التعليم مبادرة "النيل الدولية" تلبي احتياجات الطلاب بالمراحل التعليمية المختلفة    من هو إبراهيم العرجاني؟    «سيدا»: مصر ستصبح رائدة في إنتاج الهيدروجين الأخضر بسبب موقعها الجغرافي    مسئول بغرفة الجيزة التجارية: الدواجن المجمدة أرخص سعرا وآمنة صحيا أكثر من الحية    وزير الإسكان: قطاع التخطيط يُعد حجر الزاوية لإقامة المشروعات وتحديد برامج التنمية بالمدن الجديدة    «سلامة الغذاء»: تنفيذ 17 مأمورية رقابية على فروع منشآت السلاسل التجارية    النائب مصطفى سالم: مصر تستعيد ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    تطبيق قانون التصالح في مخالفات البناء من الثلاثاء.. وتلقي الطلبات حتى 6 أشهر    قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 25 فلسطينيا بينهم فتاة وأطفال من الضفة الغربية    قاضٍ مصرى: نتنياهو يستخدم الدين لمحو فلسطين ويدمر 215 مسجدًا وكنيسة    الجيش الأوكراني يعلن مقتل وإصابة أكثر من 474 ألف جندي روسي منذ بداية الحرب    بعد احتفال علي معلول بارتدائها مع الأهلي.. ما شارة القيادة؟    وزارة الرياضة تكلف لجنة للتفتيش على نادي الطيران    صباح الكورة.. غياب صخرة البايرن عن موقعة الريال وميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع انتر ميامي    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    «الأرصاد» تحذر من رياح مثيرة للرمال والأتربة على القاهرة وبعض المحافظات    رفع حالة الطوارئ بمستشفيات بنها الجامعية لاستقبال أعياد الربيع    مواصفات امتحانات الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني.. اعرف أهم الأسئلة    «جوزها اتفق مع صديقه لاغتصابها».. تأجيل نظر طعون قاتلي شهيدة الشرف بالدقهلية على حكم إعدامهم    بعد انفصال شقيقه عن هنا الزاهد.. كريم فهمي: «أنا وزوجتي مش السبب»    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    منسق جناح الأزهر بمعرض أبوظبي: نشارك بإصدارات تكافح التطرف والعنصرية وتعزز حب الوطن    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    رئيس هيئة الرعاية الصحية يبحث تعزيز التعاون مع ممثل «يونيسف في مصر» لتدريب الكوادر    صحة المنيا: انتشار الفرق الطبية والعيادات المتنقلة أثناء الاحتفال بعيد القيامة وشم النسيم    «لو مبتاكلش الفسيخ والرنجة».. 5 أطعمة بديلة يمكن تناولها في شم النسيم    «الداخلية» تنظم حملة للتبرع بالدم في جنوب سيناء    همت سلامة: الرئيس السيسي لا يفرق بين مسلم ومسيحي ويتحدث دائماً عن كوننا مصريين    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الإثنين 6-5-2024، السرطان والأسد والعذراء    في يومه العالمي، الضحك يساعد على تخفيف التوتر النفسي (فيديو)    حسام عاشور: رفضت الانضمام للزمالك.. ورمضان صبحي "نفسه يرجع" الأهلي    العثور على جثة عامل ملقاة في مصرف مياه بالقناطر الخيرية.. أمن القليوبية يكشف التفاصيل    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يضغط لاستبعاد قطاع الزراعة من النزاعات التجارية مع الصين    أخبار الأهلي: شوبير يكشف عن تحديد أول الراحلين عن الأهلي في الصيف    وزير المالية: 3.5 مليار جنيه لدعم الكهرباء وشركات المياه و657 مليون ل«المزارعين»    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    وفاة كهربائي صعقه التيار بسوهاج    رئيس الوزراء الياباني: ليس هناك خطط لحل البرلمان    قصف مدفعي إسرائيلي على الحدود اللبنانية    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    «شوبير» يكشف حقيقة رفض الشناوي المشاركة مع الأهلي    يصل إلى 50 شهاباً في السماء.. «الجمعية الفلكية» تعلن موعد ذروة «إيتا الدلويات 2024» (تفاصيل)    يعود لعصر الفراعنة.. خبير آثار: «شم النسيم» أقدم عيد شعبي في مصر    سرب الوطنية والكرامة    رئيس جامعة بنها: تلقينا 3149 شكوى وفحص 99.43% منها    وزير التنمية المحلية يهنئ البابا تواضروس الثاني بعيد القيامة المجيد    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأحد في الأسواق (موقع رسمي)    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    أثناء حضوره القداس بالكاتدرائية المرقسية.. يمامة يهنئ البابا تواضروس بعيد القيامة المجيد    إنقاذ العالقين فوق أسطح المباني في البرازيل بسبب الفيضانات|فيديو    كريم فهمي: مكنتش متخيل أن أمي ممكن تتزوج مرة تانية    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قتل أمريكا فهما
أمريكا فكرة إسرائيلية‏(2‏‏2)‏ منير العكش‏:‏ أمريكا والنازية أختان في الرضاعة
نشر في الأهرام المسائي يوم 17 - 07 - 2010

امريكا سيدة العالم وعدوته الاولى ايضا تمثل حالة استثنائية فى التاريخ هناك من يراها امبراطورية ولكنها ليست مثل سابقتها : روما وبريطانيا العظمى ومن يرى فيها الشيطان الاكبر اذا استعرنا التعبير الايرانى والغلطة الكبرى فى التاريخ الانسانى اذا صدقنا سيجموند فرويد اوهى طليعة الانحطاط العالى اذا استعرنا تعبير المفكر الفرنسى المعروف روجيه جارودى
وهي أيضا النازية الديمقراطية إن صح ذلك التعبير الذي أشار إليه المفكر الماركسي المعروف جورج لوكاش الذي ذهب إلي أن الولايات المتحدة نجحت بالديمقراطية في تحقيق الأحلام التي فشل في تحقيقها أدولف هتلر‏.‏ لكن أمريكا أيضا هي حلم الجميع‏,‏ والطوابير التي تمتد أمام سفارات الولايات المتحدة في كل بلدان العالم تكشف أن أمريكا لاتزال تمثل الفردوس الأرضي صحيح ان هذا الأمر تغير بشكل مابعد‏11‏ سبتمبر وماجره من قوانين أدت إلي تقليص تلك الهجرة إلا أن أمريكا لاتزال تستقبل‏900‏ ألف طالب سنويا من أنحاء العالم يدرسون في جامعاتها ويرسمون ملامح مستقبلهم علي إيقاع الحضارة الأمريكية التي كشف منير العكش في الجزء الأول من حواره أنها قامت علي أنقاض حضارة الأمريكيين الأصليين الذين اغتالت‏400‏ ثقافة و‏112‏ مليونا من البشر‏.‏
في الجزء الثاني نواصل الحوار حول تاريخ الإبادة الجماعية الأمريكية للهنود الحمر وصدي ذلك علي التاريخ الأمريكي كله‏.‏
‏*‏ ذكرت قصة الهندي الأحمر سكوانتو الذي أنقذ الحجاج الإنجليز في بداية غزوهم لأمريكا‏.‏ هل قام الهندي الأحمر بذلك إيمانا بالسلام أم لأنه صار مسيحيا عندما تم اختطافه إلي انجلترا‏..‏ وهل كرمه الأمريكيون باعتباره مسيحيا؟
معظم الثقافات الهندية هي ثقافات مسالمة لم يعرف تاريخها قبل الغزو وفي القرن الاول للغزو حروبا تذكر‏,‏ وهي ايضا ثقافات ايثار لأنها أساسا لاتؤمن بالملكية الفردية ولابنظام الربح‏.‏ حروبهم كانت اشكالا من الرقص والرياضة واستعراض الشجاعات والفروسيات‏.‏ وهناك شهادات انجليزية تقول انهم قد يتحاربون سبع سنين دون ان يسقط بينهم سبعة قتلي‏,‏ وانهم حين يجرح الواحد منه يهرع الطرفان الي نجدته واسعافه‏.‏ هناك اجماع علي ان الهنود ظلوا لفترة طويلة لايعرفون لماذا يلجأ المستوطنون الانجليز الي العنف والتدمير والنهب‏,‏ كما ظل المستوطنون لزمن طويل عاجزين عن فهم سخاء الهنود وطبيعتهم المسالمة ويسخرون من مفهوم الحرب عندهم لأنه يفتقر الي عنصرين مهمين‏:‏ القتل‏,‏ والتوسع في الارض في هذا الاطار يجب وضع قصة سكوانتو لقد وصل المستوطنون الانجليز الحجاج الي بليموث في قسوة شتاء عام‏1920‏ وبدأ الجوع والبرد يقتلهم واحدا بعد الآخر‏.‏ ولما وصل سكوانتو اليهم بالمساعدة والطعام والكساء والخبرة الزراعية كانوا قد فقدوا‏42‏ مستوطنا‏.‏ وموقف سكوانتو من الحجاج نابع أولا واخيرا من هذه الثقافة المسالمة التي لاتؤمن بالملكية بالفردية‏.‏ لقد كان من الطبيعي لسكوانتو ومجمعه الهندي مشاركة القادمين الجدد في خيرات الأرض بينما كان المستوطن الانجليزي لايفكر الا بالسرقة والنهب وما يقتضي ذلك من عنف‏.‏ وربما لهذا السبب لم يفكر الانجليز بتبشير سكوانتو ولابهم التبشير اصلا واقتصروا علي الاستعانة به في تجارتهم مع الهنود وفي نصب الكمائن لأهله الهنود بل وفي الاتجار بحريته عندما باعوه بعشرين جنيها عبدا في مالقا وهناك ادخله الاسبان في المسيحية‏.‏
لم يبدأ المستوطنون الانجليز بتبشير الهنود أو العبيد الا بعد ان وافقت كنيسة انجلترا علي ان تحول العبد الي المسيحية لن يغير من وضعه كعبد وانه لن يتمتع بأي امتياز من امتيازات المسيحي وأهمها طبعا تحريم استعباد المسيحيين لبعضهم‏.‏
التلمود السياسي
‏*‏ أرجعت الإبادة الجماعية إلي سيطرة أفكار التلمود‏,‏ وقلت ان الغزاة دخلوا أمريكا ومعهم البندقية والتوراة‏.‏ لماذا لم يدخل معهم الإنجيل؟ ولماذا سيطرت المقولات الإسرائيلية علي خطاب الغزاة المؤسسين؟
لقد نبهتني بسؤالك إلي خطأ في التقدير بالغ الخطورة‏.‏
قد تتفاجأ إذا قلت لك أنني لم أقرأ التلمود في حياتي إنه قابع علي الرف منذ أكثر من ثلاثين سنة ولم أشعر لحظة واحدة برغبة في تقليب صفحاته‏.‏
لبعض الكتب ظل ثقيل‏,‏ تشتريها بالغلط ويقبضك صدرك كلما اقتربت منها والتلمود بالنسبة لي واحد من هذه الكتب كل قراءاتي العرضية عنه أوحت لي بأنه هو النواة الصلبة لليهودية‏.‏ وهذا هو السبب الذي جعلني اتخذه رمزا أو
استخدمه كاستعارة في عنوان كتابي تلمود العم سام‏.‏ لكن الأمر اقتصر علي العنوان‏,‏ وعلي الغلاف فقط‏,‏ فليس للتلمود‏,‏ لفظا أو معني‏,‏ أي ذكر في أي صفحة من صفحات الكتاب بل ولا حتي في كل ما كتبته في حياتي‏,‏ لا لأنني لا أريد أن أعرف بما لا أعرف وحسب‏,‏ وإنما أولا وأخيرا لأن بحثي ليس دينيا أو لا هوتيا‏.‏ إن اهتمامي بالصهيونية غير اليهودية هو الذي كشف لي شيئا فشيئا عن المعني الاسرائيلي لأمريكا‏,‏ وعن الأساطير العبرية التي تأسست عليها‏.‏
‏**:‏ وماذا عن الشق الثاني من السؤال‏:‏ سيطرة المقولات الاسرائيلية علي خطاب الغزاة المؤسسين؟
الأمر هنا لا يقتصر علي مجرد السيطرة‏,‏ بل يتعدي ذلك الي أن الغزاة الانجليز أعادوا انتاج الاسطورة الاسرائيلية كما نسجتها مخيلة العبرانيين الاوائل‏.‏ وقد كانت هذه الاسطورة ولا تزال تسكن فكرة أمريكا نفسها‏:‏ فكرة احتلال أرض الغير واقتلاع أهلها منها واستبدال ثقافتهم وتاريخهم بثقافة الغازي وتاريخه‏,‏ وكانت هي الترجمة الانجليزية أو لنقل الفهم الانجليزي التطبيقي لفكرة اسرائيل التاريخية‏.‏ وبالطبع لا يمكن للباحث التعامل مع فكرة اسرائيل التاريخية كظاهرة دينية لأنها بكل بساطة تفتقر إلي جوهر وأهم مقومات الظاهرة الدينية‏,‏ أعني الأخلاق‏.‏ فكرة اسرائيل التاريخية كما تعرضها كل الكلاسيكيات العبرانية هي مشروع استعماري إبادي اتخذ طابع القداسة فأسقط بذلك كل لا أخلاقياته علي السماء ونسب جرائمه الي إرادة الله‏.‏ بهذا المعني استعير هذا المشروع من قبل غزاة أمريكا الذين أعدوا بعث أسطورته انجلوسكسونيا‏,‏ فتقمصوا أبطالها ووقائعها‏,‏ وصنعوا منها فكرة أمريكا‏.‏ هكذا صادروا لأنفسهم فكرة الاختيار الإلهي وعبادة الذات وحق تقرير حياة الآخر ورزقة وحريته‏,‏ وهكذا سموا أنفسهم بكل الأسماء التي عرف بها اليهود تاريخيا‏,‏ كما سموا العالم الجديد اسرائيل الجديدة وأرض كنعان‏..‏ الخ‏,‏ وكانوا يقتلون الهنود مرتاحي الضمير باعتبار أنهم يقتلون الكنعانيين الذين أحلت اساطير العبرية أرضهم ودمهم لل اسرائيليين‏.‏
‏*‏ تقول بنظرية الاختيار الإلهي كسبب رئيسي وراء نشوء فكرة أمريكا وارتقائها‏,‏ ألا تري أن فكرة شعب الله المختار فكرة مركزية في الفكر الاصولي العالمي إسلاميا كان أو مسيحيا أو يهوديا‏.‏ وتقول أيضا بامتداد هذه الفكرة المحورية في الدور الرسالي للولايات المتحدة‏..‏ السؤال هو‏:‏ لماذا ظل للدين كل هذه المركزية في الخطاب السياسي الامريكي؟
‏:‏ خطر فكرة الاختيار الإلهي كما روتها الكلاسيكيات العبرانية أنها ليست ذات طبيعة أو هدف أو مسوغ أخلاقي‏.‏ علي العكس إن الاسطورة المحورية التي نسجت منها هذه الفكرة تمجد الشر والكذب والخداع والاستعباد وسفك الدم‏,‏ فهي وفقا للرواية العبرانية قائمة علي مكيدة ذات مستويات أخلاقية متعددة‏.‏ علي السطح نجد إن الاسطورة بكل الاشكال التي حيكت بها حلقة من قصص بدائية يعود بعضها الي عصر الصيد وبعضها إلي عصر الرعي‏.‏ ولعل أهمها تلك المكيدة الساذجة التي تتحدث عن صعلوك أملس ليس علي جسده شعر لبس جلد عنزة ليمكر بأبيه الأعمي ويسرق منه البركة التي كان من المفترض أن تمنح لأخيه الأشعر‏.‏
وقد ترتب علي نجاح هذه المكيدة بالأب الأعمي إن هذا المخادع نال صفة مقدسة وأن نسله صار شعبا مختارا الي يوم القيامة‏.‏ علي المستوي الأخلاقي الثاني تفترض الأسطورة إن هذا الجد الأفاق الذي انحدر من صلبه الشعب المختار خدع الله بنفس الطريقة التي خدع بها أباه الأعمي‏.‏ المستوي الثالث والأخطر هو إن الاسطورة التي افترضت الاختيار الإلهي لهذا الجد وذريته الي يوم القيامة أنزلت الاحتقار الإلهي بكل ما عداهم من بشر وفرضت عليهم العبودية القدرية للشعب المختار الي يوم القيامة‏.‏
علي المستوي العملي أضرت هذه الأسطورة الرعناء بإنسانيتنا كلها أكثر مما أضرت بها كل الزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات والأوبئة بمختلف أنواعها‏,‏ فهي التي قدمت معظم المبررات الأخلاقية‏mores‏ لحركة الاستعمار الأوروبي في آسيا وإفريقيا ولكل حروب الإبادة الجماعية في العالم الجديد واستراليا ونيوزيلندا‏,‏ ولكل تجارة العبيد‏,‏ ولكل جرائم النازية التي كان الشعب المختار واحدا من ضحاياها‏.‏
‏*‏ كيف تطور المفهوم في الولايات المتحدة؟
بالطبع فقد اتسع هذا المفهوم اليوم في الولايات المتحدة‏,‏ وعمت بركاته كل أبيض و متأبيض وكل جائع الي ذهب الآخرين‏.‏ ولقد استعرضت في أكثر من موضع كيف تطور مفهوم الاختيار الامريكي وسلخ جلده من عصر إلي عصر واتخذ أسماء مختلفة لمعني واحد‏,‏ كيف انتقل المبرر الديني بعد صعود نجم الدارونية الي مبرر عرقي‏,‏ وكيف اتخذ مع التوسع الي الغرب اسم حق الحرب والقدر المتجلي‏,‏ وكيف صار حضارة في مواجهة الوحشية‏,‏ و عرقا أبيض في مواجهة عرق أسود أو ملون‏,‏ و ديمقراطية في مواجهة استبداد الي آخر هذه الشعارات التي لم تطفيء حربا الا لتشعل حربا أخري‏.‏
كل تاريخ أمريكا‏,‏ كما يقول هربرت جانس في كتابه الرائع الحرب علي الفقراء‏,‏ هو حرب علي المستضعفين باسم جنون الاستعلاء‏.‏ وهي حرب قد تتفق مع هوي بعض المتعصبين الدينيين‏,‏ وقد يشنها مرضي قياميون مثل بوش‏,‏ لكنها ليست حروبا دينية بالمعني الكلاسيكي‏.‏ الدين في الولايات المتحدة صناعة عملاقة ومعقدة جدا قد تكون من فروعها صناعة السلاح والنفط والهمبرجر والسينما‏,‏ وتجارة المخدرات وموسيقا البوب وحفلات مادونا‏.‏
وعالمنا اليوم يشهد ظهور دين توحيدي رابع‏,‏ رسوله مسيلمة الامريكي‏,‏ وكعبته الوول ستريت‏,‏ وكتابه المقدس ثروة الأمم‏,‏ وصوامع عبادته الشركات العملاقة‏,‏ ومعبوده وثن هائل اسمه الدولار‏.‏
‏*‏ هل هذا يعني انك لا تؤمن بالتعددية الامريكية؟
دعني اخبرك هذا‏.‏ لعل أقسي تناقضات وعذابات النفس التي واجهتها في حياتي كانت أثناء رحلتي من بيتي في واشنطن الي مركز الهجرة في بالتيمور لتأدية قسم الجنسية الامريكية‏.‏ فبرغم سعادتي بانتهاء أزمتي المزمنة مع جواز السفر وغير ذلك من أوراق رسمية استعبدنا بها النظام العربي كنت أمشي مغموما مهموما وأشعر بالخجل مثل تلميذ يبول في ثيابه علي مرأي من كل تلاميذ المدرسة‏.‏ ما كنت أظن في حياتي أن احمل جنسية لا تكون مرآة لثقافتي ولغتي وتراثي وقيمي الروحية‏:‏ جنسية لايشاركني فيها كل عربي‏.‏ وكنت طوال فترة هجرتي التي قاربت علي الأربعين عاما أحب أن أعود ذات يوم لأموت في بلدي‏.‏
في مركز الهجرة كانت الوجوه كلها سعيدة إلا وجهي‏.‏ وكان القسم وحمل العلم وبعض الطقوس والإجراءات الأخري مهينة ومعجرفة فعلا‏.‏ وبالنسبة لي كانت إعلانا فاضحا عن الاستسلام والهزيمة‏.‏ كان ذلك في اليوم التالي لمظاهرة ضد حرب الخليج الأولي‏.‏ وهأنا الذي كنت أتظاهر يوم أمس أمام البيت الأبيض و أعنتر بالهتافات والشعارات أمسك اليوم العلم الأمريكي بيدي ولا أختلف عن أي منافق أو أي مريض بالفصام‏.‏ ما أنقذني من كل هذا الغم هو تأمل عابر لهذه الوجوه التي تقف معي‏,‏ فهي في معظمها من أصول غير اوروبية‏.‏ فيها الهندي والأفريقي والآسيوي واللاتيني‏,‏ وليس فيها وجه يدل علي انتمائه الي النواة الصلبة للمؤسسة الحاكمة الأمريكية‏.‏ وبالطبع فقد ذكروني بتنوعات الوجوه التي كانت معي يوم الأمس في المظاهرة والتي تمثل التعددية الأمريكية أفضل تمثيل‏.‏ وهي تعددية تكاد تعكس كل مافي الأرض من أعراق ووطنيات وأديان ومذاهب وايديولوجيات وطبقات لايمسكها ببعضها إلا صمغ الدولار‏.‏ وهنا لابد من الإشارة الي أن أي هزة يفقد معها الدولار غراءه ستجعل الولايات المتحدة مثل القنبلة العنقودية التي ستنفجر وتتشظي الي ما لانهاية‏.‏
أن في امريكا مقابل الزنابير‏WASPS‏ البيض الانجلوسكسون البروتستانت وعددهم في حدود‏157‏ مليون نسمة تقريبا‏,‏ وهم النواة الصلبة للمؤسسة الحاكمة هناك ما لايقل عن‏125‏ مليونا من اللاتين الاسبانيول والبورتوريكيين‏,‏ والأفارقة‏,‏ والآسيويين‏,‏ والايرلنديين‏,‏ وسكان امريكا الأصليين‏,‏ والعرب‏..‏ والمسلمين وغير ذلك من الجماعات المتميزة عرقيا ودينيا عن الزنابير‏.‏ وهؤلاء في النهاية مثلنا نحن‏,‏ أي من الجماعات المهمشة‏,‏ وبالتالي فإن معظمهم يشاطروننا همومنا بالنسبة للحقوق المدنية وهمومنا بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية‏,‏ وهم بالتالي يشكلون حلفاء طبيعيين لنا ولقضايانا‏.‏
في هذه التعددية وجدت الخدعة الضرورية لكشف الغم عن نفسي في مركز الهجرة‏,‏ فطالما أن هذا المجتمع الأمريكي متعدد عرقيا وطبقيا وايديولوجيا وسياسيا ودينيا‏,‏ فإن لي إذن ملء الحرية في أن اختار انتمائي الي أمريكا التي أريد‏.‏ وطالما أنني أقسم علي طاعة الدستور وليس علي طاعة المؤسسة الحاكمة فإن مشكلتي ومشكلتنا نحن العرب ليست مع الدستور الامريكي بل مع المؤسسة الحاكمة وأخلاقها السوقية وثقافتها وجنونها الامبراطوري‏.‏ وبهذا التحليل وجدت ما أخدع به نفسي وأنا أتقدم الي مقصلة القسم‏.‏
أمريكا والإسلام
‏*‏ماخرجت به من كتابك أن امريكا هي قلعة الأصولية العالمية‏.‏ كيف يمكن لأصولية بروتستانتية يهودية أن تتعايش مع أصوليات مسيحية وإسلامية علي الأرض الأمريكية‏,‏ وخاصة في ظل انتشار الإسلام‏,‏ ووصول عدد المسلمين الي‏7‏ ملايين نسمة؟
ليس هناك إحصاء دقيق لعدد المسلمين في الولايات المتحدة‏.‏ ومهما كان الرقم فإن تعامل المؤسسة الأمريكية مع الإسلام لايختلف عن تعاملها مع أية أيديولوجية تهددها وتقف في وجه مصالحها ومطامحها‏.‏ فلقد شيطنت السوفييت‏,‏ وشيطنت الكوريين والفيتناميين واليابانيين‏,‏ وشيطنت الفيلبينيين‏,‏ وشيطنت الهنود الحمر‏,‏ وشيطنت البابا‏.‏ وشيطنت الفلسطينيين بالدرجة التي تشيطن بها اليوم كل من يهدد مصالحها ومطامحها‏.‏ هذه الشيطنة التطورية بالمعني الداروني هي الحاضنة الخلاقة لما كان يسمي في بداية غزو الشمال الأمريكي الامريكي ب حق الحرب‏,‏ وهي المولد الذي انطلقت منه شراره ماسمي اليوم ب الحرب الاستباقية‏,‏ وهي التي نسج منها الزنابير أخلاق الإبادات الجماعية داخل القارة وخارجها‏.‏
منذ موجة الغزو الأولي حتي هذه اللحظة لم يعرف الغزاة ولا المؤسسة الحاكمة الأمريكية التي ورثت ثقافتهم وأهدافهم وجنونهم الاستعماري لحظة سلام واحدة‏,‏ لا مع سكانها ولا مع العالم الخارجي‏.‏ فهي منذ‏1607‏ تاريخ إنشاء أول مستعمرة انجليزية دائمة في شمال امريكا لم تطفيء حربا قبل أن تشعل بنارها حربا غيرها‏.‏ ولعل افضل مايعبر عن هذا السعار الحربي عنوان كتاب كريس هدجز الحرب هي القوة التي تعطينا معني غواية الحرب ومغرياتها‏,‏ كما يري المؤلف‏,‏ هي التي تمنح أمريكا ما تطمح اليه وتتمناه مهما كانت الضحايا‏,‏ وهي التي ترسم للامريكيين غايتهم ومعناهم ومبرر حياتهم‏.‏ ومن نافلة القول أن أمريكا في كل حرب من حروبها الداخلية والخارجية كانت بحاجة الي شيطان‏,‏ به تجرد الضحية من انسانيتها وتجعل منها مشروعا مقدسا للإقصاء الوجودي‏.‏ لقد شيطنت ضحاياها بالطريقة التي شيطنت بها النازية ضحاياها وبالطريقة التي صنعت الصهيونية من الفلسطينيين فريسة طقسية‏..‏ إنه منطق واحد هو منطق سلب أنسانية الضحية المشتهاة ونبذها من العالم الطبيعي حتي يصبح افتراسها عملا انسانيا‏.‏
وأنا لم أتحدث عن الأصوليات الامريكية إلا بهذا المعني الانساني‏,‏ فأنا لا أؤمن أبدا بأن مايجري اليوم هو صراع أديان أو حضارات أو غير ذلك من هذه التعميمات التي لن تؤدي إلا الي صرف أنظارنا عن مصدر الخطر الحقيقي الذي يهدد بقاءنا جسديا وثقافيا وأعني به هؤلاء الزنانير علي طرفي المحيط الأطلسي وقففهم‏.‏ لا حاجة للقول مثلا أن مواقف كثيرة من الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية أو من احتلال العراق أسوأ من مواقف معظم الدول الأوروبية بل ومن مواقف بعض اليهود‏.‏
‏*‏ماذا يعني الاسلام عند السياسي الامريكي؟
دعني أقول لك ما يعني السياسي الأمريكي من الإسلام‏.‏ علي المستوي اللاهوتي‏,‏ لايميز رجل السياسة الأمريكي بين الإسلام وأي دين آخر‏.‏ وعلي المستوي السياسي لايميز بينه وبين أي تيار سياسي آخر‏.‏ لا مانع لدي هذا السياسي من ان تصوم وتصلي وتربي لحيتك وتحف شاربيك وتبني المساجد وتوزع المصاحف حتي داخل البنتاجون‏.‏ بل إن كثيرا من رجال الدولة بما في ذلك رئيس الولايات المتحدة لايتورع عن توزيع شهادات حسن السلوك علي الإسلام وحضارته والدفاع عن قضايا الإسلام في الماو ماو وحيثما يستطيع أن يستثمر حمية الإسلام لأهدافه ومصالحه‏.‏ أما الحركات الإسلامية المقاومة فإنه يتصدي لها لأنها أولا وأخيرا حركة نضال تقاوم أطماعه‏,‏ يتصدي لها كما يتصدي لأي حركة نضال مهما كان دين هذه الحركة أو مذهبها السياسي‏.‏
ضد الحرية
‏*‏ كيف تتعامل كأكاديمي عربي بعد أحداث‏11‏ سبتمبر مع القوانين المقيدة للحريات والخصوصية التي صدرت بعد‏11‏ سبتمبر؟
القوانين المقيدة لحريات العرب والمسلمين في الولايات المتحدة سن معظمها قبل‏11‏ سبتمبر‏,‏ بل إن قرار الحرب علي العراق اتخذ وبشهادات كثيرة وموثوقة قبل هذا التاريخ‏.‏ وقد شاركت مع اكثر من ثمانين ناشطا وأكاديميا من العرب الأمريكيين في تأسيس المجلس الوطني للعرب الأمريكيين الذي أصبح تأسيسه ضرورة بعد أن فقدت معظم منظماتنا العربية للأسف مبرر وجودها واصبح بعضها سلاحا بيد المؤسسة الحاكمة‏,‏ وبعضها الآخر من صنع المؤسسة الحاكمة نفسها‏,‏ تأسيس هذه المنظمة صار حاجة ملحة بعد الخروقات الفاضحة لحقوقنا المدنية وبعد الحملات العنصرية التي واجهها عدد من الأكاديميين العرب في الجامعات‏,‏ وبعد أن صارت كل دراسات ما يسمي ب الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية مهددة بالصهينة أو بالإخراس‏.‏ قبل بضع سنوات مثلا‏,‏ تعرضت أنا نفسي في مطار بوسطن لحملة استجواب أوروبية‏,‏ ولمدة تزيد علي ثلاث ساعات‏,‏ بسبب محاضرة لي وجدوها في حقيبتي عن معني امريكا اضافة الي نسخ من كتابي الإبادات الجماعية كنت حملتها معي من بيروت‏.‏
المهم في هذه المنظمة العربية الجديدة أنها تنسق نشاطها مع حلفائنا الطبيعيين الذين ناضلوا طويلا من أجل الحرية والمساواة‏,‏ سواء كانوا من السكان الأصليين أو الجماعات العرقية المختلفة أو كانوا من نشطاء الحقوق المدنية والعدل الاجتماعي‏.‏ وهذا بالتأكيد ينسجم مع تاريخ وجودنا كعرب ومسلمين في هذه القارة‏,‏ فالعرب علي خلاف ما يشاع لم يأتوا الي العالم الجديد في القرن التاسع عشر‏,‏ بل وبحسب دراسات كثيرة‏,‏ لعل أهمها دراسة المؤرخ لويس كاردياك من جامعة مونبلييه أنهم شحنوا من الأندلس مع العبيد في سفن الغزو الأولي وفي زمن كولومبس نفسه‏.‏ ولهذا التاريخ وهذه الصورة اللا إنسانية من وصولنا الي أمريكا مغزي لابد من استثماره في حركة نضالنا اليوم وفي بناء تحالفاتنا من اجل حقوقنا المدنية نحن وكل الجماعات البشرية المهمشة في الولايات المتحدة‏(‏ وبالمناسبة فإن دراسة كاردياك مترجمة الي العربية ومنشورة في الثقافة ومقاومة الموت عدد ربيع‏/‏صيف‏1993‏ من جسور‏)‏
‏*‏البعض يحاول إخراج الدين تماما من تفسير التاريخ الأمريكي‏,‏ وخاصة بعد هجوم الآباء المؤسسين علي الفكر التلمودي وفصل الدين عن الدولة‏,‏ ويحاولون تقديم بدائل اقتصادية للغزو الأمريكي والتوسع غربا بحثا عن الذهب والنفط‏.‏
كيف تنظر الي التفسير الاقتصادي لنشأة أمريكا؟
فكرة امريكا‏,‏ أو نشأة أمريكا كما تفضلت‏,‏ تتمحور حول منظمة من الأساطير العبرانية التي هي أصلا نسيج من أحلام مجموعة متسيبة من النوماد‏,‏ أحلامها في نهب وسلب حضاراتنا الانسانية الأولي‏.‏ وهذه الاحلام أو الاستحلام هي التي أعطت الأساطير العبرانية مع الزمن بعدا مقدسا‏,‏ وصاغت منها منظومتها الاخلاقية التي لم تكن حقيقة إلا مرآة للا أخلاقية السلب والنهب وعبادة الذات وحق التضحية بالآخر‏.‏ فإنكار هذه الاساطير مثلا لفكرة العالم الآخر بكل مايعني ذلك من إنكار لفكرة البعث والحساب والعقاب والثواب هو الذي قوض كل معني ديني اخلاقي للاساطير العبرانية‏,‏ واستعاض عنها بأخلاق النفع السريع واللا إنساني‏,‏ كما عبر عنها مثلا تاريخهم الربوي‏,‏ وكما يجسدها واقعهم اليوم‏.‏ ليس غريبا بهذا المنظور أن يصف الفيلسوف الألماني كانط المؤمنين بهذه الأساطير بأنهم ليسوا أكثر من حزب سياسي أو أن يتهم صانع هذه الأساطير باللا أخلاقية‏.‏ وهذا في اعتقادي تفسير واقعي ودقيق جدا‏,‏ فالإيمان المركزي لهذه الأساطير يقوم علي وصايا ثلاث وليست عشرة‏:‏
احتلال واستحلال أرض الغير ونهبها‏,‏ والقضاء علي شعبها أو استعبادهم‏,‏ وثالثا وأخيرا استبدال تاريخها بتاريخهم وثقافتها بثقافتهم‏.‏
هذه المعاني الترابية للدين هي التي تحكمت بفكرة امريكا أو نشأتها كما تفضلت‏,‏ وهي الكنيسة التي عقد فيها الزواج بين البروتستانتية والرأسمالية المتوحشة‏.‏ فبرغم كل الهرطقة التي قدس بها المستوطنون الأوائل أنفسهم ووصفوا بها ارض الميعاد الأمريكية كتب السير وولتر كوب أحد قديسي الغزو


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.