حين نتحدث عن السينما في دول مجلس التعاون الخليجي "مصاعب وآفاق المستقبل" فإن أكثر ما يلفت النظر هو أن دول هذه المنطقة من العالم لم تؤسس حتي الان لصناعة سينمائية تنشغل بالواقع الثقافي المحلي وتخلق مناخا فنيا وسينمائيا وفكريا متحررا يفتح مجالا للفيلم يتجاوز دوره الترفيهي الضيق الي دور تنويري يؤثر ويتأثر بهذا الواقع. وحين نقول صناعة. فنحن نتحدث عن بنية تحتية ضرورية وبنية بشرية بدونها لا يتحقق انتاج ولا يكون هناك ما يسمي بسينما الخليجية تأخذ مكانها علي خريطة سينما العالم.. فحتي الان وبعد مائة وأكثر من عمر السينما "1895" لانسمع الا عن تجارب متواضعة وعن عدد نادر من تجارب روائية طويلة لم تأخذ حظها من الحضور ولم يوفق مانعوها في انتزاع فرص اخري تؤكد امكانية الاستمرار وكذلك لم تترك علامة بارزة في محيطها الاقليميفضاعت دون أثر. تقضي البنية التحتية لصناعة السينما وجود بلاتوهات ومعامل تحميض والات للمونتاج والات تصوير.. والخ الأدوات الضرورية للصناعة ولكنها تتطلب ما هو أهم حتي تستقيم ويكون هناك عجلة انتاج لا تتوقف وتحديدا علي خلق اجيال من المخرجين والممثلين وكتاب السيناريو والمنتجين القادرين علي الانتاج السينمائي ويؤمنون بالدور الحيوي لوسيط الفيلم ليس كاداة للتسلية وقتل الوقت وانما كسلعة ثقافية يتم تبادلها وتكون علي المستوي اللائق بدول ثرية وطموحة علميا وتتطلع الي القيام بدور سياسي واقتصادي واجتماعي في محيطها الاقليمي. ويلفت النظر انه برغم غياب السينما كصناعة وانتاج منتظم وجود كيانات سينمائية اقتصادية كبيرة في مجال توزيع الفيلم داخل دول الخليج.. هناك شركات توزيع تأسست منذ اكثر من نصف قرن مثل شركة السينما الكويتية الوطنية "تأسست عام 1945" والشركة القطرية ومن المؤكد ان هناك شركات خليجية تمارس نفس النشاط في باقي دول المجلس وبالذات في دبي وأبوظبي. ويلفت النظر كذلك بالنسبة لاي زائر من خارج هذه البلدان انتشار دور العرض السينمائي المجهزة بأحدث الات العرض المتطورة تكنولوجيا وبأحدث ما وصلت اليه تقنيات الشاشة العريضة "IMAX" والبعد الثلاثي "3D" وهذه الدور تجدها داخل المولات التجارية الفخمة التي تحاكي مثيلتها في الدول الغربية ولكن يظل هناك من دول المجلس من لايملك دار سينما للعرض العام حتي الان ونحن نعيش العام .2012 وفي هذه المنطقة من العالم العربي ثلاث مهرجانات سينمائية كبيرة في دبي وابوظبي وقطر تتكلف عشرات الملايين من الدولارات وتتضمن مسابقات للفيلم العربي الذي يحظي بحفاوة ودعم مادي من خلال بعض المبادرات والمنح السينمائية التي ينظمها القائمون علي هذه المناسبات والتي تدعو اليها النجوم العالميين والمخرجين الكبار من الغرب والشرق وأيضا كتاب السيناريو والصحفيين في صحف العالم الكبري ولكنها حتي الان مسابقات متواضعة لو حكمنا علي الافلام المشاركة من دول الخليج. اين السينما الخليجية من هذه المظاهرات الفنية الضخمة والفخمة التي تدعو اليها اخر انتاجات السينما العالمية؟ ان مدن مجلس التعاون تزدان بأبراج تناطح السحاب بتصميمات شديدة الحداثة وفي الشوارع لاتلمح سوي احداث ماركات السيارات الامريكية واليابانية وفي المراكز التجارية تجد نفس البضائع التي يمكن ان تجدها في المدن الكبري. لندن وباريس وطوكيو وبومباي.. الخ وفي دور العرض لاتجد بأي حال فيلم من انتاج هذه الدول. ستجد علي المستوي الثقافي متاحف للحضارة وللتراث العربي. وقري ثقافية تم تشييدها بحيث تحاكي بعض سمات من الماضي العتيق.. وستجد احتفاء واسعا بنجوم العالم فضلا عن مظاهر من البذخ والكرم المفرط يتحاكون بها ويكتب عنها الصحفيون الاجانب في صحفهم ولكنهم يشيرون في نفس الوقت الي غياب السينما الوطنية وتواضعها. من المفارقة المشيرة أن بعض المسئولين العرب في هذه المنطقة يتعاملون مع الفيلم السينمائي كنوع من اللهو الفارغ وكمنتج تجاري للاستهلاك وتضييع الوقت بينما ها هم يتعاملون مع افلام العالم ونجومه الكبار بانحناء واجلال وأحيانا بوله وتزلف. ويشترون منهم خبرات من يملكون الخبرة في هذا المجال بأثمان رهيبة ولكن مقابل عائد قليل واعني علي المستوي العلمي الاكاديمي الحقيقي وعلي مستوي الانتاج والتعليم الذي يتبلور في عائد ملموس ينعكس علي الانتاج المحلي فالواقع السينمائي كما اشرت مازال متواضعا ووجود تطور للفيلم في دول الخليج مرهون بتأسيس اكاديميات لدراسة السينما وفق مناهج علمية وبمعايير عالمية او منتج مدارس للفيلم ملحقة بالجامعات خصوصا ان هناك اهتمام من قبل هذه الدول بالعملية التعليمية ونعرف ان هناك فروعا لجامعات غربية في بعض دول المجلس مثل قطر.. وذلك حتي لايضطر الابناء الي الذهاب اليها في بلادها. انها البنية الاساسية البشرية تعني تطوير فنون وعلوم السينما محليا وخلق بيئة اضافية مواتية لدراسة الفيلم وتساعد في اعادة النظر في مفهوم الدور الذي تلعبه السينما اجتماعيا وثقافيا وحضاريا وفكريا هذا اذا اردنا ان يكون للانتاج السينمائي في دول المجلس دور فاعل ومؤثر فالنشاطات السينمائية بما فيها اقامة المهرجانات واستضافة النجوم والشخصيات البارزة في حفل السينما العالمي لن تكون ذات جدوي اذا لم تسهم في تحرير هذا المفهوم من أسر النظرة الجامدة المتدنية لفن السينما. والتي تتعامل مع الفيلم كنوع من الاكسسوارات للزينة تضيف لمسة حضارية مظهرية علي عالم مغلق ومحافظ ومازال لديه نظرة متدنية للسينما ويري في الممثل السينمائي والممثلة مجرد ديكور لاستكمال الصورة. ان صناعة الفيلم كيان حي وقائم بذاته لايعرف الثبات ولا الجمود لان الجمود يعني التوقف. ويعني غياب الانتاج السينمائي وموت الامل في إمكانية وجوده. والذي يضمن وجود سينما هو خلق أجيال دراسة لفنون السينما في كل فروعها: الاخراج. التمثيل. الكتابة. التصوير النقد.. الخ خصوصا وأن التطور التكنولوجي في هذا المجال الفني تحديدا يتم بايقاع سريع جدا والاجيال الجديدة صارت مفتونة بلغة الصورة وشديدة المهارة في التعامل معها تكنولوجيا. خصوصا في دول الخليج الثرية. ان الاستثمار في العلم والدراسة الاكاديمية وفي البشر "صناعة" حيوية لضمان المستقبل ولن يتم ذلك الا بالعلم وبالمعرفة الاكاديمية بالخبرة والتجربة وبالدراسات العليا المنهجية. ان الكيانات الاقتصادية الكبيرة في مجال توزيع دور العرض السينمائي لاتخدم في الحقيقة سوي الفيلم الاجنبي وصناعة السينما الغربيةالامريكية بصفة رئيسية وما تحقق من ربح لملاك هذه الكيانات الكبيرة يدخلفقط في مجال التجارة ويهضع بصفة اساسية لقوانين الربح والخسارة واعتقد ان دول مجلس التعاون الخليجي تطمح لامتلاك ما هو أكثر من التجارة ومن النشاطات المظهرية التي تستهلك ميزانيات كبيرة ومن المؤكد ان الشباب في دول المجلس لديهم امكانيات ابداعية وتجارب وليدة تحتاج الي دعم ومن المهم ان يكون لديهم حضور بارز وملموس في هذه النشاطات التي تتم فوق اراضيهم وبأموالهم ولذلك فإنهم في حاجة الي مرافئ للفن علي أساس علمي ممنهج والي اكاديميات ومعاهد عليا لدراسة السينما وتأصيلها بإنتاج فني. في مصر تأسس المعهد العالي للسينما عام 1959 وتخرج فيه عدد لابأس به من أبناء الدول الخليجية وقد لعب هذا الصرح العلمي دورا بالتأكيد في محيطه العربي والحاجة تزداد الي معاهد في الخليج أكثر تطورا وبإمكانيات أفضل تتيح للطالب فرصة أكبر للابداع. وحتي لاتبدو الصورة متشائمة. هناك جوانب مضيئة تعطي الامل في إمكانية الاهتمام بالدراسات والتعليم والتدريب واكتساب الخبرات في مجال السينما ومن خلال مؤسسة علي غرار معهد الفيلم بالدوحة "DFI" ومن خلال النشاطات الجانبية العملية التي تتم علي هامش مهرجانات ترابيكا. وفي نفس الشئ يمكن ان يقال بالنسبة للمشاريع والمنح والمؤسسات السينمائية المهتمة بالانتاج العربي عموما وبدعم الافلام المتعثرة انتاجيا وكذلك من خلال المسابقات التي تشجع المواهب في مجال كتابة السيناريو ومن الاهتمام بفتح فروع لاكاديميات الفيلم مثل اكاديمية نيويورك في دبي فهذه كأنها "بؤر" مضيئة لتشجيع الانتاج وتخفيف حالة الاحباط التي تصيب احيانا شباب السينمائيين في دول المنطقة. هذه كلها نشاطات جيدة ولكنها لاتغني عن اقامة ولو اكاديمية كبيرة واحدة تغذي الحاجة الي هذا النوع من الدراسة وتوفر الفرصة لدراسة منتظمة ومتواصلة تؤهل الخريجين للعمل في حقل السينما وتكون دعما لصناعة لم تولد بعد. ان وجود تيار متواصل للانتاج السينمائي في دول الخليج مرهون بإدارة سياسية فنية مدركة بأهمية الاستثمار في مجال تعليم الفنون وعلي رأسها السينما والغريب ان معظم القنوات السينمائية الفضائية العربية تنتمي لدول مجلس التعاون والأكثر غرابة أنها تخلو من أفلام خليجية.