُ العَقْلِ أَنَّهُ لا شَيْءَ». عَاشِرًا: قالتِ المعتزلةُ: «إِنَّ اللّهَ لم يتكلّمْ ولا يتكلّمُ، لِأَنَّ الكلامَ لا يكونُ، إلا بجارحةٍ. والجوارحُ عَنِ اللّهِ منفيةٌ». فردّتِ الحنابلةُ بِأَنَّ اللّهَ يتكلمُ، لِأَنَّ الكلامَ مِنْ صفاتِ الحياةِ. ومَنْ يقُلْ إِنَّ اللّهَ لا يتكلّمُ، فهو يُشَبِّهُ اللّهَ بالأصنامِ، «لِأَنَّ الأصنامَ لا تتكلّمُ ولا تتحرّكُ، ولا تزولُ من مكانٍ إِلَى مكانٍ».
بعدَ ذلكَ دخلتِ المعتزلةُ في صراعٍ مريرٍ معَ الأشاعرةِ انتهى إلى تشكيلِ العقيدةِ الأشعريّة، كَمَا يلي: أَوَّلًا: قالتِ المعتزلةُ بخلقِ القرآنِ، فقالَ الأشعريُّ في «الإبانة»: «نقولُ إنّ كلامَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، وَإنَّ مَنْ قَالَ بخلقِ القرآنِ، فهو كافرٌ». ثَانِيًا:ِ أنكرتِ المعتزلةُ عذابَ القبرِ، فقالَ الأشعريُّ في «الإبانة»: «نؤمنُ بعذابِ القبرِ ...». ثَالِثًا: نفتِ المعتزلةُ رؤيةَ اللّهِ يومَ القيامةِ، وَأقرّها الأشعريُّ بقولهِ: «ندينُ بِأَنَّ اللّهَ يُرى فِي الآخرةِ بالأبصارِ، كَمَا يُرى القمرُ ليلةَ البدرِ». رَابعًا: أنكرتِ المعتزلةُ شفاعةَ رسولِ اللّهِِ صلى الله عليه وسلم لمنِ استحقَّ العقابَ مِنَ المؤمنينَ، وقالتْ إِنَّ هَذِهِ الشفاعةَ لا تَتَّفِقُ مَعَ العدالةِ الإلهيّةِ، فَرَدَّ الأشعريُّ في «الإبانة» بقولِهِ: «نقولُ إنّ اللّهَ عزّ وَجلّ يُخرجُ قَومًا مِنَ النّارِ بَعْدَ أَنِ امتحشُوا (= احترقُوا)،بشفاعةِ رسولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عليه وَسَلَّمَ ...». خَامسًا: ذهبتِ المعتزلةُ إِلَى القَوْلِ بِأَنَّ الإنسانَ هُوَ خَالِقُ الشَّرِّ وَالمعَاصي، وَإِنَّ اللّهَ تَعَالَى «لا يجوزُ أنْ يكونَ مُريدًا للمَعَاصِي»، فعارضَ الأَشْعَرِيُّ قولَ المعتزلةِ هَذَا، وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ «الخيرَ وَالشَّرَّ بقضاءِ اللّهِ وقدرِهِ». بعدَ صبرٍ امتدّ لستّة عقودٍ من مظالمِ العسكرِ وجرائمهم، خرجَ شعبُ مصرَ يردّ على هذه المظالم، بشعار: «يسقط، يسقط، حكم العسكر»، وهو شعار تأخر ستّين عامًا.
4- السّويسريُّ هَانسُ كُينجَ صَاحِبُ نظريّة «المقاييس العالميّة للأخلاق»
ارتبطَ مصطلح «المقاييس العالميّة للأخلاق» (= بالألمانيّة:ّ “Weltethos“ ) بالمفكّر السّويسريّ الكبير هانس كيُنج Hans Küng، كبير علماء اللّاهوت في عصرنا هذا. وُلِد هانس كينج في مدينة سورسيه Sursee بكانتون لوتسرنLuzern في سويسرا في التّاسع عشرَ من شهر مارس سنة 1928م. بعد دراسات لاهوتيّة وفلسفيّة في جامعاتِ إيطاليا وفرنسا، عاد إلي سويسرا سنة 1957م حيثُ عمل في مدينة لوتسرن واعظًا دينيًّا لمدّةِ سنتينِ، قبل أن يقضي سنةً باحثًا في جامعة موينستر في ألمانيا الاتّحاديّة. عُيّن أستاذ كرسي لأصول اللّاهوت في جامعة تويبنجن في ألمانيا سنة 1960م. وبرغم قيام البابا يوحنّا الثّالث والعشرين بتعيينه مستشارًا لاهوتيًّا رسميًّا للمجمع الملّيّ سنة 1962م، ثُمَّ تعيينه أستاذًا في كلّيّة اللّاهوت الكاثوليكيّة في جامعة تويبنجن من 1963م حتَّى 1980م - إِلَّا أنّ هذا لم يفلح في منع وقوع الصّدام العنيف بينه وبين إمبراطوريّة الفاتيكان. طبيعة كُينج الثّوريّة حالت دون وقوع أيّ انسجام بينه وبينَ الفاتيكان. فكينج يدرسُ، ويبحثُ، ويفكّر، ويتأمّل، ويحلم، ويطوّر، وينقد، ويُصلحُ، ويعجز عن السّكوت على أيّ شيء يعتبره ظلمًا، أو خطأ، أو انحرافًا. أَمَّا الفاتيكان، فمكبّل بالقوانين، ومحكوم بالرّتب، ومقيّد بالنّظام الهرميّ. كينج يريد الإصلاح، والفاتيكان يأبى الإصلاح. كينج يريد التّطوير، والفاتيكان لا يعترف بشيءٍ اسمه التّطوير. كينج ينادي بالحرّيّة والمساواة، والفاتيكان يأبى إلّا التّشبث بالقيود والتّفرقة بين العباد. وصلتِ الخلافات الفكريّة-اللّاهوتيّة بينَ هانس كينج والفاتيكان إلى ذروتها عندما نشرَ كتابه الشّهير: «معصوم؟ Unfehlbar? » سنة 1970م. انتقد كينج في كتابه هذا عقيدة من أَهَمَّ عقائد الكنيسة الكاثوليكيّة، وهي مسألة عصمة بابا الكنيسة الكاثوليكيّة. وهي عقيدة أدخلتها الكنيسة الكاثوليكيّة على المعتقدات الكنسيّة حديثًا، دون أن يكون لها أيّ أساس في أناجيل المسيحيّة. فقد وضع المجمع الفاتيكانيّ الأوّل (المسكونيّ العشرون) سنة 1870م أسسَ هذه العقيدة الغريبة على رسالة المسيح الأصليّة:
أقرّ المجمع الفاتيكانيّ الأوّل (المسكونيّ العشرون) في جلسته الثّالثة (24-4-1870م) في الفصل الثّالث منَ الدّستور العقائديّ „Dei Filius“ ״ابن اللّه״ ما يلي: «الفصل الثّالث: سلطة رئاسة الحبر الرّومانيّ وطبيعتها: ولذلك فبالاستناد إلى شهادة الكتاب المقدّس الواضحة، وبحسب القرارات الّتي حدّدها صراحةً أسلافنا الأحبار الرّومانيّون، إلى جانب المجامع العامّة، نجدّد تحديد مجمع فلورنسا المسكونيّ، الّذي يفرضُ على المؤمنينَ أن يؤمنوا ״بأنّ للكرسيّ المقدّس الرّسوليّ والحبر الرّومانيّ الرّئاسةَ في الأرض كلّها، وبأنّ هذا الحبر الرّومانيّ هو خليفة الطّوباويّ بطرس، هامة الرّسل، ونائب المسيح الحقيقيّ، ورأس الكنيسة كلّها، وأبو جميع المؤمنينَ ومعلّمهم، وبأنّ إليه، في شخص الطّوباويّ بطرس، عهد ربّنا يسوع المسيح بالسّلطة التّامّة لرعاية الكنيسة كلّها وسياستها وإدارتها، كما ورد في أعمال المجامع المسكونيّة وقراراتها المقدّسة״.
وبناء على ذلك، نُعلّمُ ونُعلنُ أنّ كنيسةَ رومة تتمتع، بالنّسبة إلى سائر الكنائس، بتدبير من الرّبّ، بأوّليّة في السّلطة العاديّة، وأنّ هذه السّلطة القضائيّة الخاصّة بالحبر الرّومانيّ، وهي سلطة أسقفيّة حقًّا، هي مباشرة. فإنّ الرّعاة من كلّ صنف وكلّ جماعة والمؤمنين، كلّ واحد على انفراد وكلّهم مجتمعينَ، ملزمون بواجب الخضوع التّراتبيّ والطّاعة الحقيقيّة، لا في المسائل المختصّة بالإيمان والأخلاق فقط، بل في الّتي تتناولُ نظام الكنيسة المنتشرة في العالم كلّه وإدارتها. وبذلك، فإنّ الكنيسة، بحفظها وحدة المشاركة وشهادة الإيمان مع الحبر الرّومانيّ، هي قطيع واحد بإمرة راعٍ واحد. هذا هو تعليم الحقيقة الكاثوليكيّة، الّذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يحيدَ عنه دون أن يتعرّضَ إيمانه وخلاصه للخطر.
إنّ سلطة الحبر الأعظم هذه لم تحل على الإطلاق دونَ السّلطة القضائيّة الأسقفيّة العاديّة والمباشرة، الّتي يرعى بها الأساقفة، الّذين أقامهم الرّوح القدس (رسل 20/28) خلفاء الرّسل، ويديرونَ كلّ واحد القطيع الموكّل إليه. لا بل إنّ الرّاعي الأعلى والشّامل يؤكّد هذه السّلطة ويُثبّتها ويحميها، بحسب ما قال القدّيس غريغوريوس الكبير: ״إكرامي هو إكرام الكنيسة الجامعة. إكرامي هو قوّة إخوتي المتينة. وحين يؤدَّى لكلّ واحد الإكرام الّذي يعود إليه، أُكْرَمُ أنا״.
وبالتّالي، فمن تلك السّلطة الّتي يدير بها الحبر الرّومانيّ الكنيسةَ كلّها يُسْتَنتَجُ حقّه في الاتّصال بحرّيّة، في ممارسة وظيفته، برعاة الكنيسة كلّها وقطعانها، ليتمكّن من تعليمهم وإرشادهم في طريق الخلاص. ولذلك نشجبُ ونستنكرُ آراء الّذين يقولونَ بأنّه يمكنُ الحيلولة شرعيًّا دون اتّصال الرّئيس الأعلى بالرّعاة والقطعان، أوِ الّذينَ يُخضعونه للسّلطة المدنيّة، زاعمينَ أنّ ما يقرّره الكرسيّ الرّسوليّ أو سلطته في ما يختصّ بإدارة الكنيسة لا قوّة ولا قيمة له، ما لم تثبّته موافقة السّلطة المدنيّة.
ولأنّ الحقّ الإلهيّ في الرّئاسةِ الرّسوليّة يضعُ الحبرَ الرّومانيّ فوقَ الكنيسة كلّها، نعلّم ونُعلنُ أيضًا أنّه قاضي المؤمنين الأعلى، وأنّه ممكن، في جميع القضايا الّتي تختصّ بالسّلطة القضائيّة الكنسيّة، أن يُستندَ إلى حكمه. ولا يجوزُ لأيٍّ كانَ أن يشكَّ في حكم الكرسيّ الرّسوليّ، الّذي هو فوقَ كلّ سلطة، ولا يحقّ لأيٍّ كانَ أن يدينَ قراراته. ولذلك، فإنّ الّذين يقولونَ بأنّه يجوزُ رفعُ أحكام الحبر الرّومانيّ إلى المجمع المسكونيّ وكأنّه سلطة تفوق سلطة هذا الحبر، يحيدون عن طريق الحقّ.
فإن قالَ أحدٌ بأنّ وظيفة الحبر الرّومانيّ هي وظيفة تفتيش وإدارة، لا سلطة قضاء تامّة وعليا على الكنيسة كلّها، لا في ما يختصُّ فقط بالإيمان والأخلاق، بل في ما يختصُّ أيضًا بنظام الكنيسة المنتشرة في العالم كلّه وإدارتها، أو بأنّ له نصيبًا أكبر من تلك السّلطة العليا، لا كمالها التّامّ، أو بأنّ سلطته ليست عاديّة ومباشرة على جميع الكنائس وعلى كلّ واحدة منها، كما هي على جميع الرّعاة والمؤمنين، وعلى كلّ واحد منهم، فليكن مُبسلًا (= هَالِكًا)»(3).
نشرَ هانسُ كينجَ الطّبعةَ الأولى مِنْ كِتَابِهِ: «مَعْصُوم؟» سنةَ 1970م مُشكّكًا في هَذِهِ العقيدةِ. وَذَلِكَ بعدمَا أعلنَ الفاتيكانُ مُمَثَّلًا في بَابَا الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ رفضَهُ لوسائلِ منعِ الحملِ وتنظيمِ الأسرةِ كَافَّةً، وَهُوَ مَا اعْتبرَهُ كثيرٌ من العلماءِ مَوقفًا سَلْبِيًّا تجاهَ مشكلةِ الانفجارِ السّكّانيّ في مختلفِ أنحاءِ العالمِ. لم يتردّدِ الفاتيكانُ فِي اتّخاذِ موقفٍ عنيفٍ تجاهَ هانسَ كينجَ، حيثُ سارعُوا بفصلِهِ مِنْ كلّيّةِ اللّاهوتِ الكاثوليكيّةِ في جامعةِ تويبنجنَ سنةَ 1979م، دونَ أن يتجرؤوا على إصدارِ حكمٍ بطردِهِ مِنَ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ برمّتهَا، لأنّهُ مَا انفكّ يؤكّدُ أنّهُ مسيحيُّ الدّيانةِ، لكنّ فهمَه للمسيحيّةِ يختلفُ عَنْ فهمِ الفاتيكانِ لَهَا. انكبّ كينجُ بعدَ ذلكَ عَلَى دراسةِ أديانِ العالمِ. ثُمّ صَاغَ متأثّرَا بِهَذِهِ الدّراساتِ نظريّتَهُ عَنِ السّلامِ العالميّ سنةَ 1984م: «لا سَلامَ عالميًّا، بلا سَلامٍ بينَ الأديانِ. وَلا سلامَ بينَ الأديانِ، بِلَا حوارٍ بينَ الأديانِ». وفي عَامِ 1990م نشرَ كتابِهِ عَنْ «مشروع مقاييسَ عالميّةٍ للأخلاقِ». وَفي سنة 2006م نشرَ كتابَهُ «لماذَا مقاييسُ عالميّةٌ للأخلاقِ؟». وبلغَ عددُ مَا نشرَهُ من كُتُبٍ نَحْوَ سَبعينَ كِتَابًا. يقولُ هانسُ كينج في كِتَابِهِ «لِمَاذَا مَقَاييسُ عَالميّةٌ لِلْأَخْلَاقِ؟»:
«إِنَّ سَحْبَ رُخْصَةِ ٱلتَّدْرِيسِ ٱلْكَنَسِيَّةِ قَدْ مَنَحَنِي بِلَا شَكًّ - رَغْمَ أَنْفِ هَؤُلَاءِ ٱلْمَسْؤُولِينَ عَنْهُ - مَزِيدًا مِنَ ٱلْحُرَّيَّةِ وَٱلْوَقْتِ، لِلْٱنْفِتَاحِ عَلَى قَضَايَا ٱلْأَدْيَانِ ٱلْعَالَمِيَّةِ. لَكِنَّ هَذِهِ ٱلْمَسْأَلَةَ كَانَتْ قَدْ أَثَارَتِ ٱهْتِمَامِي بِدَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ مُنْذُ سَنَوَاتِ دِرَاسَتِي فِي رُومَا، مِنْ عَامِ 1948م حَتَّىٰ عَامِ 1955م. لَقَدْ شَارَكْتُ حِينَئِذٍ فِي حَلْقَةٍ دِرَاسِيَّةٍ Seminar عَنِ ٱلْخَلَاصِ خَارِجَ ٱلْكَنَائِسِ، خَلَاصِ ״ٱلْوَثَنِيَّينَ״. كَانَتْ مُسْوَّدَةُ أَوَّلِ بَحْثٍ لَاهُوتِيًّ صَغِيرٍ كَتَبْتُهُ فِي خَمْسِينِيَّاتِ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشّرِينَ عَنْ ״عَقِيدَةِ ٱلْوَثَنِيَّينَ״ “Glaube der Heiden“. فِي عَامِ 1955م زُرْتُ شَمَالَ أَفْرِيقْيَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ. سَافَرْتُ بِٱلْقِطَارِ مِنْ تُونِسَ إِلَى هِيبُونَ Hippo، ٱلْمَدِينَةِ ٱلَّتِي عَمِلَ فِيهَا أُغُوسْطِينُ Augustin، عِنْدَمَا لِمْ يَعْرِفِ ٱلطَّرِيقَ إِلَىٰ أَفْرِيقْيَا فِي خَمْسِينِيَّاتِ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشْرِينَ إِلَّا قِلَّةٌ مِنَ ٱللَّاهُوتِيَّينَ.
زُرْتُ جَمْعِيَّةَ رُهْبَانِ ״ٱلْآبَاءِ ٱلْبِيضِ״ “Die Weißen Väter“ فِي قَرْطَاجَةَ، وَأَتَذَكَّرُ كَيْفَ تَبَادَلْتُ أَطْرَافَ ٱلْحَدِيثِ لَيْلًا عَلَىٰ سَطْحِ كَاتِدْرَائِيَّةِ قَرْطَاجَةَ مَعَ ٱلرَّئِيسِ ٱلْإِقْلِيمِيَّ حِينَئِذٍ عَنْ أَسْبَابِ عَدَمِ إِحْرَازِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ أَيَّ تَقَدُّمٍ يُذْكَرُ فِي ٱلْوَاقِعِ فِي شَمَالِ أَفْرِيقْيَا، حَيْثُ يَسُودُ ٱلْإِسْلَامُ.
كَانَ ٱلْٱشْتِغَالُ بِذَلِكَ إِذًا، وَٱلْحِوَارُ مَعَ أَدْيَانِ ٱلْعَالَمِ ٱلْكُبْرَىٰ، مِنَ ٱهْتِمَامَاتِي ٱلْمُبَكَّرَةِ. لَكِنَّي لَمْ أُخَطَّطْ مَسِيرَتِي ٱللَّاهُوتِيَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ بِوُسْعِي ٱلتَّخْطِيطُ لَهَا عَلَىٰ ٱلْإِطْلَاقِ. كَانَتْ تُوَاجِهُنِي تَحَدَّيَاتٌ جَدِيدَةٌ بِصُورَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ. لَقَدْ عَمِلْتُ، إِنَّ صَحَّ ٱلتَّعْبِيرُ، حَسَبَ نَمُوذَجِ تُويِنْبِي ״ٱلتَّحَدَّي وَٱلْٱسْتِجَابَةُ״ “challenge and response“. كُنْتُ أَتَرَاجَعُ أحْيَانًا عَنْ خُطَطٍ لِنَشْرِ كُتُبٍ، لِأَنَّ هَذَا وَذٰاكَ جَاءَ فِي تِلْكَ ٱلْأَثْنَاءِ بِصُورَةٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعَةٍ. كُنْتُ قَدْ أَرَدْتُ بَعْدَ ٱلْٱنْتِهَاءِ مِنْ أُطْرُوحَتِي لِنَيْلِ شَهَادَةِ ٱلدُّكْتُورَاةِ فِي عِلْمِ ٱللَّاهُوتِ عَنْ مَوْضُوعِ ٱلتَّبْرِيرِ Rechtfertigung ٱلتَّقَدُّمَ أَوَّلًا لِلْحُصُولِ عَلَىٰ دُكْتُورَاةٍ فِي ٱلْفَلْسَفَةِ مِنْ پَارِيسَ، وَأَعْدَدْتُ لِذَلِكَ مُسْوَّدَةً شِبْهَ كَامِلَةٍ عَنْ هِيجَلَ Hegel. تَرَاجَعْتُ عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ ٱسْتِدْعَائِي لِجَامِعَةِ تُوِيبِنْجِنْ Tübingen كَأُسْتَاذِ كُرْسِيًّ، ثُمَّ صِرْتُ بَعْدَ ذٰلِكَ لَاهُوتِيَّ مَجْمَعٍ Konzilstheologe.
بَعْدَ قَضَايَا ٱلْوُجُودِ ٱلْمَسِيحِيَّ die christliche Existenz، وَتِبْرِيرِ مُقْتَرِفِ ٱلْمَعَاصِي، ٱلَّتِي شَغَلَتْنِي فِي خَمْسِينِيَّاتِ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشْرِينَ، كَانَتْ سِتَّينِيَّاتُ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشْرِينَ بَعْدَ ذٰلِكَ مَطْبُوعَةً كُلَّيَّةً بِمَسَائِلِ ٱلْمَجْمَعِ (= ٱلْمَجْمَعِ ٱلْفَاتِيكَانِيَّ ٱلثَّانِي)، وَٱلْكَنِيسَةِ، وَٱلْحَرَكَةِ ٱلْمَسْكُونِيَّةِ. كُنْتُ مَشْغُولًا بِمَا فِيهِ ٱلْكِفَايَةُ لِٱسْتِيعَابِ كُلَّ مَا ٱنْهَالَ عَلَيَّ ذِهْنِيًّا حِينَئِذٍ. أَلَّفْتُ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ كِتَابِي عَنِ ״ٱلْكَنِيسَةِ״ “Die Kirche“ (عَامَ 1967م)، ٱلَّذِي مَازَالَ يُسْتَخْدَمُ مَرْجِعًا فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ حَتَّىٰ يَوْمِنَا هَذَا، بِٱسْتِثْنَاءِ ٱلْأَمَاكِنِ ٱلَّتِي تَمَّ حَظْرُهُ فِيهَا.
بَعْدَ ذٰلِكَ كَانَتْ سَبْعِينِيَّاتُ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشْرِينَ مُخَصَّصَةً لِأُسُسِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ. كَانَ ذٰلِكَ نَتِيجَةً لِأَنَّ كِتَابِي: ״مَعْصُومٌ؟״ „Unfehlbar?“ (عَامَ 1970م) طَرَحَ ٱلسُّؤَالَ إِنْ كَانَ مِنَ ٱلْمُمْكِنِ حَقًّا تَأْسِيسُ عِلْمِ لَاهُوتٍ عَلَىٰ عَقَائِدَ مَعْصُومَةٍ، خَاصَّةً عِنْدَمَا تَكُونُ عَقَائِدَ مَشْكُوكًا فِيهَا هَكَذَا، مِثْلَ عَقِيدَةِ ״لَا خَلَاصَ خَارِجَ ٱلْكَنِيسَةِ״ مَثَلًا.
تُكوَّنُ ٱلْكُتُبُ ٱلثَّلَاثَةُ: ״هُوِيَّةُ ٱلْمَسِيحِيَّ״ „Christ sein“، وَ״هَلِ ٱللّهُ مَوْجُودٌ؟״ „Existiert Gott?“، وَ״حَيَاةٌ سَرْمَدِيَّةٌ؟״ „Ewiges Leben?“ بِٱلنَّسْبَةِ لِي أَسَاسَ عَمَلِي ٱللَّاهُوتِيَّ حَتَّى ٱلْيَوْمِ. لَمْ أُضْطَرَّ إِلَى تَنْقِيحِ أَيًّ مِنْ هَذِهِ ٱلْمَوَاقِفِ حَتَّىٰ يَوْمِنَا هَذَا. بِٱلْعَكْسِ، فَإِنَّ ٱلْفَصْلَ ٱلْأَوَّلَ مِنْ كِتَابِ ״هُوِيَّةِ ٱلْمَسِيحِيَّ״ „Christ sein“ قَدْ وَصَفَ أُفُقَ ٱلْعَلْمَانِيَّةِ ٱلْحَدِيثَةِ moderne Säkularität وَأُفُقَ ٱلْإِلْحَادِ ٱلْحَدِيثِ moderne Atheismus مِنْ نَاحِيَةٍ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَىٰ أُفُقَ ٱلْأَدْيَانِ ٱلْعَالَمِيَّةِ. أَمَّا كِتَابِي ״هَلِ ٱللّهُ مَوْجُودٌ؟״ „Existiert Gott?“ ، فَهُوَ يُعَالِجُ مَُصْطَلَحَ ٱلْإِلَهِ عِنْدَ ٱلصَّينِيَّينَ، وَفِي ٱلدَّيَانَةِ ٱلبُوذِيَّةِ ٱلَّتِي لَا تَعْرِفُ مَذْهَبَ ٱلتَّأْلِيهِ. وَيَتَنَاوَلُ كِتَابِي ״حَيَاةٌ سَرْمَدِيَّةٌ؟״ „Ewiges Leben?“ عِلْمَ ٱلْآخِرَةِ Eschatologie، وَأَوْجُهًا أُخْرَىٰ لِلدِّيَانَاتِ ٱلْعَالَمِيَّةِ.
بِهَذِهِ ٱلْخَلْفِيَّةِ كُنْتُ فِي نِهَايَةِ عَامِ 1979م، عِنْدَمَا وَقَعَتِ ٱلْمَعْرَكَةُ ٱلْكُبْرَى بَيْنِي وَبَيْنَ ٱلْفَاتِيكَانِ بَخُصُوصِ مَوْضُوعِ ״ٱلْعِصْمَةِ״ Unfehlbarkeit مُسْتَعِدًّا بِدَرَجَةٍ لَا بَأْسَ بِهَا لِهَذَا ٱلْٱنْفِتَاحِ عَلَى ״ٱلْحَرَكَةِ ٱلْمَسْكُونِيَّةِ ٱلْكُبْرَىٰ״ (أَيِ ٱلْحِوَارِ بَيْنَ أَدْيَانِ ٱلْعَالَمِ). وَإِلَّا فَمِنَ ٱلْمُرَجَّحِ أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ لِأَتَجَاسَرُ عَلَى مُنَاقَشَةِ ٱلْمُتَخَصَّصِينَ فِي ٱلْإِسْلَامِ وَٱلْهِنْدُوسِيَّةِ وَٱلْبُوذِيَّةِ عَلَانِيَّةً عَامَ 1982م فِي قَاعَةِ ٱلْمُحَاضَرَاتِ ٱلْكُبْرَى بَجَامِعَةِ تُوِيبِنْجِنَ Tübingen حَوْلَ ٱلْقَضَايَا ٱلْأَسَاسِيَّةِ لِهَذِهِ ٱلْأَدْيَانِ. لَقَدْ مَنَحَنِي ٱلْأَسَاسُ ٱلْمَتِينُ فِي ٱللَّاهُوتِ ٱلْمَسِيحِيَّ ٱلطُّمَأْنِينَةَ بِأَنَّهُ سَيَخْطُرُ عَلَى بَالِي إِجَابَةٌ عَنْ كُلَّ مَا يَرِدُ إِلَيَّ مِنَ ٱلْأَدْيَانِ ٱلْعَالَمِيَّةِ ٱلْأُخْرَىٰ. إِنَّ مَا وَضَعْتُ أَسَاسَهُ قَبْلَ ذٰلِكَ بِكَثِيرٍ، تَمَكَّنْتُ مَنْ تَطْوِيرِهِ مِهْنِيًّا فِيمَا بَعْدُ. مِنْ خِلَالِ ٱلْحِوَارِ مَعَ زُمَلَائِي فِي جَامِعَةِ تُوِيبِنْجِنْ: أُسْتَاذِ ٱلدَّرَاسَاتِ ٱلْهِنْدِيَّةِ هَايِنْرِيخَ فُونْ شْتِيتِنْكُرُونَ Heinrich von Stietencron، وَأُسْتَاذِ ٱلدِّرَاسَاتِ ٱلْإِسْلَامِيَّةِ يُوسُفَ فَانْ إِسَ Josef van Ess، وَأُسْتَاذِ ٱلدِّرَاسَاتِ ٱلْبُوذِيَّةِ فِي جَامِعَةِ تُوِيبِنْجِنْ بِيخَرْتَ Bechert، وَٱلزَّمِيلَةِ ٱلصَّينِيَّةِ يُولْيَا تِشِينْجَ، جَاءَتْنِي بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلْوَاقِعِ تِلْقَائِيًّا فِكْرَةُ ٱلسَّلَامِ بَيْنَ ٱلْأَدْيَانِ، كَأَسَاسٍ لِلسَّلَامِ بَيْنَ ٱلْأُمَمِ.
لَقَدْ تَمَّ صِيَاغَةُ هَذِهِ ٱلْفِكْرَةِ عَامَ 1984م، قَبْلَ أَنْ يَلْفِتَ صَامْوِيلُ هَانْتِجْتُونَ ٱلْأَنْظَارَ إِلَيْهِ بِمَقَالِهِ عَنْ ״صِدَامِ ٱلْحَضَارَاتِ״ „Clash of Civilization“ بِوَقْتٍ طَوِيلٍ. وَلِأَنَّي كُنْتُ قَدْ تَحَدَّثْتُ عَامَ 1989م، ٱلْعَامَ ٱلْكَبِيرَ لِلثَّوَرَاتِ ٱلْأُورُوبَّيَّةِ، فِي كُلًّ مِنَ ٱلْيُونِسْكُو UNESCO عَنْ سَلَامِ ٱلْأَدْيَانِ، وَٱلسَّلَامِ ٱلْعَالَمِيِّ، وَفِي ٱلْمُنْتَدَىٰ ٱلْٱقْتِصَادِيَّ ٱلْعَالَمِيَّ فِي دَافُوسَ عَنْ مَسْأَلَةِ ״ٱلْمَعَايِيرِ ٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْمُشْتَرَكَةِ״، كُنْتُ مُهَيَّأً بِصُورَةٍ جَيَّدَةٍ فِي ٱلْعَامِ ٱلتَّالِي لِنَشْرِ كِتَابِي: ״مَشْرُوعُ مَقَايِيسَ عَالَمِيَّةٍ لِلْأَخْلَاقِ״ „Projekt Weltethos“ (عَامَ 1990م). لَقَدْ تَحَدَّانِي ٱلْآخَرُونَ (= طَلَبُوا مِنَّي) أَنْ أُفَكَّرَ فِي ٱلْمَعَايِيرِ ٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْمُشْتَرَكَةِ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَحَاوَلْتُ بِدَوْرِي تَقْدِيمَ إِجَابَاتٍ»(4).
5- مَا هِيَ المَقَاييسُ العالميّةُ لِلْأَخْلَاقِ؟
مَرَّ هَانْسُ كينجَ بثلاثِ مَرَاحِلَ أساسيّةٍ، قَبْلَ أَنْ يُكَلِّلَ مَشروعَهُ الفكريَّ بنظريّةِ «المقاييسِ العالميّةِ للأخلاقِ». فَدرسَ أَوَّلًا اللّاهوتَ المسيحيَّ دراسةً عميقةً. ثُمّ انتقلَ بعدَ ذلكَ إلى دراسةِ الأدْيَانِ العالميّة، بَعْدَ فصلِهِ من كلّيّة اللّاهوتِ الكاثوليكيّة في جَامعةِ تويبنجن بألمانيا. وفي المرحلةِ الثّالثةِ وضعَ نظريّتَهُ عَنِ السّلامِ العالميّ: «لَا سَلامَ عالميًّا، بِلَا سَلامٍ بينَ الأديانِ. لا سلامَ بينَ الأديانِ، بدونِ حوارٍ بينَ الأديانِ. لا حوارَ بينَ الأديانِ، بدون دراسةٍ لأصولِ الأديانِ». وَفي المرحلةِ الرّابعةِ وضَعَ نظريّته عَنِ «المقاييسِ العالميّةِ للأخلاق». النّصُّ المستخدمُ هُنَا هُوَ التّرجمة العربيّة ل «إعلان برلمان الأديان العالميّة عَنِ المقاييسِ العالميّة للأخلاق». كتبَ هانس كينج هذا الإعلانَ في الرّابعِ مِنْ شهرِ سبتمبرَ عَامَ 1993م، ونشره كملحقٍ في كتابه: «لماذا مقاييس عالميّة للأخلاق؟» يمكنُ اعتبارُ «المقاييس العالميّة للأخلاق» ردّ فعلٍ على الأوضاعِ المزريّة الّتي وصلتْ إليها الإنسانيّةُ بصفةٍ عامّة في عصرنا هذا. يصدّر هانس كينج إعلانه الخاصّ ب «المقاييس العالميّة للأخلاقيّة» بتوصيفٍ دقيقٍ لأحوال الإنسانيّة في عصرنا هذا. استعراض هانس كينج لقضايا العصر وهمومه يمكنُ اعتباره أيضًا وصفًا لأحوال مصرنا في كثيرٍ من جوانبه. فكما قالوا قديمًا إنّ الإنسانَ عالمٌ صغيرٌ، والعالم إنسانٌ كبيرٌ، فيمكنُ اعتبارُ مصرَ عالمًا صغيرًا، والعالمَ مصرَ كبيرةً. فالأزماتُ الّتي نعاني منها في مصرنا، هي أزمات متشابهة لما تعاني منه دولٌ أخرى، بدرجاتٍ متفاوتة. يصفُ هانسُ كينجَ ما يعانيه عالم اليوم من مشاكل وأزمات، فيقول:
«يَمُرُّ عَالَمُنَا بِأَزْمَةٍ أَسَاسِيَّةٍ: أَزْمَةِ ٱقْتِصَادٍ عَالَمِيًّ، وَأَزْمَةِ بِيئَةٍ عِالَمِيَّةٍ، وَأَزْمَةِ سِيَاسَةٍ عَالَمِيَّةٍ. يَشْكُو ٱلنَّاسُ فِي كُلَّ صَوْبٍ وَحَدَبٍ مِنْ غِيَابِ ٱلرُّؤْيَةِ ٱلْكُبْرَى، وَٱلتَّرَاكُمِ ٱلرَّهِيبِ لِلْمَشَاكِلِ غَيْرِ ٱلْمَحْلُولَةِ، وَٱلشَّلَلِ ٱلسَّيَاسِيَّ. فَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا قِيَادَاتٌ سِيَاسِيَّةٌ مُتَوَسَّطَةُ ٱلْمُسْتَوى غَيْرُ مُتَمَيَّزَةٍ، بِلَا وَعْيٍ، وَبِلَا ٱسْتِشْرَافٍ لِلْمُسْتَقْبَلِ، نَاهِيكَ عَنْ ضَحَالَةِ ٱلْإِحْسَاسِ بِٱلْخَيْرِ ٱلْعَامَّ عُمُومًا. ثَمَّةَ إِجَابَاتٌ قَدِيمَةٌ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْبَغِي لِتَحَدَّيَاتٍ جَدِيدَةٍ. يُعَانِي مِئَاتُ ٱلْمَلَايِينِ مِنَ ٱلْبَشَرِ عَلَى كَوْكَبِنَا ٱلْأَرْضِ بِصُورَةٍ مُتَزَايِدَةٍ مِنَ ٱلْبِطَالَةِ، وَٱلْفَقْرِ، وَٱلْجُوعِ، وَتَدْمِيرِ ٱلْأُسْرَةِ. ٱلْأَمَلُ فِي سَلَامٍ دَائِمٍ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ يَتَلَاشَى مِنْ جَدِيدٍ. بَلَغَتِ ٱلتَّوَتُّرَاتُ بَيْنَ ٱلْجِنْسَيْنِ، وَبَيْنَ ٱلْأَجْيَالِ حَدًّا مُخِيفًا. يَمُوتُ ٱلْأَطْفَالُ، وَيَقْتُلُونَ، وَيُقْتَلُونَ. تَهُزُّ فَضَائِحُ ٱلْفَسَادِ فِي ٱلسَّيَاسَةِ وَٱلْٱقْتِصَادِ عَدَدًا مُتَزَايِدًا مِنَ ٱلدُّوَلِ. ٱلتَّعَايُشُ ٱلسَّلْمِيُّ فِي مُدُنِنَا يَزْدَادُ صُعُوبَةً بِسَبَبِ ٱلصَّرَاعَاتِ ٱلْٱجْتِمَاعِيَّةِ وَٱلْعِرْقِيَّةِ وَٱلْإِثْنِيَّةِ، وَبِسَبَبِ سُوءِ ٱسْتِخْدَامِ ٱلْمُخَدَّرَاتِ، وَٱلْجَرَائِمِ ٱلْمُنَظَّمَةِ، بَلْ بِسَبَبِ ٱلْفَوْضَى. حَتَّى ٱلْجِيرَانِ كَثِيرًا مَا يَعِيشُونَ فِي خَوْفٍ. مَازَالَ نَهْبُ كَوْكَبِنَا ٱلْأَرْضِ يَحْدُثُ بِلَا هَوَادَةٍ. تُوَاجِهُ ٱلْأَنْظِمَةُ ٱلْبِيئِيَّةُ خَطَرَ ٱلْٱنْهِيَارِ».
يهمّني أن أشيرَ إلى المجهود الهائل الّذي بذله هانس كينج في صياغة هذا الإعلان، حيث كان عليه أن يجري عليه الكثيرَ من التعديلات والتّنقيحات، قبل أنْ يأخذَ شكله الحالي. أتذكّرُ أنّني استمتعتُ جدًّا بنقله إلى اللّغة العربيّة، وأبلغت كينج أثناء دراستي هذا الإعلانَ أنّني أعتبره أشبه بقصيدةٍ شعريّةٍ جميلةٍ. يشيرُ هانس كينج بعد ذلك إلى دخولِ الإنسانيّة عصرًا جديدًا، بعد الحرب العالميّة الثّانيةِ الّتي خلّفت خسائرَ هائلة، دون أن تتّعظَ الإنسانيّةُ منها:
«بَعْدَ حَرْبَيْنِ عَالَمِيَّتَيْنِ، وَنِهَايَةِ ٱلْحَرْبِ ٱلْبَارِدَةِ، وَبَعْدَ ٱنْهِيَارِ ٱلْفَاشِيَّةِ وَٱلنَّازِيَّةِ، وَزَلْزَلَةِ ٱلشُّيُوعِيَّةِ وَٱلْٱسْتِعْمَارِ، دَخَلَتِ ٱلْإِنْسَانِيَّةُ مَرْحَلَةً جَدِيدَةً مِنْ تَارِيخِهَا. مِنَ ٱلْمُفْتَرَضِ أَنَّ ٱلْإِنْسَانِيَّةَ تَمْتَلِكُ ٱلْيَوْمَ مَوَارِدَ ٱقْتِصَادِيَّةً، وَثَقَافِيَّةً، وَفِكْرِيَّةً، كَافِيَةً لِتَأْسِيسِ نِظَامٍ عَالَمِيًّ أَفْضَلَ. إِلَّا أَنَّ تَوَتُّرَاتٍ إِثْنِيَّةً، وَقَوْمِيَّةً، وَٱجْتِمَاعِيَّةً، وَٱقْتِصَادِيَّةً، وَدِينِيَّةً، قَدِيمَةً وَحَدِيثَةً، تُهَدَّدُ ٱلتَّأْسِيسَ ٱلسَّلْمِيَّ لِعَالَمٍ أَفْضَلَ. صَحِيحٌ أَنَّ عَصْرَنَا شَهِدَ تَقَدُّمًا عِلْمِيًّا وَتِكْنُولُوچِيًّا أَعْظَمَ مِنْ أَيَّ وَقْتٍ مَضَى، إِلَّا أَنَّنَا نُوَاجِهُ بِرَغْمِ ذَلِكَ حَقِيقَةَ أَنَّ مُعَدَّلَاتِ ٱ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.