فيما يبدو ان الحكومة جادة في وضع نظام جديد للتعليم بهدف تطويره لتحقيق رغبة المصريين في توفير نظام يساير الأنظمة العالمية. منذ أن أعلن الدكتور طارق شوقي وزير التعليم عن خطته الجديدة التي وضعها بعد دراسة مستفيضة - كما أعلن - حتي انهالت حملات النقد والتشكيك من الكثيرين سواء ممن يفهمون في العملية التعليمية أو لا يفهمون!! وتركزت الخطة علي تطبيق نظام يعرف بأنه "المحتوي الواحد" - كما جاء في الصحف - وقد تقرر تطبيقه اعتبارا من سبتمبر المقبل بالنسبة للصف الأول الابتدائي وكذلك بالنسبة للصف الأول الثانوي لكي تصبح الثانوية العامة ثلاثة أعوام. أما عن الصف الأول الابتدائي فإن النظام يتجه إلي تطبيق النظام الفنلندي وهنا ارجو ان تكون دراسة هذا المشروع دراسة واقعية ميدانية متطورة خصوصا وان كل ما هو فنلندي مختلف تماما عن مصر.. فالحياة هناك وأساليبها مختلفة عن مصر سواء في الأجور والدخول أو التربية أو العلاقات الاجتماعية فطبيعة السكان أنفسهم تختلف عن مصر والتعليم هناك فيما أعلم قائم علي البيئة الفنلندية بكل اشكالها وهذا غير متوفر في مصر وأكثر من ذلك انه في فنلندا ما يعرف بشمس منتصف الليل.. حيث النهار تتصل عدد ساعاته إلي 24 ساعة صيفا ولا يوجد ليل والعكس صحيح شتاء.. كل هذه عوامل وغيرها انعكست علي النظم التعليمية خاصة في مرحلة رياض الاطفال والمرحلة الابتدائية. من هنا فإن الأمر يتطلب دراسة جادة بحيث نستفيد فقط من الأساليب التي يمكن تحقيقها في مصر.. نحن في جميع الأحوال في حاجة إلي تدريب المعلمين تدريبا علي أعلي مستوي حتي يتمكنوا من تحقيق التطوير المنشود ولنا في تجربة المدرسة اليابانية ذكري ففي الموسم الدراسي الماضي تم الاعلان عن تنفيذ مشروع المدارس اليابانية وظهرت علي اجهزة التليفزيون مناظر لهذه المدارس بل وتم قبول التلاميذ الذين رغبوا في الدراسة بها.. ولكن حدث انه بعد كل الترتيبات التي تم الاعلان عنها واستعد التلاميذ والاطفال للذهاب إلي هذه المدارس تقرر ايقاف الدراسة بها وتأجيلها للعام المقبل سبتمبر 2018 حيث تبين ان الاستعدادات ناقصة ويبدو ان تدريب المعلمين لم يكن كافيا.. المهم ان الدراسة تأجلت بعد اتمام الاستعدادات ومن هنا فإنني اعتقد ضرورة التريث لتنفيذ المخطط ولا داعي للاستعجال حتي تتم الدراسة جيدا وتدريب المعلمين ايضا جيدا. من جهة أخري لقد تعجبت كثيرا عندما قرأت ان طباعة الكتب الجديدة تنتظر توقيع قرض البنك الدولي لتطوير التعليم في مصر.. إذن فلماذا العجلة؟ وبالمناسبة فإن التعليم في مصر مر بأزمات وتجارب كثيرة ولهذا انتشرت الأمية وانتشر أيضا الضياع التعليمي.. صحيح ان هناك من فلح في ظل هذا اللون من الدراسة في مصر وأصبحوا علماء وخبراء عالميين.. ولكن بالطبع عددهم قليل بالنسبة لعدد السكان وبالنسبة لمستوي التعليم.. كذلك تفشت الأمية والجهل وظلت المحاولات كثيفة للقضاء علي الأمية وانفقت الدولة أموالا طائلة لهذا الغرض إلا أن الأمية مازالت متفشية والتعليم مازال محلك سر. وعندما حكم محمد علي باشا مصر سنة 1805 لاحظ ان مصر فقيرة في عدد المدارس وفي عدد المتعلمين فوجه جزءا كبيرا من اهتماماته لاحياء التعليم والعلوم في مصر وقد اعتمد في ذلك علي إنشاء المدارس علي اختلاف درجاتها في كل ربوع مصر وبلغ مجموع المدارس الابتدائية التي أقامها نحو 55 مدرسة بخلاف المدارس العالية وتوسع في ارسال البعثات العلمية إلي أوروبا واقتبس النظم التي تصلح لمصر من أنظمة التعليم الأوروبية وأخذ من الحضارة الأوروبية خير ما انتجته العلوم وبالتالي نهض بالأفكار والعلوم في مصر وقد عني محمد علي بنشر التعليم علي اختلاف درجاته من عال وثانوي وابتدائي وقد أولي اهتماما أكبر بالتعليم الابتدائي باعتبار ان الأمم إنما تنهض بالتنشئة الجيدة للأطفال.. أما التعليم العالي فهو اساس النهضة العلمية حيث يتم الاستعانة بهم في القيام بأعمال الحكومة والعمران وأيضا تعليم الاطفال. وقد ساعد محمد علي. علي تكوين طبقة تعلمت تعليماً عالياً قبل إنشاء المدارس الابتدائية والثانوية والحقيقة ان التعليم والنهضة التعليمية في عهد محمد علي كانت نهضة حقيقية في مجال التعليم وكذلك فإن دراستها وتحليلها تحقيق استفادة كبري وقد قرأت في كتاب "الجبرتي" ان محمد علي باشا كان أول ما فكر فيه هو انشاء مدرسة المهندسخان في القلعة وقد أسسها عام 1820 وبعدها مدرسة الطب ثم مدرسة الصيدلة ومدرسة الولادة. وفي سنة 1836 انشأ مدرسة الألسن وتوالت باقي المدارس العالية ولم يكن الاهتمام قاصراً علي القاهرة فقط.. ولكن اهتمامه يتضمن كل انحاء مصر وبالمناسبة ظلت مصر اسيرة جهود محمد علي في تطوير التعليم علي مدي سنوات طويلة.. نأتي بعد ذلك إلي عهد ثورة 23 يوليو حيث بدأ التساهل في نظام التعليم وتم تعديل المناهج وحدث تزوير وقلب الحقائق التاريخية في معظمه ان لم يكن كل المناهج الدراسية لتساير تعاليم الثورة لدرجة انه ظهر لأول مرة في مصر بدعة النجاح والانتقال إلي السنة التالية مع رسوب التلميذ في مادتين لذلك انخفض الحد الأدني للنجاح بالنسبة للمجموع الكلي للنجاح وأصبح في الثانوية العامة أقل من 50% وأدي بالطبع هذا التساهل إلي اضعاف العملية التعليمية في معظم مراحل التعليم وكان رد الفعل الذي صحب ذلك هو هبوط مستوي التعليم وكثرة عدد الراغبين في الالتحاق بالجامعات ولم يجد التعليم الصناعي والفني طلاباً.. وأصبح التنافس علي اشده لدخول الجامعة وكان أمل كل اسرة ان يتعلم ابنها تعليما عاليا بعد ان كان التعليم العالي قبل الثورة قاصراً علي ابناء الاثرياء النابهين والمتفوقين. ومع ازدياد الطلب علي التعليم العالي ارتفعت مستويات القبول واصبح الشرط الوحيد لاستكمال التعليم هو الحصول علي مجموع عال والحصول عليه تطلب المساعدة الخارجية المتمثلة في الدروس الخصوصية واصبح المدرسون يتسابقون علي اعطاء الدروس الخاصة لكي يحصلوا علي دخل أفضل يعينهم علي متطلبات الحياة خصوصا وان مرتبات المدرسين متدنية كما قيل وقتها وليس ان كان للمدرس هيبة لتعففه عن اعطاء درس خصوصي.. أصبح يمد يده ويحصل علي أجر الدرس من تلميذه وبالتالي ضاعت هيبته وهذه الحقيقة. والحقيقة إذا كنا بالفعل جادين في احداث ثورة في التعليم لابد من دراسة كل الأساليب السابقة التي اعتمدت علي جعل التلاميذ حقول تجارب في كل مستويات الدراسة فمثلا كانت الدراسة في المرحلة الابتدائية مرة 6 سنوات ومرة 5 سنوات وفي المرحلة الثانوية مرة كانت الثانوية العامة ثم علي مرحلتين مع ضم المجموع عند اعلان النتيجة ومرة الثانوية العامة هي فقط سنة واحدة وجعل السنة الثانية هي سنة نقل عادية والآن تريد الوزارة جعل الثانوية العامة علي ثلاث سنوات بضم مجاميع السنوات الثلاث أي أن التجارب ستظل سارية. ادرسوا أولا الاساليب الخارجية والداخلية وضعوا برامج تساير المجتمع المصري حتي لو كانت البرامج من فنلندا فإن الواجب يحتم ان يتم معالجة كل ما هو اجنبي ليتفق مع الطبيعة المصرية.