كتبت في هذه الزاوية يوم السبت الماضي مقالاً بعنوان "عام علي الثورة" حشدت فيه ما أتصور أنه مجموعة من الإنجازات التي تحققت خلال العام الأول للثورة.. وأكدت في الوقت ذاته أنه خلال هذا العام كانت هناك أخطاء ارتكبت.. وكانت هناك جوانب للقصور.. وأهداف لم تتحقق.. إذ ليس متخيلاً أن يتم تحقيق الأهداف والطموحات في عام واحد. وكنت ومازلت مقتنعاً أن الثورة تشبه البركان الهائل الذي ينفجر في لحظة ليقلب النظام والأهداف والقناعات.. ويشق للوطن مجري جديد نحو التطوير والنهضة.. أما عملية التطوير ذاتها فإنها عملية شاقة معقدة.. وطويلة الأمد.. وأهدافها وطموحاتها مفتوحة ومتجددة طبقاً لاحتياجات الواقع الجديد. ومن العدل أن نثبت أن الثورة المصرية المجيدة نجحت في قلب النظام فعلاً.. وأسقطت معه الرموز والأهداف والقناعات المرتبطة به.. وشقت مجري جديداً للعمل الوطني عنوانه "الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.. وأسقطت جدار الخوف وفتحت الطريق لأول خطوة ديمقراطية بإجراء انتخابات برلمانية حرة نزيهة حظيت بأكبر مشاركة جماهيرية في تاريخنا. ومن العدل أيضاً ألا نركز أنظارنا علي نصف الكوب المملوء حتي لا نتهم بالغفلة ونحن في زمن الثورة.. وإنما علينا أن ننظر في ذات الوقت إلي نصف الكوب الفارغ الذي يرمز عادة إلي جوانب النقص والتقصير لكي نعالجها.. ونسدد ونقارب. وأفضل مظهر للاحتفال بالذكري الأولي للثورة هو أن نبحث في الإيجابيات. فنعظمها. ونتمسك بها ونبحث في السلبيات وجوانب التقصير. فنضع حلولاً لها تناسب قدراتنا وطموحاتنا. ثم إنه من الضروري أيضاً أن نفكر جدياً في نصف الكوب الفارغ.. ونضع تشخيصاً دقيقاً للسلبيات والأخطاء ليكون أمام المجلس الاستشاري في اجتماعه اليوم صورة صادقة لوصف مصر بعد عام من الثورة. ولعل أهم ما يطالعنا في نصف الكوب الفارغ. ذلك الانفلات الأمني الذي جعل عامنا الأول بعد الثورة أقرب إلي الفوضي والارتباك.. وأعطي انطباعاً للغالبية بأن الدولة المصرية قد سقطت مع سقوط مبارك.. وأن القانون في إجازة.. والفرصة سانحة لكل من أراد أن يعبث بأمن البلاد والعباد وينشر الفزع والبلطجة.. ويحيل حياة الناس إلي جحيم. وقد كان من نتيجة اختلال منظومة الأمن في أن انتشرت حوادث الخطف والسطو المسلح وقطع الطرق والقتل العشوائي وقطع السكك الحديدية.. وتولد شعور لدي الناس أن الشرطة تتعمد الغياب والتخلي عن مهامها انتقاماً من الثورة والثوار.. حتي يأتيها المواطن راكعاً معترفاً بذنبه.. طالباً العفو والسماح. ويأتي الإخفاق الاقتصادي في المرتبة الثانية بمصر بعد التدهور الأمني.. فقد فشلت حكومات الثورة حتي الآن في إعطاء دفعة حقيقية وواضحة المعالم للاقتصاد المصري.. وكان من نتيجة ذلك تآكل الاحتياطي النقدي وضعف الإنتاج والبحث عن قروض من الخارج وزيادة عجز الموازنة وانخفاض قيمة الجنيه. وفي الوقت الذي زادت المطالب الفئوية وارتفعت وتيرة الاحتجاجات لم تقدم حلول حاسمة للمشكلات المتفاقمة وإنما قدمت مسكنات لتأجيلها أو ترحيلها.. ولم تتسم أي حكومة بالثورية الكافية لاتخاذ قرارات تعكس روح الثورة وأهدافها.. وإنما دارت كل القرارات في الدائرة الروتينية البيروقراطية الملتزمة باللوائح والقواعد القديمة. وحتي القرارات الجريئة مثل الحد الأدني والأقصي للأجور وإجراءات تمليك أراضي الدولة مازالت الحكومة تعالجها بتحفظ شديد بسبب الخوف وانعدام الثقة. ولا شك أن الدكتور الجنزوري يحاول جاهداً أن يحل مشكلة الانهيار الأمني والإخفاق الاقتصادي لكن خطواته تبدو بطيئة ومثقلة ومترددة.. وبالتالي مازالت أزمة هروب الاستثمارات تتصاعد يوماً بعد يوم. ويرتبط بأزمة غياب الدولة ودورها الفاعل الإخفاق الكامل في استعادة الأموال المهربة إلي الخارج من رموز النظام الساقط.. وكذلك الإخفاق في استعادة الأشخاص الذين سرقوا ونهبوا البلد. وليس معقولاً أن تجتهد الدولة في استرداد بعض ملايين الجنيهات من أصحاب القصور والمنتجعات الذين أثروا من جراء المتاجرة في أراضي الدولة ولا تجتهد بنفس القدر من أجل استرداد المليارات التي تم تهريبها للخارج.. وأن تترك هذه المهمة لمن تستيقظ ضمائرهم في سويسرا وأسبانيا.. ولا نعرف عن هذه المليارات شيئاً إلا عندما يصرحون هم ويكشفون ما غمض علينا. ويجب أن نعترف بأن ما يجري في محاكمة الرئيس السابق ونجليه ومساعديه يحدث صدمة في ضمير الأمة.. لأنهم يحاكمون في قضايا كبري بنفس الطريقة التي يحاكم بها المتهم في قضية قتل جنائية عادية.. ونحن نعذر القاضي والنيابة في ذلك لأن الخطأ في تصورنا جاء من التوصيف الذي تم من البداية للقضية وكان له أبلغ الأثر في مسارها المتأرجح الذي تتابع فصوله. ويجب أن نعترف أيضاً بأن التعامل مع ملف الشهداء ومصابي الثورة لا يتم بالسرعة الواجبة والتقدير الكافي.. وهؤلاء لا يحصلون علي تعويضات أو منح من الدولة.. وإنما يحصلون علي كل التكريم والتقدير من الشعب.. وما يحصلون عليه هو جزء من حقوقهم المستحقة التي كان يجب أن تصل إليهم في مواقعهم ولا يجرون وراءها هنا وهناك. وإذا كانت ثورة يناير قد أخرجت أفضل ما في الشعب المصري فإن ما نشاهده اليوم من أزمات في الأسواق والبنزين والبوتاجاز واشتعال الأسعار يضعف ثقة المواطنين في الثورة وقدرتها علي الإنجاز وفي إجراء التغيير الإيجابي المطلوب لتحسين مستوي العيشة. وليس ببعيد عن ذلك كله تفاقم مشكلة البطالة والإسكان والمياه النظيفة والمواصلات والمرور.. وكلها مشكلات لصيقة بالمواطن وحياته اليومية.. وقد كان المنتظر أن تحدث ثورة موازية في المحليات خلال العام الأول للثورة حتي يشعر الناس بالتغيير الحقيقي. أما علي المستوي السياسي فإن أسوأ ما يطالعنا في حصاد العام الأول للثورة هو الاستقطاب الهائل الذي حدث بين الاسلاميين والليبراليين والعلمانيين.. وتحول المنافسة السياسية إلي صراع وحرب تستباح فيها كل القيم ولا تخضع لأي منطق.. والأسوأ أن ينتقل هذا الاستقطاب من الميدان السياسي إلي الميدان الديني والطائفي ولا شك أن فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر لعب دوراً مشكوراً للخروج من هذا الاستقطاب ولكن المشكلة مازالت في حاجة إلي جهود من كل الاتجاهات والتيارات. نريد أن نشعر بأن الثورة قد أحدثت التغيير المطلوب في مصر.. وأن نطمئن إلي أننا نسير في الاتجاه الصحيح.. وأننا سنصل إلي أهدافنا الكبري في يوم ما. فكروا معنا في نصف الكوب الفارغ وكيف نملأه. إشارات * ربما لا يكون الحل في الخصخصة.. لكن الصحف القومية في حاجة إلي هزة عنيفة.. إلي حل جذري يعالج أوضاعها الشاذة حتي تعود إلي ميدان المنافسة الصحفية والإعلامية. * أتمني ألا تكون أزمة البنزين ناتجة عن سرقة آلاف اللترات وتخزينها لحرق مصر في اليوم الموعود.. وأتمني كذلك ألا تكون المواد المشعة قد سرقت من منشآت مفاعل الضبعة النووي للهدف نفسه. * في مجلس الأمن يسابقون الزمن لإسقاط بشار الأسد ومعاقبة إيران لكنهم يسيرون كالسلحفاة عندما يتعلق بالأمر باقتراح لوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.. الغرض مرض.