انعقد مؤتمر حوار الأديان في نيويورك وحضره قادة خمسين دولة، وممثلو الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام. هذه الأديان السماوية جميعها نزلت على الأرض العربية لتحثّ على الإيمان بإله واحد أحد، ولتؤكّد على لسان الرسل القيم الإلهية السامية في الأرض وهي قدسية الإنسان، وحرمة حياته وحقوقه، وتفرّد كرامته. الملايين من أتباع هذه الأديان عاشوا وتفاعلوا معاً طوال التاريخ منذ بعث الله عزّ وجلّ ابراهيم والأنبياء من بعده حتى خاتم النبوة، الرسول العربي محمد (صلى الله عليه وسلم)، لينشروا الدين القيّم «إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم». ورغم التسامح الذي عرف به الإسلام حيث عاش في كنفه أتباع الديانات الأخرى طوال (1429) سنة معزّزين مكرّمين، فقد تعرّضت بلاد الإسلام وأهلها مرات عديدة في التاريخ لحروب دموية من قبل جحافل التعصب الديني التي تأتي بالعدوان من الغرب مرةً باسم الصليب، ومرّةً باسم الهيكل، وآخر المتعطّشين للدماء العربية، المحافظون الجدد، الذين اتهموا الإسلام بالعنف، وأتباعه بالإرهاب بعد أن نشرت مخابراتهم الجماعات المتطرّفة، ودرّبتها وموّلتها، وبدأوا يصبوّن انتقاداتهم على موقف الدين الإسلامي من المرأة مرة، ومن الإرث مرةً أخرى، وما إلى هنالك، وكأنهم في الغرب قد حققوا الوضع المثاليّ للمرأة والإرث وما على الجميع سوى أن يقلّدوه. كما اخترع المحافظون الجدد، الذين مثّلهم هذه المرة بوش الابن، مبدأ صراع الحضارات، وبدأت في عهده آخر هجمة غربية مركّزة وواسعة ومموّلة بمئات المليارات لتدمير واحتلال بلاد الإسلام في العراق وأفغانستان والصومال ولبنان، وكانت خططهم، وربما ما تزال، تمتدّ إلى سورية وإيران والسودان، ولكنّ هدفهم الأساس هو الإسلام. حروب بوش أخذت أوجه مختلفة، وسُنّت من أجلها القوانين والتشريعات في بلدان غربية ديمقراطية للحدّ من الحريات الفردية، ولكنها موجّهة ضدّ المسلمين حصراً وصولاً إلى السماح رسمياً بالتعذيب والاعتقال في سجون سرّية. ومن جهة أخرى بدأ الضغط، باسم الحرية الدينية، على الدول المسلمة حتى التي لا يوجد فيها مسيحيون من أجل بناء الكنائس، والسماح بالتبشير بالمسيحية، والظهور وكأنّ الغرب لديه حرية دينية والدول المسلمة محرومة منها، وكأنّ الغرب يمثّل المسيحيين العرب وهم الذين عاشوا القرون يعانون من حروب الفرنجة والصهاينة مثلهم مثل أقرانهم العرب المسلمين. والمشكلة ليست في بناء الكنائس أو الجوامع، أو المسيحية أو اليهودية والإسلام، ولكنّ المشكلة منذ الأزل هي مشكلة سياسية ومشكلة حقوق وعدالة، وفي كلّ مرة يتخذ من الدين غطاء للتعصّب والعنصرية والتطرّف، لإظهار الأمر وكأنه مشكلة دينية، وللعب بعواطف المتدينين في كلّ أصقاع الأرض لاتخاذ هذا الموقف أو ذاك. حتى حين تعرّض الشرق للحملات الصليبية لم تكن المشكلة دينية، بل كانت سياسية حين طمع الأوروبيون في العصور الوسطى في ثروات المسلمين، والأرض والمياه، ومنتجات الحضارة العربية، فوقف مسيحيو الشرق إلى جانب المسلمين يدافعون عن بلادهم وأراضيهم وكنائسهم وجوامعهم ضدّ طامع معتد، وكسروا بذلك نظرية الحروب الدينية، وبرهنوا على أنها حروب غربية على الحقوق والأرض العربية، وتكرّر هذا الأمر خلال الحقبة الاستعمارية، ويتكرّر اليوم مع المشروع الصهيوني لتدمير فلسطين. والأمر الآخر هو أنّ الخلافات والصراعات قائمة حتى بين دول تدين بالدين نفسه، سواء أكانت هذه الدول مسيحية أم مسلمة، لا بل والصراع قائم ضمن المجموعات الدينية الواحدة في أمكنة شتى من العالم، وذلك بسبب خلافات في وجهات النظر السياسية، وإلا كيف قتل يهودي متعصّب رابين وهو يهودي مثله؟ وكيف تنشب الصراعات بين المجموعات اليهودية والمسيحية والمسلمة وبين فئات مختلفة من الدين نفسه. إلا أنّ المشكلة في السنوات الأخيرة والتي يحاول الغرب أن يجد لها غطاءً دينياً بطرق متنوّعة هي وجود الكيان الصهيوني الذي يحاول أن يظهر للعالم بوجه ديني، خاصةً لأنّ اليهود قد تعرّضوا في ألمانيا وأوروبا لمعاناة تاريخية خلال الحرب العالمية الثانية ليختاروا حلّ مشكلاتهم على حساب الشعب الفلسطيني، وأخذوا منذ ذلك الوقت في ابتزاز العالم ليجد طرقاً لدفع ثمن تلك المشكلة، ونزلوا منذ ستين عاماً بالشعب الفلسطيني قتلاً وتشريداً وتهجيراً مستخدمين إرثهم الإشكالي لإقناع العالم بالصمت تارة، وبتأييدهم في كلّ ما يرتكبونه من جرائم ضدّ الإنسانية تارةً أخرى، بذريعة الخوف على أمنهم أو التخلّص من العداء المحيط بهم والخانق لهم والضاغط عليهم، وهم يحتلّون المزيد من الأراضي، ويطردون المزيد من العرب المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، وينفّذون سياسات عنصرية، وتطهيراً عرقياً، وجرائم بحقّ الفلسطينيين سوف يسجّلها التاريخ على أنها جرائم إبادة، وسوف يتجرأ البعض، ولو بعد حين، على رفع أصواتهم في وجه مثل هذا الظلم والطغيان. منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر ترافقت، مع حروب بوش الدموية، الهجمات الإعلامية والقانونية والإجرائية ضدّ المسلمين والمسلمات في الغرب مع حمى نشاط استيطاني في فلسطينالمحتلة، سجّله المختصون بأنه تضاعف خلال السنوات القليلة الماضية. وكلما اشتدّت الحملة على الفلسطينيين، وكلما هدّمت منازلهم وقطعت أشجارهم، وقتل أطفالهم، كلما تأجّجت الحملة، باسم مكافحة الإرهاب، على المسلمين في الغرب وذلك للإيحاء المباشر بأنّ هؤلاء اليهود الذين تعرّضوا للمعاناة مرةً في ألمانيا النازية، يتعرّضون اليوم لتهديد إسلامي محتمل، ولذلك لا بدّ من القيام بما يقومون به من جرائم وحروب واغتيالات من أجل حماية أنفسهم. وهنا تكمن المفارقة اللافتة للأنظار؛ لأنّ كثيراً من المعلومات عن الجرائم التي ترتكب بحقّ الفلسطينيين تنشرها مجموعات يهودية علمانية تعمل ضدّ القتل والاحتلال، وضدّ اغتصاب فلسطين، ومع حقوق الفلسطينيين في أرضهم وديارهم. كما أنّ هدم بيوت المسلمين والمسيحيين في القدس، والاستيلاء على ممتلكات الكنائس لا ينطلق من أسباب دينية، وإنما من أسباب الاستيلاء على الأرض والمدن والتخطيط السياسي لتهجير المسلمين والمسيحيين، ومضاعفة الاستيطان كي تصبح هذه الدولة لليهود فقط. والنضال اليوم ضدّ هذه الجريمة البشعة لا يقتصر على المسلمين فقط، وليس نضالاً يقوم به أتباع دين دون الآخر، أو صراع دين ضدّ الآخر، فقد حملت سفن كسر الحصار التي قدمت إلى غزّة، وأتت مجموعات من أشرف خلق الله أتباع الديانات الثلاث المسيحية واليهودية والإسلام. كما وقف الوزراء الأوروبيون، المسيحيون بطبيعة الحال، منذ أيام، والذين أتوا بالدواء والمساعدات لشعب غزّة الذي يتعرّض لإبادة جماعية، وقفوا عاجزين عن الوصول إلى أهدافهم وإيصال المساعدات إلى من هو بأمسّ الحاجة لها، مسلمي غزّة. كما أنّ كثيراً من اليهود الأرثوذكس، الذين لا نسمع أصواتهم كثيراً في إعلامنا العربيّ، يعتبرون من أشدّ المعادين لقيام الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، ويجوبون العالم غرباً وشرقاً يوضحون الجرائم التي ترتكبها الصهيونية باسمهم، ويبرئون أنفسهم وديانتهم من أيّ علاقة بمن يرتكب هذه الجرائم. أما آن للعالم اليوم في الغرب والشرق أن يفهم أبجدية الصراع في الشرق الأوسط، والذي هو صراع على الأرض والمياه والحقوق وصراع لنهب ثروات العرب، ولحرمانهم من مكانتهم الدولية، وليس صراعاً بين الأديان. فالديّان الذي خلق السماوات والأرض، وأرسل الرسل هو واحد أحد لجميع البشر، وهدف الرسالات السماوية الثلاث، التي أنزلت على الرسل العرب، هي إحقاق العدل على الأرض، وحفظ حياة وحرية وكرامة الإنسان، واختبار البشر بأعمالهم «تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا»، كما قال سبحانه وتعالى «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». إنّ بلسم الجراح لكلّ ما يعاني منه جيل القرن الواحد والعشرين هو تبنّي الغربيين لقيم التسامح والتعايش كي يستطيعوا تحقيق العدل على الأرض، وإنهاء الظلم والاستعمار والاستيطان والاحتلال، وما يجرّ كلّ هذا وراءه من جرائم بحقّ الإنسانية. ولا يمكن تحقيق العدل مع الاحتلال. الأديان متحاورة ومتجانسة، وقيمها متداخلة منذ أنزلها الله تعالى على الأرض العربية، ولكنّ المطلوب هو الوقفة الإنسانية الموحّدة ضدّ جرائم ترتكب بحقّ الإنسانية باسم هذه الأديان، فتتخذ قوى العدوان نفسها أغطية دينية تارة وأمنية تارةً أخرى، فبينما كانت ليفني تخطب في هذا الحوار باعتبارها يهودية، كانت وما تزال تصدر أوامرها بإنزال أشدّ العقاب جرماً ضدّ مليون ونصف المليون من العرب المسلمين في غزّة، فيموت مئات الرضّع والمرضى بسبب حصارها لغزّة المحرومة من الدواء والغذاء والدعم العربي. والذي يثلج الصدر هو أنّ عدداً لا بأس به من أتباع الديانات الثلاث بدأوا يعملون بالفعل من أجل نصرة الشعب الفلسطيني، ووضع حدّ للجرائم التي ترتكب ضدّه، وكشف الوجه الحقيقي لوقائع الاحتلال والاستيطان أمام أنظار العالم برمّته. فهل يمكن لإعلامنا العربيّ أن يكشف الغطاء ويساهم في إظهار حقيقة ما يجري كي نقصّر من عمر الاحتلال ونضع حداً لمأساة الملايين من المسلمين في غزّة والعراق وأفغانستان والصومال والسودان، الذين يتخذ العدوان عليهم أغطيةً مختلفةً بين الحين والآخر، ولكنّ الحقيقة المجرّدة هي أنّ حقوق العرب تهدر طمعاً في ثرواتهم وأرضهم ومياههم وتاريخهم وحضارتهم، مستغلّين حالة الضعف العام الذي ينهك الجسد الرسميّ العربي.