عالجنا منذ سنوات في سلسلة مقالات متصلة نشرت بعد ذلك في كتابي الإصلاح العربي بين الواقع العربي والسراب الديمقراطي ميريت 2005 موضوع الإصلاح العربي بصورة نقدية شاملة. وتساءلت عن توجهات النظم العربية السلطوية, وهل ستقدم تحت ضغوط بالخارج ومطالب الداخل علي إصلاح ديمقراطي مبتور أم علي تغيير شامل؟ وتساءلت: ما هي مكونات مشروع الإصلاح العربي, وما هي القوي السياسية والاجتماعية التي ستقوم علي تنفيذه, وفي أي مدي زمني؟ بهذا التساؤل المبدئي نكون قد دخلنا في صميم المشكلة العويصة التي تواجه المجتمع العربي في مرحلة تطوره الراهنة, والتي لو أردنا أن نختزلها في عبارة واحدة لقلنا إنها سيطرة الشمولية والسلطوية التي تمارسها النظم السياسية العربية, التي أدت إلي ما يطلق عليه العجز الديمقراطي! بمعني الافتقار الشديد إلي الممارسات الديمقراطية من أول ترسيخ مفهوم الديمقراطية نفسها, وإكسابه الشرعية الدستورية والقانونية والثقافية التي يستحقها, خصوصا بعد الخبرات المريرة التي عانتها الشعوب في القرن العشرين, نتيجة ممارسات النظم الديكتاتورية أيا كانت صورتها. والمتأمل لردود أفعال النظم السياسية العربية علي اختلاف توجهاتها إزاء قضية الإصلاح يكتشف أن ممثليها من الملوك والرؤساء والقادة بعد أن يؤكدوا ضرورة أن ينبع الإصلاح من الداخل, يمارسون سياسة المماطلة في التنفيذ بالاستناد إلي تعديلات شتي, بعضهم قرر أنهم بدأوا الإصلاح فعلا منذ سنوات طويلة ولم يتبق إلا بعض الخطوات البسيطة حتي تكتمل صورة النموذج الديمقراطي الأصيل, كما يعتقدون أن نظمهم تمثله, والبعض الآخر بعد أن أعلن نيته الإصلاح يبدأ بخطوات بالغة البطء في إدخال بعض التحسينات الشكلية في أداء النظم, علي أساس أن التسرع في هذا المجال بالغ الخطورة, وقد يؤثر علي الاستقرار السياسي, في تجاهل تام للتفرقة الضرورية بين الاستقرار والجمود بل والانهيار السياسي! وفي كل الأحوال ليست هناك خطط عربية معلنة للإصلاح تحدد مفهومه وتبين مكوناته وإجراءاته ومداه الزمني, والقوي السياسية والاجتماعية التي ستقوده. وفي تقديرنا أن كل الرؤي العربية الرسمية بلا استثناء التي تتحدث عن الإصلاح تعني في الواقع إصلاحا مبتورا وليس تغييرا شاملا مطلوبا وضروريا, وخصوصا ونحن نعيش في عصر العولمة بشعاراتها المرفوعة عن الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان. ويصبح الإصلاح مبتورا إن لم يتصد إلي مهمة التغيير الشامل لطبيعة النظم السياسية العربية السائدة, ونحن نعترف سلفا بأن مهمة التغيير الشامل بالمعني الذي حددناه ليست سهلة ولا ميسورة, لأنها ستكون أشبه بزلزال سيعيد حرث التربة السياسية, ما من شأنه تغيير مواقع جماعات السلطة وأصحاب النفوذ والطبقات المسيطرة. هي عملية مجتمعية شاملة من شأنها لو تمت إعادة الصياغة الكاملة للمجتمعات العربية, بما يتفق مع معايير الدولة الحديثة التي شهدها بالفعل القرن العشرون, بحيث أصبحت هي النموذج الأمثل الذي تقتدي به الدول التي خرجت من إطار الشمولية والسلطوية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, ليس ذلك فقط, بل إن نموذج الدولة الحديثة أصبح الآن هو المرجعية التي تصبو شعوب متعددة في مختلف قارات العالم إلي تحقيقه, من خلال تطور سلمي تقوده نخب سياسية مستنيرة, أجادت فهم لغة العصر, ولا تعاند بغباء المسار التطوري للتاريخ. نتحدث إذن عن تأسيس الدولة الحديثة العربية التي ينبغي أن تكون هي هدف التغيير العربي الشامل. ولسنا في حاجة إلي شرح تفصيلي لمكونات الدولة الحديثة, ذلك أننا كمواطنين في العالم, شهدنا خلال القرن العشرين المعارك الضارية التي دارت بين الدول التي رفعت شعار الاشتراكية, ومع ذلك مارست القهر السياسي العنيف ضد شعوبها, حيث ضاعت معالم دولة القانون, والدول التي رفعت شعار الرأسمالية والتي علي الرغم من بعض السلبيات في أدائها, فإنها انتصرت للديمقراطية ولدولة القانون. خبرة القرن العشرين مازالت ماثلة أمام أبصارنا, إن الشعوب لا تعيش بالشعارات الفارغة من المضمون, ولكن بالممارسة الحية الفعالة. ويمكن القول بإيجاز شديد إن الدولة الحديثة لابد أن تكون دولة علمانية تفصل بوضوح بين الدين والدولة, بحيث تقوم علي التشريع وليس علي الفتوي, ولا تتيح أدني فرصة لرجال الدين أي دين أن يهيمنوا علي مقدرات التطور الاجتماعي من خلال تأويلاتهم الصحيحة أو المشوهة للنصوص الدينية, والعلمانية علي عكس ما يشيع أنصار تيار الإسلام السياسي تحترم الأديان كافة, وتتيح الفرصة الكاملة لأتباع كل دين لكي يمارسوا طقوسهم كما يشاءون في ظل الدستور والقانون, وقد تكون فرنسا علي الرغم من الصخب اللاعقلاني حول منع ارتداء الرموز الدينية الإسلامية واليهودية والمسيحية في المدارس العامة وأماكن العمل نموذجا للدولة العلمانية المستنيرة. والعلمانية لا تعني إطلاقا فصل الدين عن المجتمع, لأن الدين يتخلل أنسجة كل المجتمعات الإنسانية, وإنما هي كمذهب سياسي تحرص علي الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية. الدولة الحديثة علمانية بحسب التعريف, ولكنها أيضا تقوم علي أساس فكرة المواطنة المتساوية لأعضاء المجتمع بغض النظر عن الدين واللون والجنس, وهي تمثل دولة القانون بامتياز, ونحن نعرف أن الدولة في الفقه الدستوري تندرج تحت فئتين لا ثالث لهما: دولة القانون التي تعتمد في أدائها علي الدستور والتشريعات والقوانين الصادرة بالاستناد إليه, والدولة البوليسية التي ليست فيها سيادة, حين سجلنا هذه الأفكار كنا في حاجة يأس مطلق من إمكان تحقيق الإصلاح الشامل, ولذلك تحدثنا عن الواقع السلطوي والسراب الديمقراطي! غير أن ثورة52 يناير الرائدة أعادت إلينا الثقة بأن الشعب العربي قادر علي تفجير الثورة ونسف الأمن السلطوي الواقع. قامت الثورة وأسقطت النظام القديم وأجبرت الرئيس السابق علي التنحي, ولكن يبقي أمامها تشييد معمار الديمقراطية بكل أبعاده التي أشرنا إلي أهم معالمها. كيف تعبر المرحلة الانتقالية البالغة الصعوبة والزاخرة بالتحديات من قبل التيارات الدينية الرجعية سلفية كانت أو غير سلفية لكي تقيم ديمقراطية حقيقية تقوم علي أساس تشييد دعائم الدولة المدنية؟ هذا هو التحدي فلنر كيف ستكون الاستجابة.