ما كتب عن نصر أكتوبر كثير، وماسيكتب عنه أكثر، ويقولون أن التاريخ يكتبه القادة والملوك، وهذا حقيقى، وأذكر أننى حين كنت طفلا كنت أكره أبطال الحروب فى أفلام السينما، لأنهم يمشون فوق جثث قتلى الأعداء بزهو وكبرياء، ولا يبكون لجنودهم القتلى، ولقد قرأت وتابعت الأعمال التى أنتجت عن نصر أكتوبر، فلم أجد فى أى منها ما يذكر ما هو أساس هذا النصر.. فتعالوا نبدأ الحكاية من أولها. سلطة الثورة هزمت فى 5 يونيو وانتصر الشعب.. إن حقيقة ما حدث فى 5 يونيو 1967 ، هو أن نظام يوليو والرئيس عبد الناصر قد هزم، وأن شرعية نظامه قد سقطت بقبوله للهزيمة، وأن قرار تنحيه وتنصيب زكريا محيى الدين، هو قرار لا شرعية له فمن فقد الشرعية لا يستطيع أن يمنحها غيره، والحقيقة أيضا أن النظام لم يكن يتمتع بشرعية دستورية، وبسقوط شرعيته الثورية بقبوله للهزيمة إنتهت شرعيته تماما. ولعل من البديهى والذى إتفق عليه كل المحللين أن إختيار زكريا محيى الدين كان تأكيدا لهذا المعنى، وكان لشعب مصر القوى العظيم رأى آخر، فقد خرج الناس فى كل مناطق وجهات مصر يهتفون " هنحارب "، فالشعب المصرى بصلابته وتاريخه الطويل، رأى المصيبة فى إطارها التاريخى بإعتبارها خسارة معركة لا خسارة حرب، وأنه بما إمتلك من إرادة النصر قد رفض قبول الهزيمة كنتيجة نهائية للصراع كما رأتها السلطة الناصرية، ولا يعنى هذا أن الناس كانت قد كرهت عبد الناصر، ولم يكن النظام فى عهد ناصر يسمح ببروز قيادات وكوادر منافسة، وعلى طريقة عبد الحليم حافظ " إللى شبكنا يخلصنا "، إحتفظ الشعب المصرى بحلم الزعيم، وأسقط البطانة، وربط مطالبته بإستمرار الجهاد والصراع ضد المشروع الصهيونى الأمريكى بناصر.. هذه الوقفة الشعبية كانت حجر الأساس الذى بنى عليه كل شيئ بسواعد شعبنا، لتخطى الهزيمة وبلوغ عبورها المجيد الرائع. حينما يوضع الشعب فى مكانته.. الدولة المهزومة التى أعاد الشعب بوقفته الشجاعة الروح إليها، لم تكن لتستطيع الاستمرار فى معاملة الناس مدنيين وجنود بإعتبارهم ديكور ضرورى للسلطة وحسب، فقد تغيرت المعاملة المهينة التى كان يلقاها المواطن من السلطة فى كل مكان وخاصة الجيش، وعاد للجندى مكانه فلم يعد مخصصا للخدمة الخاصة فى منازل القادة، وشهدت مصر حالة من الإنفراج فى الأداء السياسى والاجتماعى للسلطة، فانطلقت طاقات الناس فى كل المجالات، وقدم هذا الشعب من التضحيات والعطاء ما لا يمكن حصره، وروعى فى إختيار القيادات إلى حد بعيد الكفاءة والأمانة والوطنية، بدلا من الولاء الشخصى، فأعطى الناس قوتهم وأبنائهم لتوفير كل ما يلزم لإعادة بناء القوات المسلحة، وإستمرار وزيادة الإنتاج المدنى لمواجهة الأعباء المتزايدة، ولا نقول هذا للتقليل من دور قادة القوات المسلحة، ولكن لوضع العربة فى مكانها الطبيعى خلف الحصان، فالغريب فى الأمر أن كل ما كتب يتحدث عن هؤلاء الرجال بإعتبارهم رجال من خارج الناس، وأن القوات المسلحة هى التى تعطى الحياة للمجتمع المصرى، بدلا من الحديث عنها فى دورها وحجمها كأحد مؤسسات المجتمع ونتاج من نتائج تفاعلاته، فإن صلح المجتمع صلحت، وإن فسد فسدت، ولعل نظرة بسيطة على ما يزيد على المليون مجند مصرى من الضباط والجنود، ظلوا صامدين صابرين مضحين بالمستقبل المهنى وبناء الأسرة، بل وبذلوا الروح مستشهدين فى سبيل الوطن، تجعل السؤال عن دور الشعب المصرى فى رفض الهزيمة أولا، ثم إعادة بناء "ما أتلفه الهوى"، ثم العبور من الهزيمة إلى النصر ، سؤالا غير ذى موضوع. إذا كانت المسألة بهذا الوضوح والبساطة لماذا عومل دور الشعب المصرى المالك الأصلى والوحيد لنصر أكتوبر العظيم بهذا الإنكار، وفى أحسن الحالات الذكر العابر، وغالبا التجاهل؟. الفصل بين القوات المسلحة والشعب.. لماذا؟ إن فصل دور القوات المسلحة المصرية عن الدور الجامع للشعب المصرى، الذى تمثل القوات المسلحة أحد قطاعاته، هو نوع من تغيير العقيدة العسكرية، ومحاولة لتكريس دور مخالف لهذه القوات سعت إليه كثيرا القوى المعادية لشعبنا فى الداخل والخارج، وهو من جانب آخر محاولة بائسة لمحو الذاكرة الجمعية التى إستوعبت دروس أكتوبر، والتى تتلخص فى أن الشعب والشعب فى مجموعه وحده هو القادر على حمل مسؤليات هذه الأمة، وأن إختزال الشعب فى شخص القائد أو فى أحد مؤسساته هو مقدمة طبيعية لعزل وتجميد قدراته، أو لنقل مقدمة طبيعية للهزيمة التى نعيشها على كل المستويات. إذا أردنا أن نحتفل بأكتوبر الشعب، فالنحتفل به بطريقة صحيحة غير برامج التلفاز الدعائية لمؤسسة بعينها بغية عزلها من حيث المفهوم عن دورها الوطنى، كدرع من الشعب يحمى الوطن، وليكن إحتفالنا بتذكر الشروط التى توافرت لهذا الشعب ومؤسسته العسكرية، لكى يحقق نصره العظيم بعد أن تجاوز بإصراره هزيمة إرادة قيادته.. وهى: تحجيم الفساد وحصاره ومحاسبة رموزه. إختيار القيادات على أسس الكفاءة والإنتماء الوطنى وطهارة اليد، لا الولاء لأشخاص. إحترام حق المواطن المصرى فى وطنه وإعلاء كرامته سواء فى الحياة المدنية أو العسكرية. توظيف الموارد وفقا لأولويات المصلحة الوطنية لعموم الشعب، لا توظيفها لرفاهة الحاكم والبطانة. تحقيق القدوة فى التفانى والعطاء من خلال من يختارون للمناصب القيادية. إحتضان الشعب لمؤسسته العسكرية ورعايته لها، لا عزلها عن الناس. تبنى الأهداف والأمال والتطلعات الشعبية والوطنية وتحويلها إلى خطط عمل يومى دؤوب. عندما يأتى إحتفالنا بالعبور على هذه الشاكلة، سيكون عيد إنتصارنا على الهزيمة فى السادس من أكتوبر، عيد البدء لسلسلة من الأعياد، يحتفل فيها شعبنا بإنتصارات عديدة على الفقر والفساد السياسى والإقتصادى، والقهر الإجتماعى والأمنى، والعزلة والتقزيم لدور مصرنا العزيزة فى محيطها الإقليمى والدولى، ومع هذا وبموازاته نصرا حاسما على أعداء الأمة الإستعماريين وذراعهم الصهيونى.. أقول يحدث هذا فقط إذا وضع الشعب فى مكانه من صناعة التاريخ وإحتفالات النصر.