قبل عامين من الآن طرح الرئيس الأميركي جورج بوش نفسه علي الناخبين في الانتخابات الرئاسية بوصفه مدافعاً عن الحرية والديموقراطية في الشرق الأوسط، ولم يكن هناك حديث داخل إدارته يعلو علي "إيجاد" نماذج ديموقراطية في المنطقة كي تصبح قاطرة التحول الديموقراطي في الشرق الأوسط الكبير. وعلي إثر ذلك جرت الانتخابات في البلدين الوحيدين المحتليَن في العالم العربي وهما العراق (في ديسمبر 2005)، وفلسطين (في يناير 2006)، وجري التهليل داخل الولاياتالمتحدة لتجربة الانتخابات في كلا البلدين، بالرغم من ظرفهما الاستثنائي وهو وقوعهما تحت الاحتلاليَن الأميركي والإسرائيلي وقد حذرنا حينها من صعوبة الوقوع في فخ القياس علي كلا التجربتين واعتبارهما نموذجاً للديموقراطية المأمولة في العالم العربي ، بيد أن إدارة بوش لم تر فيهما سوى دليل ناصع على نجاح أسلوب "الديموقراطية الإجبارية" التي تسعي لتطبيقه في المنطقة منذ وقوع أحداث الحادي عشر سبتمبر 2001. الآن تقود الإدارة ذاتها انقلاباًً تاريخيا على كلا التجربتين ، ففي فلسطين مارست ، الولاياتالمتحدة ، ولا تزال ، كافة أشكال الضغوط المعنوية والمادية والدبلوماسية لإسقاط النموذج الديموقراطي في الأراضي الفلسطينية، والانقلاب علي خيارات الشعب الفلسطيني لمجرد أنه أتي بقوة ترفض الانصياع لمطالب الاحتلال الإسرائيلي ولم يعد من تصريحات الإدارة حول النماذج الديموقراطية في المنطقة سوى شعارات فارغة لتبرير التدخل الأميركي الخشن في الشأن الداخلي في العالم العربي . ويبدو الأمر أكثر وضوحاً في الحالة العراقية، فالرئيس بوش بات منفتحاً على جميع الخيارات، بما فيها الانقلاب بالنموذج الديموقراطي الذي روج له كثيراً عشية غزوه للعراق ، وقد وصلت تهديداته مؤخراً لحد الإطاحة برئيس الوزراء العراقي المنتخب "نوري المالكي"، ما لم يقم بحل الميليشيات ووضع حد للعنف الطائفي خلال فترة وجيزة . وبدأت الإدارة الأميركية تشعر بأن نموذجها الثاني للديموقراطية لم يكن سوي حلم "ليلة صيف" عليها الإفاقة منه قبل أن يتحول إلي كابوس يهدد الوجود الأميركي هناك ولم تختلف الإدارة الحالية كثيراً عن غيرها من الإدارات السابقة في الانقلاب علي الديموقراطية، حينما تتعارض مع المصالح الأساسية للولايات المتحدة، بل علي العكس تسعي بكل جهد حالياً للتخلص من ورطتها "الديمقراطية" التي أنجبت حكومة ضعيفة، وذلك من أجل توفير خروج آمن لقواتها من العراق . ولم يكن رفض الرئيس الأميركي للمقترحات التي تقدمت به "لجنة بيكر"، التي شكلها الكونغرس قبل نصف عام لوضع خيارات جدية للتعاطي مع الأزمة الأميركية في العراق، خصوصاً اقتراح تقسيم العراق إلي ثلاث مناطق شيعية وكردية وسنية، سوي دليل قاطع علي التخوف من انعكاسات مثل هذا التقسيم علي مصير الخروج الأميركي من العراق . الرئيس بوش يؤكد أنه انتصر "وسينتصر" في العراق، وهو الذي يربط "نصره" هناك بهزيمة "الإرهابيين" في الشرق الأوسط ، في حين تعجز قواته عن تأمين بغداد وحدها ، أو توفير الأمن لبلدة صغيرة كالديوانية بينما تبدو حربه علي "الإرهاب" في العراق، كما لو كانت حرباً وجودية، أشبه بتلك التي خاضها السوفيت ضد الأفغان طيلة الثمانينات من القرن المنصرم . الآن وبعد مرور ثلاثة أعوام ونصف علي "الدوامة" الأميركية في العراق ، تعود إدارة بوش إلي نقطة الصفر، وقد دارت حول نفسها دورة كاملة، فلا مناص من الجلوس مع سوريا وإيران، إذا ما أرادت الولاياتالمتحدة خروجاً "مشرفاً" وبأقل الخسائر ولا أمل لتقليل النفوذ الإيراني في المنطقة، الذي زاد وطفا، إلا بالتحالف مع "المتشددين" والمارقين ولا طريق للنصر في الحرب علي الإرهاب، إلا بدعم السلطويين والشموليين . الانسحاب الأميركي من العراق لم يعد خياراً أو رفاهية، بل بات أمراً واقعاً يجري البحث عن صيغة "مقنعة" لإنجازه، وما إذا كان انسحاباً تدريجياً يبدأ أواخر العام المقبل ويستمر لعام ونصف لاحقين، أم يتم فورياً وبخطة مجدولة، ويبدو الخيار الأول الأكثر تحملاً من قبل إدارة الرئيس بوش . بيد أن ضمانات هذا الخيار ليست متوفرة كلياً، وفي مقدمتها مدى جاهزية قوات الأمن والجيش العراقية لتولي مهام القوات الأميركية والحلول محلها في التصدي للميليشيات العسكرية وفرق الموت الموالية لبعض الفصائل السياسية في حين لا يبدو الحل الفيدرالي هو الأنجع لتحقيق مثل هذا الانسحاب التدريجي خصوصاً في ظل ضعف الحكومة المحلية وعدم قدرتها علي تحقيق الوفاق الوطني، أهم ضمانات الخروج الأميركي "الآمن" من العراق . السيناتور الديموقراطي المخضرم جوزيف بيدن، صاحب اقتراح تقسيم العراق إلي ثلاثة كيانات، اقترح قبل أيام صيغة "هزلية" لإقناع السنة بجدوى تقسيم العراق، فحواها "النفط مقابل الأمن" ، أي أن يتم إشراك السنة في الحصول علي نسبة من عائدات النفط مقابل وقف عمليات المقاومة ضد القوات الأميركية. هكذا يسعي الأميركيون للهرولة من العراق بأي ثمن، حتي وإن تحول هذا الأخير لساحة حرب بين دويلات صغيرة تتقاتل من أجل الانفصال عن بعضها البعض، وذلك علي نحو ما حدث في تجربة صربيا قبل عقد ونصف من الآن. * كاتب مصري. [email protected]