*يا حضرات القضاة .. يا حضرات المستشارين .. أوقفوا المحاكمة .. المتهمة الماثلة أمامكم قتيلة وليست قاتلة .. ضحية وليست جانية ..بريئة وليست مجرمة.*أرجوكم اسمعوا سهام . أسمعوها بعقولكم .. قلوبكم لن تحتمل تفاصيل مأساتها.. المأساة متكررة والنهايات مختلفة باختلاف أبطالها .*سهام لم تكمل دراستها . اكتفت بالثانوية العامة . لم تقل الأسباب لكنها معروفة . ربما التنسيق وقد يكون اليأس من الحصول على وظيفة وقد يكون هناك سبب آخر لاأحد يعرفه سواها. المهم أن سهام ظلت قابعة خلف جدران الصمت والعنوسة حتى بلغت الثالثة والثلاثين قبل عشر سنوات حين جاء الفارس يروى قلباً هده الظمأ ويُخضر عشب اليابسة . لم تصدق سهام أن يطول الحلم فهي لم تعتد الحياة مبتسمة ولم تشأ الحياة أن تطيل الخداع . ثلاثة أشهر فقط وهرب الفارس مُخلفا أحمد جنيناً فى أحشائها ومجرد ورقة طلاق تقول أنها امرأة منتهية الصلاحية .*وفى بلد الممنوعات ليس من حق ابنائه أى شيئ :الحلم .. الكلام .. الابتسام .. الاشتياق..فلم يكن أمام سهام سوى أن تنتظر أحمد الأمل والسند ومن أجله جالت مصر طولاً وعرضاً باحثة عن عمل أى عمل ولكن هيهات .. ضاقت عليها مصر بما رحبت كعادتها فى زمن الاقطاع الوظيفى فكل الأبواب مغلقة لا تفتح الا لأقارب الوزراء وخريجى الجامعات الأجنبية والمستعدين لدفع الثمن حتى لو كان الشرف . والشرف لم يعد مثل عود الكبريت بعد أن وصل غشاء البكارة الصينى ويبدو أن سهام لم تكن من هؤلاء*تسع سنوات وسهام تأكل من عشاش الأرض ومساعدة شقيق لها لاتسد الرمق بعد دفع ايجار السكن . وترك أحمد التعليم .. كاهلها ينوء بمصروفاته . والعلم ترف بالنسبة للجائعين مثلما الحلم بالمستقبل مهما كان الحلم متواضعاً.وأحاط الإحباط بها من كل جانب واستحكم اليأس. وقررت التخلص من حياتها .*انتظروا .. على رسلكم ياقوم .. أسمع بعضكم يحوقل فى سره ..والآخر يصرخ فى وجهها : ياكافرة ..أنا أعرف وسهام حتما كانت تعرف - أن الانتحار كفر. وأنا لاأبرر لها ماكانت تفكر فيه لكن هل كانت سهام تفكر ؟ هل ترك لها الاحباط عقلاً؟هل خلف اليأس لها مُتسعاً كى تتدبر أمرها ؟ لاأعرف .. المهم أنها تراجعت عن فكرة الانتحار لسبب آخر غير ما تفكرون فيه .. لقد سألت نفسها : لمن ستترك أحمد بعد موتها ؟ من سيتولى رعايته وقد انتحرت أمه ؟وهداها عقلها المريض ( وأنا هنا أشفق عليها ولاأشتمها ) إلى فكرة لم تجد بديلاً لها .. عند الفجر فى ليلة بائسة لم يغمض لها جفن فيها أحضرت سهام فوطة وكتمت أنفاس أحمد.. توسل اليها أن تدعه يعيش .. ارتعشت يداها تحت وطأة نظراته المتوسلة..لسعت وجهه دمعتان ساخنتان تساقطتا من عينيها وهى تئن قائلة: ياولدى أنا أقتلك من أجلك .. أنا أخلصك من حياة على حافة الموت بل هى الموت نفسه .. واستدارت هاربة من مواجهة غير متكافئة مع نظراته لتبلل الفوطة وتكتم أنفاسه ولاتتركه الا بعد أن عبقت رائحة الموت فى أرجاء حياتها . وجاء الدور عليها وكان الامر أيسر .. ليس عليها الآن سوى أن تلحق بصغيرها .. سم الفئران هو أقصر الطرق أو هو ماتقدر على شرائه .. تجرعته حتى الثمالة لكن هيهات فالموت أيضا يستعصى على الفقراء. فى اليوم الثانى قطعت شرايينها وبعد ست ساعات توقف النزيف وظلت على قيد الحياة . وفى اليوم الثالث يأست من الموت فأبلغت عن جريمتها متوسلة أن يشنقوها*انتهت حكاية سهام الضحية البريئة . ومرة أخرى على رسلكم ياقوم فأنا أسمع أحدكم يتلو الآية الكريمة :ولاتقتلوا أولادكم خشية املاق نحن نرزقهم واياكم ان قتلهم كان خطئا كبيراً .. أرجوكم لا تفهمونى خطأ فأنا لاأبرر ماارتكبته سهام لكننى أولاً أروى الحكاية من وجهة نظرها وكما فرضتها ظروفها ..ولكننى ثانياً أرفض أن تقف وحدها فى قفص الاتهام ويبقى المجرمون الحقيقيون طلقاء . (بالمناسبة لقد انتحلت شخصية المحامى هنا لأن المحامين مشغولون فى اضرابهم والمعركة السخيفة الدائرة بينهم وبين القضاة من أجل مكاسب شخصية وألاعيب انتخابية فى مصلحة أفراد قلائل من كلاً الطرفين )*ويبدو أنني أدمنت تقمص الشخصيات فاسمحوا لى بالاستمرار فى المرافعة : ياحضرات المستشارين .. ياحضرات القضاة .. المجرم الحقيقى هو حكومتنا الموقرة ووزراؤنا الموقرين والرأسمالية المتوحشة التى جعلت الفقراء بلا وطن والمطحونين بلاظهر والبؤساء بلا حق والشرفاء بلهاء والمخلصين أغبياء والشباب بلا قضية*المجرم الحقيقى هو من يزور الانتخابات والارادات والتاريخ ..هو من يهين المصرى ويسمح باهانته داخل مصر وخارجها ..هو من يبيع عرض المصرية داخل مصر وخارجها..هو من يدفع شباب مصر الى كراهية مصر حتى الموت فى قوارب الهجرة غير الشرعية ..المجرم الحقيقى هو من سمح للأقزام بالتطاول على أم الدنيا حين جعلها تتنازل كرهاً عن دورها الطليعى فى قيادة الأمة والدفاع عن قضاياها بمقولة مصر أولاً .. المجرم الحقيقى هو من اختزل أم الدنيا فى مصر واختزل مصر فى القاهرة واختزل القاهرة فى شارع الهرم وشارع جامعة الدول وغيرهما من الشوارع المواخير.. هؤلاء هم من يستحقون الوقوف فى القفص وليست سهام التى قتلوا صغيرها وحاولوا قتلها .*سيدى القاضى .. أضع بين يديكم تقرير التنمية البشرية لعام 2010 .. التقرير يقول أن 27 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر وأن ثمانية ملايين مواطن يعيشون تحت خط الفقر المقدع (لاأعرف بدقة الفرق بين الفقر والفقر المدقع ) ويضيف التقرير أن ستة ملايين شاب مصرى يعانى واحداً أوأكثر من صور الحرمان (الحرمان الحاد من الصحة ،التعليم ،المأوى ،المياه ،الصرف الصحى ،المعلومات )..بالمناسبة التقريرأعده معهد التخطيط القومى (جهة حكومية مصرية ) بالتعاون مع البرنامج الانمائى للأمم المتحدة (جهة رسمية دولية ) ولاعلاقة للمعارضة ولاالبرادعى به .*بلاش التقرير ده .. هناك تقرير آخر تضمنته النشرة السنوية لأسعار المواد والمنتجات الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة والاحصاء (طبعا جهة حكومية ) يقول : ارتفعت خلال عام 2009 أسعار 14 سلعة من بينها البنزين والكيروسين والسولار والأجهزة المنزلية والأدوات الصحية ومواد البناء.* سيدى القاضى .. بقى لى سؤال واحد : هل استقر فى ضميرك أن سهام مجرمة بعد كل ماقلته لك ؟