يدور سجال حول هيئة الأمر بالمعروف التي أطلقت صفحتها على موقع " الفيس بوك"، وبين رأي مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فيها، واعتبارها خروجا عن الشرعية، وتدخلا في سلطات الأزهر الشريف، مما يعني إعلان أن الأزهر هو صاحب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الرسمي في مصر. ورغم إعلان هيئة الأمر بالمعروف المصرية أنها ستنتهج الطريقة السلمية للمحافظة على إسلامية مصر، وأنها لن تلجأ إلى العنف، فإن تشكيل مثل هذه الهيئة وتصريحات الأزهر في حد ذاته يحمل دلالات تحتاج إلى مراجعة فكرية. من صاحب الحق؟ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وجعله شعارا من شعائر هذه الأمة هو في الحقيقة حق عام للمؤمنين جميعا، ليس للأزهر ولا لتلك الهيئة الناشئة حق في مصادرته واعتباره حقا خاصا، وادعاء فريق بعينه دون الناس أنه صاحب الحق غير دقيق، وإن فهم البعض تلك السلطة ولو كانت معنوية من قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }آل عمران104، فإن الآية يفهم منها أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من فروض الكفايات على الأمة، أي يجب أن يقوم المجتمع به فيما بينهم، ويحرم التغاضي عنه، لا أن تتعين جماعة بعينها دون غيرها، وأن يكون لها الحق دون غيرها، فيكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حراكا مجتمعيا لا سلطويا. والعلم في مصر ليس محصورا على الأزهر الشريف، ومازال الاختلاف بين المدرسة الأزهرية والمدرسة السلفية خاصة محل جدل كبير، فلا الأزهر يعترف بمشايخ السلفية وغيرهم من المشايخ غير الأزهريين مهما أوتوا من العمل، ما لم يأخذوا الصك من الأزهر، ولا عدد من مشايخ السلفية وغير الأزهريين عموما يعترفون بالأزهر لتاريخه المعاصر الذي يرون – من وجهة نظرهم- أنه حاد عن المنهج الذي كان عليه. وكنا نتمنى من الأزهر ورجالاته أن يبادروا باحتواء كل الأطراف المعنية بالشأن الديني من الدعاة والمفتين والمشايخ ماداموا أهلا لهذه الوظائف، وإن لم يتخرجوا من معاهد وجامعات الأزهر، فمما لا يمكن تغافله أن هناك من خارج دائرة الأزهر من هم أعلم من خريجي الأزهر، وإن كانت مؤسسة الأزهر تبقى هي المؤسسة الأم الكبيرة صاحبة التاريخ العريق، وستظل إن شاء الله تعالى. مستويات الأمر بالمعروف حسب فهمي فوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها أكثر من مستوى: المستوى الأول: وهو مستوى الحراك الشعبي الفردي، فكل مسلم إن رأى من أخيه مخالفة صريحة للكتاب والسنة، فواجب عليه وجوبا كفائيا أن ينصحه ويذكره بالطرق السلمية والكلمة الحسنة كما قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125، وهذا الحراك الشعبي الفردي يحفظ توازن المجتمع، ومازلنا في مصر نعيش ذلك الحراك الذي ربما يأخذ معنى ( الشهامة، والرجولة، وعدم فعل العيب ونحوه من المصطلحات الشعبية الشائعة في المجتمع المصري). وهذه الطريقة هي الطريقة المثلى، لأنها لا تمثل عند من يرتكب المحرمات نوعا من السلطة، والإنسان بطبعه يكره التسلط عليه أيا كان مصدرها، ولكنه قد يقبل إن شعر في نفسه بالحرية، وأن ما يقدم له يقدم تطوعا، ولا إجبار عليه، مالم يتعد فعله حق الآخرين، فإن تعدى فعله حق الآخرين، كانت الطريقة الثانية، وهي حق السلطة والقانون في منع التعدي على الآخرين من خلال ارتكاب بعض المحرمات. ومن هنا فهم جماعة الهيئة أنه لابد في الدولة ممن يحمي المجتمع من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أمر في قصده حسن، لكنه لا يؤتى بمثل هذا الشكل، بل يكون بتمكين السلطة والدولة ومن خلال سيادة القانون بما يضمن سلامته من الانحراف والشذوذ في التطبيق، وإلا فإنه لا ضمان لسلمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصة أن كثيرا ممن يؤمنون بهذا الشكل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غالبهم مصابون بداء التشدد، وربما ضر أكثر مما ينفع. وتلك المستويات المتعددة من النصيحة في الأمة هو ما أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث، من ذلك حديث سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم. وقد بين الحديث أن إنكار المنكر على مراتب ثلاث : التغيير باليد ، والتغيير باللسان ، والتغيير بالقلب ، وهذه المراتب تتعلق بطبيعة المنكر وطبيعة القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففرق بين الأمر بالمعروف بين الإنسان وصديقه أو من لا يعرفه، أو بين الرجل في بيته، أو بين السلطة والشعب، ومقصود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الحفاظ على وحدة المجتمع وسلامته، وألا يجر الفاسدون المجتمع إلى الهاوية. فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخطر في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما يزال الأزهر والجماعات الإسلامية حين تتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي تركز عليه في حق الأفراد، من الحجاب والتبرج، أو شرب السجائر أو طريقة لبس بعض الشباب والفتيات، في حين يترك الفساد الذي دمر البلاد وأضاع العباد، وأودى بمصر إلى مشارف الهاوية، إن الفساد الإداري والفساد المتعلق بالمؤسسات لهو أخطر ألف مليون مرة من فساد الأفراد في الشارع لبعض المظاهر، ولو كانت محرمة، وبدلا من أن نفكر في إنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نحن بحاجة إلى تصحيح مسار مؤسسات الرقابة في مصر، حتى تراقب الفساد الأكبر بدلا من تركه يستشري، ونهتم نحن بالمظاهر دون الجواهر، وكما هو معلوم عند الفقهاء أنه يقدم الأهم على المهم، والعام على الخاص، فهناك قضايا جوهرية أكبر من تفاصيل المقصود بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أننا يجب أن نعي ثقافة الدولة والمؤسسات وأن تحل – في كثير من الأمور – محل الثقافة الفردية؛ لأننا في طور جديد لبناء الدولة المصرية، فلا لهيئة الأمر بالمعروف ولا لحصر الدعوة في الأزهر، ونعم لثقافة المؤسسة والدولة. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمقصد من مقاصد الشريعة لا خلاف حوله، ولا اجتهاد في الحكم على مشروعيته، فهو واجب على الكفاية، لكن تحقيق وسائله هي مناط الاجتهاد، فإن كانت وسيلة تحقق المقصد يغلب على الظن أنها لن تؤدي إليه، فهي باطلة شرعا. الواقع المصري وفي الواقع المصري، يقرأ أن قيام هيئة بالمعروف والنهي عن المنكر يعني تشابها بين هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسعودية، وواقع البلدين مختلف تماما، كما أن هذا قد يجر إلى مفاسد أكبر، من قيام التيار العلماني بحملة ضد تعاليم الإسلام وترويج حملة أن الإسلاميين يريدون مصر كأفغانستان أو إيران أو السعودية، وغالب الطوائف المصرية ترفض أن تكون مصر استنساخا لأية تجربة كان، مما قد يعني ضغطا على السلطات الحاكمة لتقييد إرادة الشعب المصري في قبوله للشريعة حاكما على منهج الوسطية والاعتدال المعروف بها الشعب المصري. بل قد يصل التخوف عند طوائف من الشعب المتدين بفطرته، فيترك التدين أو يناقضه أو يحاربه، لأننا صورناه له بصورة غير مقبولة، ومنهج الإصلاح والتغيير لابد فيه من مراعاة المرحلية والتدرج، وانتهاء الطريقة السلمية بعيدا عن أيديولوجيات، فنحن بحاجة إلى تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يكن بهذا الاسم، فقد قبل عمر – رضي الله عنه- الجزية دون تسميتها، وهناك حرب مصطلحات قائمة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجود ولو بحدود في مسميات يتفق عليها الجميع وتأخذ حكم القانون وهي مقبولة عند الناس، فلماذا الإصرار على التسميات والصور دون الاهتمام بالجوهر. ثقافة النصح إن من أهم الأدوار على الدعاة عموما أن يسعوا إلى نشر ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس، من خلال خطب الجمعة والدروس المسجدية والبرامج الإذاعية وعلى الفضائيات، وأن يفقهوا الناس بكيفية بالأسلوب الأحسن والطريق الأمثل، حتى يكون جزءا من نسيج المجتمع المصري كما كان في القديم. فقه الأولويات إن كثيرا من الإسلاميين – للأسف- يجرون إلى معارك خاسرة، فهل من أولويات الحركات الإسلامية في حكم مصر نشر الحجاب الذي هو غالب على المرأة المصرية، أو منع دور السينما و المسرح ومحاربة الفنون التي فيها مخالفات شرعية، أم من الأولى البحث عن أولويات هي من صميم الشريعة حتى يحفظ الناس دينهم، كإيجاد مساكن لمن يسكنون القبور أو الشوارع، وإيجاد فرص عمل للعاطلين، أو توفير دواء للمرضى الذين يموتون لعجزهم عن دفع أجرة التداوي، بعد أن يعيشوا ردحا من الزمن تحت براثن المرض، أو توفير الحماية والأمن الذي يفقد في كثير من الأحيان. لو كنت مكان أحد الإسلاميين السياسيين وسئلت عن الخمر أو الحجاب أو نحوها من الأمور التي يطرحها الإعلام سواء أكان بقصد أو بدون قصد، لأجبت: إنني كمسلم أعتقد حرمة الخمر، ووجوب النقاب، وحرمة شرب السجائر، كما أعتقد أن التبرج حرام، لكن هذه أمور ليست من أولوياتنا، ونحن سنترك للشعب الخيار في فعلها، ولكننا سنتهم بقضايا أكبر، ونذكرهم بالله في مثل هذه الأمور، فياليت قومي يعلمون! ------------------------------------------------------------------------- *دكتوراة في الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة ، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الباحث بوزارة الأوقاف الكويتية.
------------------------------------------------------------------------ التعليقات محمد العطار الأحد, 15 يناير 2012 - 11:39 pm كلمة ونص إن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صام أمان للأمة.