إن من يتأمَّل حديث القرآن الكثير والكثيف عن النفاق والمنافقين، يدرك أنه يتناول خطراً ماحقاً وضرراً مفجعاً استحق أمر التحذير منه والتوجيه إلى مواجهته استغراق صفات النفاق آيات كثيرة، حيث كان الحديث عنهم في القرآن في 17 سورة مدنية من 30 سورة، واستغرق ذلك قرابة 340 آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم" أصل النفاق يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، وقد فصّل القرآن حديثه عن المنافقين لأنهم ازدادوا عن بقية أنواع الكفار بالكذب والمراوغة والخداع، فجاء هذا التفصيل حتى يمكن تجنب الخداع والتضليل الذي طالما ظنوا أنهم به يخادعون الله والذين آمنوا: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة من الآية:9]. وقد ركّز القرآن على إظهار صفات المنافقين لئلا يُغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، والاعتقاد بصلاحهم، وهم فجرة وفسدة في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبّار أن يظن بأهل الفجور خير، أو ينتظر من أهل الفساد إصلاح. إن عداء المنافقين قد يظهر في صورة عداوة لبعض المسلمين، لكنه في حقيقته عداء لله ولرسوله ولكتابه... إن عداءهم يرجع للإسلام ذاته، قال ابن القيم: "فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من عَلَم له قد طمسوه، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ} [البقرة من الآية:12]" (مدارك السالكين ؛لابن القيم: [1/347]). تنوَّعت صور النفاق عبر التاريخ، فكانت في بعض الأحيان تخرج في شكل فرق منحرفة ونحل ضالة ترتدي ثياب الدين وهي مارقة منه، أو لا تظهر انحرافاً في العقيدة لكن تفضحها مواقفها من الشريعة، أما في عصرنا فإن شأن النفاق عجيب، فقد بلغ من الجرأة والوقاحة أن خلع رداء الدين بكل خسة وبجاحة، وذلك عندما رفع المنافقون في عصرنا شعارات العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن الدنيا بالمرة، وكأن الناس بعد هذه الدنيا سيصيرون إلى عدم! لا سؤال ولا حساب، لا ثواب ولا عقاب! من تعرَّف على العلمانية في بلاد المسلمين -فكراً ومنهجاً- ثم تأمَّل حديث القرآن عن النفاق والمنافقين -سلوكاً وتطبيقاً-؛ يجد تطابقاً عجيباً، وكأن الكتاب المبين يتحدث مباشرة عن أصناف العلمانيين، فالعلمانية في عصرنا -بكل صنوفها وتياراتها الغربية والشرقية- تُمثِّل التحقيق النظري والتطبيق العملي للنفاق بدرجاته كلها، فالعتاة من رموزها ومفكريها، والطغاة من قادتها ومتآمريها؛ يجسّدون النفاق الأكبر بكل ما يحمل من ملامح، ثم هؤلاء ينشطون بكل ما يستطيعون لتكوين كتل عظيمة من أصحاب النفاق الأصغر؛ ليكونوا أنصاراً لهم، وجدراناً من الخشب المسندة التي تقف خلفهم، فأكبر هموم المنافقين العلمانيين أن يكون النفاق الأصغر بكل شُعبه السمةَ الغالبة للشعوب المسلمة، حيث يدأبون لإخراج الناس بنفاقهم من النور إلى الظلمات، كما قال الله تعالى عنهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء من الآية:89]. إن مصيبة المسلمين في أكابر المنافقين من العلمانيين وغيرهم، تعظم على كل مصيبة؛ فهم وراء كل بلاء، إما أصالة أو شراكة، ومن تأمّل أحوال الأمة طوال تاريخها يجد آثار الدمار الذي ألحقوه بأمتنا في العقائد والشرائع والأخلاق، وفي الأرض والعِرض، وفي كل شؤون المجتمع والفرد... "بلية المسلم بهم أعظم من بليته بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون من الآية:4]. ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي لا عدو إلا هم، لكن لم يرد ها هنا لحصر العداوة فيهم وأنه لا عدو للمسلمين سواهم، بل هذا من إثبات الأولية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يُتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها؛ فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف دينهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم؛ لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أيام ثم تنقضي ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر" (طريق الهجرتين: [404]).