ننشر خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد القيامة وشم النسيم    منخفضًا 0.5%.. تراجع أسعار الذهب في مصر للأسبوع الثاني    محافظ أسوان يتابع نسب التنفيذ ب53 مشروعا بقرية وادي الصعايدة بإدفو    تطورات مفاوضات اتفاق وقف إطلاق النار في غزة برعاية مصرية.. «تقدم ملحوظ»    وزير الرياضة يُشيد بنتائج اتحاد الهجن بكأس العرب    في أسبوع المرور العربي.. رسالة من الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب    ضبط 22 ألف قرص تامول مخدر تقدر ب2 مليون جنيه في مطروح    عضو ب«النواب»: توعية المواطنين بقانون التصالح خطوة مهمة لسرعة تطبيقه    تسلم 102 ألف طن قمح من المزارعين في المنيا    القوات المسلحة تهنئ الإخوة المسيحيين بعيد القيامة المجيد    الرئيس السيسي يعزي رئيس مجلس السيادة السوداني في وفاة نجله    رئيس الوزراء يتفقد عددًا من المشروعات بمدينة شرم الشيخ.. اليوم    صراع الهبوط في الدوري المصري .. ثنائي جماهير تحت التهديد    موسم عمرو وردة.. 5 أندية.. 5 دول.. 21 مباراة.. 5 أهداف    «رونالدو» يقود الهجوم.. تشكيل النصر المتوقع أمام الوحدة في الدوري السعودي    ضياء السيد: أزمة محمد صلاح وحسام حسن ستنتهي.. وأؤيد استمراره مع ليفربول (خاص)    "تنسيقية شباب الأحزاب" تهنئ الشعب المصري بعيد القيامة المجيد    محافظ الوادي الجديد يهنئ الأقباط بعيد القيامة المجيد    تفاصيل إصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارة شرطة يالدقهلية    تأجيل محاكمة عاملين بتهمة قتل مواطن في الجيزة    كل عضو بسعر بالملايين.. اعترافات تقشعر لها الأبدان للمتهم بذبح طفل شبرا الخيمة    عيد العمال.. مدارس التكنولوجيا التطبيقية طريق الفنيين للعالمية    اليوم.. إعادة فتح البوابة الإلكترونية لتسجيل استمارة الدبلومات الفنية 2024    علي ربيع الأضعف جماهيريًا الجمعة.. تعرف على إيرادات فيلم عالماشي    تقديرًا لدوره الوطني خلال حرب أكتوبر.. «الوطنية للإعلام» تنعى الإعلامي الراحل أحمد أبوالسعود    مي سليم تروج لفيلمها الجديد «بنقدر ظروفك» مع أحمد الفيشاوي    "السياحة" في أسبوع.. مد تحفيز برنامج الطيران العارض.. والاستعداد لموسم الحج    ما حكم تهنئة المسيحيين في عيدهم؟ «الإفتاء» تُجيب    مستشار الرئيس للصحة: مصر في طريقها للقضاء على مسببات الإصابة بسرطان الكبد    شم النسيم.. تعرف على أضرار الإفراط في تناول الفسيخ    الكشف على 2078 حالة في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» ببني سويف    تفاصيل مشروعات الطرق والمرافق بتوسعات مدينتي سفنكس والشروق    وزير الري: نعمل على توفير حياة كريمة للمواطنين بالصعيد    الدكتورة رانيا المشاط وزيرة التعاون الدولي تُناقش آفاق التعاون مع وكالة تمويل الصادرات البريطانية    الدفاع الأوكرانية: تمكنا من صد عشرات الهجمات الروسية معظمها بالقرب من باخموت وأفديفكا    كوريا الجنوبية: ارتفاع عدد الهاربين للبلاد من الشمال لأكثر من 34 ألفا    الصحة السعودية تؤكد عدم تسجيل إصابات جديدة بالتسمم الغذائي    إندونيسيا: 106 زلازل ضربت إقليم "جاوة الغربية" الشهر الماضي    مصرع 14 شخصا إثر وقوع فيضان وانهيار أرضي بجزيرة سولاويسي الإندونيسية    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    ما حكم الإحتفال بشم النسيم والتنزه في هذا اليوم؟.. «الإفتاء» تُجيب    إيرادات فيلم السرب على مدار 3 أيام عرض بالسينما 6 ملايين جنيه ( صور)    إسماعيل يوسف: كهربا أفضل من موديست.. وكولر يحاول استفزازه    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    حملات لرفع الإشغالات وتكثيف صيانة المزروعات بالشروق    «أتوبيسات لنقل الركاب».. إيقاف حركة القطارات ببعض محطات مطروح بشكل مؤقت (تفاصيل)    «الإسكان»: دفع العمل بالطرق والمرافق بالأراضي المضافة حديثاً لمدينتي سفنكس والشروق    عاجل| مصر تكثف أعمال الإسقاط الجوي اليومي للمساعدات الإنسانية والإغاثية على غزة    الصحة توجه نصائح هامة لحماية المواطنين من الممارسات الغذائية الضارة    بايدن يتلقى رسالة من 86 نائبا أمريكيا بشأن غزة.. ماذا جاء فيها؟    محمود بسيوني حكما لمباراة الأهلي والجونة في الدوري    «سببت إزعاج لبعض الناس».. توفيق عكاشة يكشف أسباب ابتعاده عن الإعلام    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    حفل ختام الانشطة بحضور قيادات التعليم ونقابة المعلمين في بني سويف    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنن التغيير فى السيرة النبوية (2)
نشر في الشعب يوم 25 - 05 - 2009

العبيد والفقراء كانوا 9 من أول 52 دخلوا الإسلام.. والأغلبية كانت من التجار والطبقة الوسطى

من المتابعة الدقيقة لكتب السيرة والأحاديث يتبين أن هناك خطأ شائعا فى القول بأن أغلب الذين انتموا إلى الدين الجديد كانوا من العبيد، فأسماء الأوائل الذين دخلوا الإسلام معروفة يصل عدد العبيد بينهم إلى حوالى السدس، وفى هذه المرحلة السرية التى امتدت ثلاث سنوات كانت الدعوة تعتمد على الدعوة الفردية، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يفاتح أحدا فى الإسلام إلا إذا كان تقديره أنه سيستجيب على الأغلب. بل لقد بدأ بالدائرة الضيقة فى محيط عائلته:

السيدة خديجة - على بن أبى طالب - زيد بن حارثه، وصديقه أبى بكر وهو الذى قام بإقناع (أو تجنيد بلغة العصر!): عثمان بن عفان - الزبير بن العوام - عبد الرحمن بن عوف - سعد ابن أبى وقاص - طلحة ابن عبيد الله، مع ملاحظة أن سعد ابن أبى وقاص هو خال رسول الله، وعثمان بن عفان تربطه به قرابة بعيدة نسبيا، فأم عثمان بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والزبير بن العوام ابن عمته صفية وكانت خديجة خالته، وعبد الرحمن بن عوف كان صهرا لعثمان بن عفان وابن عم سعد ابن أبى وقاص. نحن إذن أمام شبكة ضيقة من صلات القرابة والنسب فى هذه المجموعة الأولى مع ملاحظة أنهم لم يكونوا جميعا من بنى هاشم إلا على بن أبى طالب. فأبو بكر من بنى تيم، والزبير لوالده من بنى أسد، وسعد وابن عوف من بنى زهرة، وطلحة من بنى تيم، وعثمان بن عفان من بنى أمية، وخديجة من بنى أسد.

وكل هذه الشخصيات - عدا زيد بن حارثة - من الميسورين، وخديجة كانت أكثر نساء قريش مالا، من أسرتها، ثم بما ورثته عن زوجيها الراحلين قبل زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام كان من أسرتها الميسورة، سعد بن أبى وقاص كان ذا مال ونعمة يرتدى الخز ويلبس فى يده خاتما من ذهب، وعبد الرحمن بن عوف كان منذ نشأته تاجرا وطلحة بن عبيد الله كان تاجرا يذهب فى رحلتى الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام، أما أبو بكر فكان تاجرا، وكان مسئولا عن الديات فى مكة، وهو منصب أشبه بمنصب الوزير فى ذلك الوقت. وعثمان بن عفان كان فى قمة قريش غنى ومكانة وجاها.
هذا فيما يتعلق بأول تسعة دخلوا الإسلام، حيث كان ثمانية منهم من الميسورين والأثرياء. ثم ننتقل بعد ذلك إلى باقى الأسماء التى اتفقت كتب السيرة على أنهم دخلوا الإسلام فى المرحلة السرية للدعوة وحيث يبلغ عددهم الإجمالى 52 شخصية، 9منهم فحسب من العبيد والفقراء، أى السدس بالضبط وفيما يلى جدول بأسمائهم:

الميسورين والمتوسطون اجتماعيا
العبيد والموالى
الفقراء
تابع الميسورين والمتوسطون اجتماعيا
1.خديجة
1.زيد بن حارثة
1.عبد الله بن مسعود
20.صفية بنت عبد المطلب
2.على بن أبى طالب
2.عمار بن ياسر
2.ابن أم مكتوم
21. قدامة بن مظعون
3.أبو بكر الصديق
3.أم عمار
3.أيمن
22.عبد الله بن مظعون
4.عثمان بن عفان
4.أبو عمار

23.أسماء بنت أبى بكر
5.سعد بن أبى وقاص
5.خباب بن الارت

24.عمير بن أبى وقاص
6.عبد الرحمن بن عوف
6.عامر بن فهيرة

25.مسعود بن القارئ
7.الزبير بن العوام


26.سليط بن عمرو
8.طلحة بن عبيد الله


27.عياش بن أبى ربيعة
9.الأرقم بن أبى الأرقم


28.امرأته أسماء بنت سلامه
10.أبو عبيدة الجراح


29.نفيس بن حذامه
11.سعيد بن زيد


30.عامر بن ربيعة
12.فاطمة بنت الخطاب


31.عبد الله بن جحش
13.أبو ذر الغفارى


32.أخوه أبو أحمد
14.صهيب الرومى


33.جعفر بن أبى طالب
15عثمان بن مظعون


34.امرأته أسماء بنت عميس
16.عبيدة بن الحارث


35.حاطب بن الحارث
17.أبو سلمة بن عبد الأسد


36.امرأته فاطمة بنت المجلل
18.رقية بنت رسول الله


37.حطاب بن الحارث
10.زينب بنت رسول الله


38.إمراته فكيهة بنت يسار



39.معمر بن الحارث



40.السائب بن عثمان بن مظعون



41.المطلب ابن أزهر



42.امرأته رملة بنت أبى العوف



43.نعيم بن عبد الله



44.خالد بن سعيد بن العاص



45.امرأته أمينه بنت خلف



46.حاطب بن عمروا



47.أبو حذيفه بن عتبه بن ربيعه



48.واقد بن عبد الله



بنو البكير بن عبد ياليل


49خالد


50.عامر


51.وعاقل


52.وإياس

ملاحظات:

- لا أدرى لماذا يصنف الكتاب صهيب الرومى من العبيد، فهو من أسرة عربية بالعراق، وكان والده عاملا لكسرى على الأيله، وأسرت الروم الطفل صهيب فى إحدى الحروب، وأصبح من الرقيق وبيع حتى وصل إلى عبد الله بن جدعان فى مكة حيث أعتقه قبل الإسلام. وبالتالى عند بزوغ نور الإسلام لم يكن من العبيد وعرف صهيب بصيده الكثير وبإتقانه لكثير من الصناعات المختلفة. وعند الهجرة إلى المدينة طارده بعض المشركين، وحاصروه فى الطريق فقال لهم: إن شئتم دللتكم على مالى وخليتم سبيلى. قالوا: نعم ففعل وقال لهم بصدق مكان ماله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليقا على ذلك الموقف: ربح البيع.. ربح البيع: إذن كان الرجل صاحب مال ومدخرات أيضا..

- وبالنسبة لأبى ذر الغفارى المعلومات عن وضعه الاجتماعى، لقد كان أعرابيا من قبيلة غفار، ولا توجد روايات حول مهنته، ولكن بالتأكيد ليس عبدا لذلك اعتبرت الاثنين: صهيب بشكل قطعى، وأبى ذر بشكل ظنى من متوسطى الحالة الاجتماعية، ولكن إذا وضعتهما مع الفقراء فلن يغير ذلك فى المعادلة كثيرا.

- كذلك وضعت ابن أم مكتوم فى الفقراء رغم أنه ابن خال السيدة خديجة، فالأسر الغنية يكون لها أحيانا فروع فقيرة، ولا أدرى لماذا يصنف دائما بأنه من الفقراء، رغم أنه لا توجد رواية واضحة عن عمله أو مهنته أو وضعه الاجتماعى فى مكة. وعندما عاتب الله رسوله الكريم بخصوصه قال عنه أنه أعمى ولم يشر إلى فقره: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أّن جَاءَهُ الأعْمَى)، ومع ذلك سايرت الشائع فى كتب السيرة رغم أنه كلام مرسل بدون تحديد.

- أما عبد الله بن مسعود فقد كان راع غنم، ولا خلاف حول تواضع وضعه الاجتماعى.

*****

لذلك كان الأستاذ جواد على محقا فى كتابه تاريخ العرب فى الإسلام عندما قال:

إن إلقاء نظرة متأنية على قوائم المسلمين الأول توضح أن أكثرهم كان من التجار ورجال الطبقة الوسطى وممن كانت لهم عشائر تحميهم وتدافع عنهم.

ورغم أن الطبقة الوسطى كما سنوضح الآن هى المعين الأساسى لتخريج قادة الفكر والسياسة والتغيير فى المجتمعات أكثر من شريحة الأثرياء (الطبقة العليا) وأكثر من شريحة المعدمين (الطبقة الدنيا)، إلا أننا نلحظ أن نسبة الأثرياء الذين انخرطوا فى الدعوة الإسلامية الأولى هى نسبة فوق المعتاد، نظرا لأن القضية بدت دينا خالصا، واندفاعا جامحا نحو الله سبحانه وتعالى فى مواجهة وثنية هى أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، وبالتالى فإن الإخلاص لدين الله لم يترك مكانا لحسابات المصالح، وعلى أى حال فهؤلاء الأثرياء كالذين ذكرناهم وأيضا عثمان بن مظعون وأخوته وابنه، وعمير أخو سعد بن أبى وقاص، والطفيل الروسى، وسهلة بنت سهيل بن عمرو ومن أبرز قيادات الشرك فى قريش، وأم حبيبة بنت أبى سفيان زعيم الشرك، وأبو مرثد الذى كان تاجرا فى أموال حمزة بن عبد المطلب فى الشام، وحمزة بن عبد المطلب نفسه، ومصعب بن عمير الذى كانت والدته من أكثر أغنياء مكة ثروة ومالا وما جاءت قافلة إلى مكة إلا وكان لها فيها نصيب. وما خرجت قافلة من قوافل مكة إلى الشام إلا كان لها فيها إبل وأحمال. وكان والده عمير بن هشام بن عبد مناف، من اشرف بيوتات قريش وأعرقها حسبا ونسبا.

وعمر بن الخطاب الذى كان من أبرز زعماء بنى عدى. حتى أنه تولى وظيفة السفارة فى قريش، وهى توازى وزارة الخارجية فى العصر الحديث حيث كان مسئولا عن اتصال قريش بقبائل العرب وأيضا بالدول المجاورة لجزيرة العرب، كل هؤلاء وغيرهم قدوة ونماذج لأثرياء عصرنا، حتى لا يجعلوا أنفسهم أسرى أموالهم ومصالحهم وحساباتهم الدنيوية، على حساب الإخلاص لدين الله.

إذن لقد كانت أغلبية النواة الأولى الساحقة من الطبقة الوسطى والأثرياء وبعض كبار القوم أما تسمية المسلمين بالمستضعفين، فهو لا يجاوز الحقيقة. فالاستضعاف لا يعنى مجرد الفقر، بل يشمل الاضطهاد والعزل والتعذيب والحصار ومحاربة المصالح الاقتصادية، والتعرض لحملات الاستهزاء بالقول والفعل كما نعلم، وكما سيرد فى فصل تال. بل إن المستضعفين تعرضوا لتهديدات بالقتل وقتل بعضهم بالفعل قبل الهجرة وبعد الهجرة فى حوادث فردية (بعيدا عن الغزوات والمعارك الحربية).

بل إن الله سبحانه وتعالى سمى المؤمنين أذلة حتى موقعة بدر: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْر وَأنتُمْ أذِلَّةٌ) (آل عمران: 123).

وقد كان ارتباط معظم المسلمين الأوائل ببيوت عريقة وعشائر قوية مما مثل لهم حماية إلى حد ما من التعذيب أو التصفية الجسدية، كذلك فإنهم كانوا يتمتعون بحق الجوار لهذا الشخص أو ذاك من ذوى العزوة فيمثل ذلك نوعا من الحماية إلى حد ما وإلى زمن ما.

أما العبيد فلم تكن لهم كل هذه الأوضاع لذلك تعرضوا لعمليات تعذيب بشعة وتنكيل رهيب، وهذه المشاهد هى التى أدخلت فى روع البعض أن العبيد كانوا هم الجمهور الأكبر للمسلمين الأوائل. ونحن لا نقلل من شأنهم بل نرفعهم إلى أعلى الدرجات فالسبق فى الإيمان والجهاد، ولا فرق بين أبيض أو أسود، ولا بين سيد وعبد. إلا بالتقوى. وقد كان الصحابة يطلقون على بلال لقب"سيدنا". ولكننا نستهدف توضيح الحقائق التاريخية واستخلاص قوانين وسنن التغيير. وقد خرج من هؤلاء العبيد والموالى والفقراء، قمم شامخة فى الجهاد المسلح والمدنى والدعوة، فكان من قواد الجيوش زيد بن حارثة وابنه أسامة، وكان من قيادات الحرب والسلم عمار بن ياسر، وكان المقداد فارسا لا يشق له غبار فى المعارك، وكان لعبد الله بن مسعود دور مشهود فى الدعوة، وكان رسول الله يحب أن يسمع تلاوته للقرآن وكان محاربا جسورا، وتولى إمارة الكوفة فى عهد عمر بن الخطاب.

أما بن أم مكتوم فقد كان رسول الله يؤمره على المدينة فى معظم الغزوات رغم أنه أعمى، وهذه سابقة مهمة فى شرعية تولى الأعمى مسئوليات سياسية كبيرة.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثق فى علمه ودينه، ليؤم الصلاة ويعلم الناس دينهم، ويتولى إدارة المدينة حتى عودته من الغزوة.

*****

دور الطبقة الوسطى فى المجتمعات:

وهنا - كديدننا فى هذه الدراسة - نتوقف عند سنة من السنن الاجتماعية، فقادة حركات التغيير السياسى والاجتماعى يكونون عادة من متوسطى المال، أو ما نسميه بلغة العصر: الطبقة الوسطى. ونقول: عادة بمعنى أن معظم قادة حركات الإصلاح والتغيير يكونون من هذا المحيط الاجتماعى المتوسط، فهو المعين أو البيئة المناسبة لإنتاجهم. ذلك أن الطبقة العليا المترفة تكون بيئة مناسبة للدعة والراحة وسهولة العيش مما يساعد على التكوين الرخو والناعم، حياة لا يوجد فيها تحد حقيقى.. بل مترفة ناعمة ميسورة تساعد على الخمول والاسترخاء والترف والاستمتاع بشهوات الحياة الدنيا بأيسر السبل وهى بيئة لا تساعد على تنشئة العناصر الصلبة العنيدة، وحيث لا يوجد دافع قوى لسبر أغوار الحياة، والتفكر فى أحوالها، خاصة فى زمن الترهل والانهيار الحضارى، وتستفحل هذه الأعراض عندما تكون الطبقة المترفة تعيش على موارد طفيلية الطابع، وليس على أساس الانغماس فى عملية إنتاجية جادة للحفاظ على الثروة وتنميتها.

وفى المقابل فإن البيئة الاجتماعية التى تتسم بالفقر المدقع، وعدم التمتع بأبسط ضرورات ومقومات الحياة تؤدى إلى هبوط المستوى الثقافى، وانتشار أحاسيس الدونية والانكسار، والشعور بفقدان الأمان، وانكباب النفس على البحث عن أسباب البقاء على قيد الحياة، وهو ما يؤدى إلى انتشار العديد من الأمراض الاجتماعية والشعور بالتهميش، وعدم الندية، هذه البيئة بشكل عام لا تساعد على بناء شخصيات متوازنة، أو مهمومة بالقضايا العامة (نقصد هنا طبقة المعدمين) أما وسط السلم الاجتماعى فإنه يمثل البيئة الملائمة أكثر لظهور أغلب - ولا نقول - كل النخبة القيادية الفعالة فى المجتمع، ومنها خرج معظم قيادات العالم فى شتى المجالات، وليس فى العمل السياسى فحسب. ولأن خير الأمور الوسط ، فإن هذه الطبقة الوسطى تجمع بين مزايا الطبقتين العليا والسفلى وتتجنب عيوبها. فعلى خلاف الطبقة المعدمة، نجد أن أبناء هذا الوسط غير منكبين بصورة كاملة على معركة البقاء على قيد الحياة، فالحد الأدنى من ضرورات الحياة متوفر وهو قدرا من الاستقرار، وبعض الفراغ فى الوقت للتفكير والتأمل، ولديهم الإمكانية للتوغل فى عالم التعليم والثقافة والعلم، شخصيتهم متوازنة بين عدم الانكسار وبين عدم التعالى والغرور والتكبر، طموحهم فى الحياة يكون واردا ومفتوحا، ويسعون لتحسين أوضاعهم المادية والاجتماعية والثقافية وفى المقابل لا يعانون من أمراض الطبقة العليا المترفة، فإن كانت أحوالهم ميسرة إلا أنها بدون العديد من الكماليات ومظاهر الترف. ووضعهم غير مضمون تماما، ، وكما أن لديهم طموح للصعود فإنهم معرضون للهبوط إلى الطبقة السفلى. وهذا يدفعهم للجدية والمثابرة والاجتهاد فى السعى والعمل وهو مناخ لا يولد شخصية مترهلة.

وهكذا يشتركون مع المعدمين فى شطر من التقشف والصلابة ويشتركون مع الأثرياء فى شطر من الثقافة والاستقرار ووجود إمكانية مادية وبالتالى زمنية (وقت فراغ) يساعد على الاندفاع - لمن يريد طبعا - فى عالم الفكر والثقافة والتفكر فى ملكوت السموات والأرض. لذلك سنجد أغلب الفقهاء والمفكرين والعلماء والشعراء والمثقفين عموما من هذا الوسط الاجتماعى، الواقع بين طرفى نقيض: بين الترهل والإنسحاق.

وعندما نقول بيئة اجتماعية معنية لا نقصد التعميم المطلق، وإلا فإن الطبقة الوسطى مليئة بالأفراد الخاملين، وكذلك ليس كل أبناء الطبقة الغنية فاسدين أو مترهلين، وليس كل أبناء الطبقة المعدمة عاجزين عن الدفع بعناصر منهم إلى المستوى القيادى فى المجتمع.

وبالتالى فإن القانون الاجتماعى يقول: إن الغالبية العظمى من قيادات المجتمع تنحدر من الطبقة الوسطى، وهناك أقلية من هذه القيادات تنحدر من الطبقات الغنية والمعدمة.

وقد دعا الفكر الماركسى إلى سيادة الطبقة العاملة الصناعية (البروليتاريا) وعانت الحركة الماركسية فى بدايتها من مسألة تقديس الطبقة العاملة، وضرورة أن تكون هى القائد بشكل مباشر، ولذلك أضطر قائد الثورة الروسية فلاديمير ألتيشى لينين أن يخوض صراعا فكريا حول هذه النقطة، ليؤكد ضرورة قيام النخبة المثقفة من خارج الطبقة العاملة بقيادة الثورة وبناء الدولة الشيوعية ولكن لينين كان يعتقد أن هذه النخبة (المنحدرة أساسا من الطبقة الوسطى أو كما يسميها الأدب الماركسى: (البرجوازية الصغيرة) ستتلاحم وتكون جزءا لا يتجزأ من البروليتاريا. ولكن رأينا فى كل التجارب الشيوعية بلا استثناء، أن قادة هذه الدول كانت من النخبة المثقفة المسيطرة على الحزب الشيوعى وليس من خلال الطبقة العاملة التى كان من المفترض أن تحكم نفسها بنفسها ثم تحكم المجتمع بأسره والحقيقة فإن الطبقة العاملة الصناعية - وفقا لتعريفى الخاص فى هذه الدراسة -ليست هى المقصودة بالطبقة المعدمة، ولكن شريحة كبيرة منها تدخل فى إطار ما نطلق عليه الطبقة الوسطى، وبالتالى فهى بالتأكيد أحد مصادر التكوين القيادى للمجتمع، وهذا يختلف من مجتمع لآخر وفقا للمستوى الثقافى للعمال. وبالتالى فقد شارك أفراد من أصول عمالية فى قيادة التجارب الشيوعية، ولكنهم كفوا فى حقيقة الأمر أن يكونوا عمالا بالمعنى الطبقى الضيق.

نفس القانون يعمل فى الغرب، ورغم وجود طبقات رأسمالية متماسكة ورغم أنها ما تزال متمحورة حول الإنتاج والبحث العلمى، ورغم أنها قادرة على تخريج قيادات إلا إن هذه المجتمعات لا تستغنى عن الطبقة الوسطى كمعين لإبراز قيادات السياسة والمجتمع، ورغم أن بعض قيادات الولايات المتحدة ما تزال تنحدر من عائلات ثرية أبا عن جد، إلا أن نموذج الرؤساء والقيادات من الطبقة الوسطى هو الذى يغلب على تركيبة الطبقة الحاكمة، فأبناء الأثرياء عادة ما يكونوا مترفين ومدللين وغير صالحين لإدارة الشركات الكبرى والوزارات بل حتى موقع الرئاسة الأمريكية ومن الطريف أن آخر نموذج للرئيس المنحدر من عائلة ثرية كان جورج دبليو بوش وكان أفشل وأغبى رئيس أمريكى وفقا لتقدير الأمريكان أنفسهم، وليس من قبيل المصادفة أن يقوم النظام الأمريكى بالاستعانة بشخص مثل باراك أوباما، الذى نشأ نشأة فقيرة، وتم تكوينه فى إطار الطبقة الوسطى. نتحدث هنا عن المادة الخام، فالمادة الخام لابد أن تكون من الطبقة الوسطى، ولكن ليس معنى هذا أن الأفراد الذين يصلون للحكم يعبرون عن أواسط الناس، بل سيظل أوباما وغيره يديرون المجتمع لصالح الطبقات العليا المسيطرة، وفقا لنموذج النظام الأمريكى.

وحتى على مستوى رجال الأعمال والشركات الاحتكارية الكبرى، فإن بيل جيتس أغنى أغنياء العالم الآن، نشأ فى بيئة وسطية، فى الأصل، وتم استيعابه فى النظام الحاكم، ولكن على الأغلب فإن بيل جيتس لن يعتمد على أبنائه الآن فى إدارة أعماله. وهكذا تظل عملية الإحلال والتجديد من خارج طبقة المترفين، لأن أبنائهم ليسوا مؤهلين للعمل الشاق. والمعروف أن معظم ملاك الشركات الكبرى فى الغرب يعتمدون على منظمين وإداريين معينين بالأجر، وليس على الأبناء أو الورثة أو حتى أبناء أقرانهم من المترفين.

وفى المقابل فإن الأمثلة لا تنتهى عن أبناء الأثرياء الذين خرجوا عن مسار حياة الترف، ولكنهم أقلية ضئيلة ونوادر يتحدث بها الركبان.. ذلك أن الإنسان فى الأصل ليس كائنا ماديا لا تشغله سوى احتياجاته الخاصة: من غذاء وسكن ومتع وشهوات، فالإنسان كائن مفكر عاقل يبحث عن الحقيقة، ويبحث عن الله، ويبحث عن العدالة، والحياة الأفضل، وليس من المفترض أن يكون كالحيوان: يأكل ويشرب ويفرز ويتناسل. ولكن الأثرياء معرضون لابتلاء أكبر من غيرهم لأنهم ينشأون محاطين بملذات الحياة الدنيا، وهو أمر ليس من السهل الفكاك منه، لأن المكافأة تكون مباشرة وحالة سريعة، وكل شئ كما يقولون يشترى بالمال!

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ)(آل عمران: 14).

ولا شك أن الإنسان من الطبقة الثرية عندما يتمكن من كسر هذه الأغلال فإنه يقدم نموذجا إنسانيا فذا، يؤكد قوة الإنسان وسموه وما انطوت نفسه على طاقة جبارة مدفونة، لا يحركها إلا إيمان كبير برسالة كبيرة، واقتراب من إدراك لسنة الوجود.

ما الذى حرك عثمان بن عفان كى يعرض مكانته الاجتماعية والمالية لخطر الزوال، إلا إيمان كبير وهدف نبيل استولى على فؤاده، حتى أنه كان يستهين بسياط عمه وهى تنزل على ظهره من أجل أن يعود ثانية إلى حظيرة الآباء والأجداد. ونفس الشئ ينطبق على أبو بكر الصديق التاجر الناجح، وسعد بن أبى وقاص الغنى المدلل، وغيرهم وكانوا ينتمون إلى أشهر القبائل المكية وأعلاها سلطة ومكانة.

ويروى عن حياة المصلح الآسيوى الكبير بوذا أنه هجر حياة القصور الملكية، وذهب يجوس فى الديار، بحثا عن الحقيقة، وداعيا لرفعة الأخلاق (وصايا بوذا شديدة التماثل مع وصايا المسيح). وكان يخرج لنشر أفكاره الإصلاحية فى أنحاء البلاد، بدون مأكل أو ملبس إضافى وبدون نقود، يعيش فى أى مكان، وينام فى أى مكان، حتى وإن كان فى الهواء الطلق أو تحت شجرة ويروى عنه أنه كان يحمل كوزا، ليضع فيه الناس صدقات أو تبرعات له كى يواصل سيرته فى الدعوة إلى الخير. ولكن كم واحد من سكان القصور الملكية يمكن أن يفعل مثل بوذا ؟!

وأيضا الروائى الروسى الأشهر تولستوى أشبه بالأسطورة، حيث ترك قصوره، وكان من كبار الإقطاعيين، ووزع أراضيه الشاسعة على الفلاحين، ونذر حياته لتعليمهم وبناء المدارس لهم. (وهناك روايات قوية أنه أسلم فى نهاية حياته) بل له كتابات صريحة فيها احترام شديد للإسلام).

وفى حركتنا الوطنية المصرية المعاصرة نجد مثلين بارزين: إبراهيم شكرى الذى انسلخ من طبقته ونذر حياته وكل ما يملك للفقراء. وأيضا أحمد نبيل الهلالى فى الحركة الشيوعية وكان والده باشا ومن أواخر رؤساء الوزراء قبل 1952، وكانت عائلته شديدة الثراء.

أما المجرى العام لقادة الحركة الوطنية فقد كان وفقا للقانون الأصلى (أى من منابع الطبقة الوسطى ) أما أشهر مثال فى عالمنا الإسلامى المعاصر، فهو أسامه بن لادن الملياردير ابن الملياردير سليل واحدة من أغنى عائلات المملكة السعودية، وهو بعد أن أنفق ماله فى الجهاد، يعيش الآن مطاردا فى مختلف دروب وكهوف أفغانستان وباكستان، لأنه آمن بقضية الدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد الاستكبار الغربى، وهو يحظى باحترام كبير فى العالم الإسلامى بسبب هذا الانسلاخ من شهوات الدنيا، وإن اختلف كثيرون معه فى بعض طرائقه واجتهادا ته.

ولكن كم يمثل هؤلاء؟ ربما لا يصلون إلى نسبة 1% من طبقتهم.

*****

أما فيما يتعلق بشريحة المعدمين الذين يعانون من الفقر المدقع فهم بالتأكيد لا ينتقلون من وضعهم الصعب هذا إلى الفئة القيادية على مستوى المجتمع مباشرة، ولكن عبر التدرج إلى الطبقة الوسطى أولا، ويمكن أن نشير إلى مثال ذلك بالرئيس البرازيلى سيليفيا دى لولا، الذى كان فى بداية حياته ماسحا للأحذية، فهو لم ينتقل مباشرة من ماسح أحذية إلى رئيس جمهورية! بل انخرط فى صفوف الطبقة العاملة، ثم أصبح من القيادات العمالية النقابية فى مرحلة تالية، ثم انخرط خلال ذلك فى الحياة السياسية، قبل أن يصبح رئيسا منتخبا لأكبر دولة فى أمريكا اللاتينية. إذن بنسبة ضئيلة فإن طبقة المعدمين تمد المجتمع ببعض قادته، وتبقى الغالبية العظمى من قادة المجتمعات فى مجالات السياسة والفكر والثقافة ومختلف شئون الحياة من الطبقة الوسطى، بمعنى متوسطى الحالة الاجتماعية مع درجات مختلفة فى هذا التوسط.

*****

وفى النظام الإسلامى يظل القانون يفعل فعله، فالطبقة الوسطى تظل هى المعين الأساسى للقيادة مع الفارق أنه يتعين عليها أن تلتزم بالمبادئ الإسلامية الداعية إلى التوازن والتكافل الاجتماعى. ومنع احتكار الثروة، وعدم الانحياز لطبقة أو فئة على حساب طبقة أو فئة أخرى، وتحقيق التقارب قدر الإمكان بين مختلف فئات الشعب ومنع الاستقطاب بين الغنى والفقر، وأن يكون الحكام مثالا للزهد والتقشف وعدم استغلال مواقع السلطة للإثراء، أو لمساعدة الأثرياء على حساب الطبقات الشعبية، وأن يضمن النظام الحراك الاجتماعى وتداول المال.

بعد هذه السياحة نعود لنقول إن المرحلة الأولى للدعوة الإسلامية كانت بناء النواة الصلبة العقائدية وفى إطار من الكتمان والسرية، وأن العقيدة عقيدة التوحيد هى التى صهرت هذه المجموعة التى وصلت حوالى الخمسين وأنه غلب عليهم التكوين الشبابى والأصول الاجتماعية المتوسطة. ونحسب أن الحركة الإسلامية فى مصر لديها أكثر من خمسين مستعدين للاستشهاد فى سبيل الله، ولكن الحركة الإسلامية لم تجهر بالدعوة بعد!!

ستقولون كيف؟ هذا ما سنجيب عليه لاحقا بإذن الله. ونحسب أيضا أن هذا هو الوضع فى معظم البلاد العربية الإسلامية ولكن أحدا لم يجهر بالدعوة ضد الحكام الطغاة فى حدود إطلاعى ومتابعتى إلا الجماعة الإسلامية فى باكستان - وحزب العمل فى مصر - والجبهة الإسلامية للإنقاذ المحصورة فى الجزائر برئاسة المجاهد على بلحاج، وفيما عدا ذلك لم أسمع عن تنظيمات أو حركات إسلامية تدعو لإسقاط الحكم الطاغوتى بالوسائل السلمية.

ولكن قبل أن نترك المرحلة السرية لابد من الإشارة لشئ مهم سنبنى عليه فى المراحل التالية، إن السرية كانت تمس إخفاء الأفراد الذين دخلوا الإسلام، وأيضا تستهدف عدم التصادم المبكر مع النظام الطاغوتى، قبل تشكيل النواة الصلبة، ولكن الأفكار فى هذه الدائرة لم تكن بخفية، فنصوص القرآن كانت واضحة قاطعة فى الهدف من الرسالة وحتى فى هذه المرحلة كان الخطاب القرآنى - فى هذا المجتمع الضيق الشفاف - يتسرب إلى مشركى مكة، ولم ينطو هذا الخطاب القرآنى على أية مساومة أو دبلوماسية فى المبادىء: (سرية الدعوة فى هذا العهد وتواصى المسلمين بالحذر والحيطة وتلافى الاصطدام المباشر مع المشركين.. لا يعنى أن المجابهة العقيدية بين الدين الجديد والشرك كانت صامتة، بل إننا نجدها على أعنف ما تكون فى القرآن الكريم نفسه وفى آياته الأولى. ففى سورة العلق حملة عنيفة على أحد زعماء قريش، فى وقت لم يكن النبى قد آمن بدعوته - بعد - سوى نفر يعدون على الأصابع، ومن ثم يتبين لنا الموقف العصيب الذى واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم والجرأة العظيمة التى واجه بها هذا الموقف بأمر ربه، بما كان يوجهه إلى الزعيم القوى الغنى الطاغى: المغيرة بن هشام المخزومى، مما يوحى إليه من آيات فيها الصفات الداميات والشرر المحرق: (كَلا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) ثم بما كان من تثبيت القرآن له على دعوته وعبادته وثباته فيهما فعلا، وتبين لنا العظمة الخلقية والإيمان العميق والجرأة الشديدة فى الحق على كل باغ مهما كان قويا عاتيا. ولقد كان هذا دأبه فى كل المواقف التالية لهذا الموقف العصيب سواء كانت فى الخطوات الأولى أو ما بعدها، وفى هذا سر من أسرار اصطفائه للرسالة العظمى من دون ريب (محمد عزة دروزة - سيرة الرسول: صور مقتبسه من القرآن الكريم،الطبعة الثانية، مطبعة عيسى البابى - القاهرة - 1965).

وهكذا فإن مرحلة السرية لم تكن آمنة تماما، بل بدأ تسرب أخبار هذه الدعوة الجديدة، وفى هذا المجال يمكن الإشارة إلى ثلاث وقائع:

الأولى: أن أحدا من المشركين رأى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يصلى مع السيدة خديجة وعلى بن أبى طالب، فأبلغ القوم بأنه رآهم يصلون بصورة مختلفة عن تلك التى يصلون بها فلم يأبهوا لذلك وقالوا فليصلوا كما يصلوا. لم يروا أى تهديد لهم فى ذلك.

الثانية: عندما بدأ يتزايد عدد المسلمين دعاهم النبى إلى الصلاة فى شعاب الجبال, ويحدثنا ابن هشام كيف أن سعد بن أبى وقاص خرج يوما فى نفر من المسلمين الأوائل إلى شعب من شعاب مكة فإذا بجماعة من المشركين يظهرون عليهم، وهم يصلون فاستنكروا عملهم وعابوا عليهم ما يصنعون وما لبث الطرفان أن دخلا فى شجار عنيف وأضطر سعد أن يجرح رجلا من المشركين فكان أول دم أهرق فى الإسلام.

الثالثة: فى رواية للبلاذرى أنه بينما رجلان من المسلمين يصليان فى إحدى شعاب مكة إذ هجم عليهما رجلان من المشركين، كانا فاحشين، فناقشوهما ورموهما بالحجارة، ساعة، حتى خرجا فانصرفا.

وكانت هاتان الواقعتان سببا لاتخاذ النبى صلى الله عليه وسلم دار الأرقم مقرا سريا للصلاة والتفقه فى الدين.

ولكن يفهم أيضا من واقعة سعد بن أبى وقاص أن المؤمن قد يضطر لاستخدام يده للدفاع عن نفسه ودينه، وهى أول درجة من درجات استخدام العنف، وستزداد هذه الممارسة نسبيا فى مرحلة لاحقة كما سنأتى إليه. وما يهمنا الآن أن نؤكد أن مرحلة السرية وتكوين النواة الأولى، لا تعنى تخفيف الخطاب الديني، ولا تعنى التماوت والمسكنة البائسة ولا تعنى تغيير المواقف والأفكار إذا تسربت للآخرين. فالنواة الأولى لا تربى على المسكنة والجبن وروح المساومة على المبادىء، ولا يغرس فيها مبدأ إخفاء الأفكار والمعتقدات. ولا إرضاء المعتدين. فهى عملية إخفاء إيمان الأفراد مؤقتا دون أن يعنى هذا ممارسة أى نوع من ممارسات الوثنية للتمويه، فالهدف الرئيسى هو تأجيل إعلان الحرب على مجتمع الشرك، حتى يتم عجم عود النواة الأولى، خاصة وأن القرآن الكريم ينزل منجما، وكل يوم يوجد جديد وتوجد إضافات، فلابد من استكمال المعرفة بهذا الدين ولابد من نزول الحد الأدنى منه لتبشير الآخرين، وهنا لابد أن تلاحظ أن أكثر من نصف القرآن الكريم مكى أى نزل فى مكة منذ بداية الدعوة حتى الهجرة للمدينة (13سنة).

إذن حتى فى المرحلة السرية وتكوين النواة فإن الإعداد يكون للمواجهة المقبلة من كل بد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.