مهرجان شرم الشيخ السينمائي. حدث يحتفي بالمدينة وسحرها وليس بالعروض السينمائية وحدها.. ولو كان لدي صناع السينما في مصر والعالم انجذاب أصيل للجمال الطبيعي الخلاب الذي يضم داخل اطار واحد البحر والجبال والصحاري والوديان والخلجان إذن لأصبحت "شرم الشيخ" بمثابة القبلة الفنية المفضلة التي يجدون فيها مبتغاهم. فالمكان يصلح خلفية فاتنة بديعة الألوان والتضاريس الجغرافية لحكايات الحب والمغامرات والأساطير والملاحم والبطولات الإنسانية والأفلام بأنواعها الاستعراضية والتاريخية والدرامية والكوميدية ... إلخ. قليلة تلك الأفلام المصرية التي اتجهت إلي هذا المكان وقليلة الحكايات التي ارتبطت به علما بأن المدينة نفسها التي تشكل جزءاً من "سيناء" تمتلك تاريخاً يصلح موضوعاً للملاحم الوطنية وللحرب ضد الإرهاب حيث تعرضت لهجمات عديدة وسقط فوقها عشرات الضحايا. أنها أيضا مدينة تتجسد فوق أرضها المعني الحقيقي للإرادة الإنسانية القادرة علي تحويل الصحراء إلي جنة والخراب إلي إعمار وعمار مبهر. إرادة تسحق المتربصين بهذه القطعة العزيزة من مصر "سيناء" جنوبها وشمالها والتي كانت مرتعاً للصهاينة وحلماً مازالوا يتطلعون للعودة إليه. "نون" للثقافة والفنون "شرم الشيخ" تتولي تنظيمه مؤسسة "نون" التي أسسها المخرج الراحل الدكتور محمد القليوبي وقد بدأ مهرجاناً للسينما الأوروبية يقام في مدينة الأقصر حيث يتولي تنظيمه مجلس أمناء المؤسسة الذي يضم د.ماجدة واصف "رئيس مهرجان القاهرة في سنواته الأخيرة. ماجدة موريس الناقدة الصحفية ويوسف رزق الله "المدير الفني لمهرجان القاهرة" والمخرج داوود عبدالسيد والكاتب جمال زايدة الصحفي بالأهرام والذي يتولي رئاسة المهرجان حالياً.. مع وديد شكري المدير التنفيذي بينما يشغل الناقد أسامة عبدالفتاح منصب المدير الفني في هذه الدورة. "شرم الشيخ" حلت محل الأقصر. ولم يعد المهرجان قاصراً علي السينما الأوروبية وإنما يتسع لأفلام من جنسيات متنوعة. وهذه هي الدورة الثانية التي تستضيفها مدينة السلام وقد اختار المنظمون السينما الأمريكية المستقلة ضيف شرف المهرجان وبهذه المناسبة تم استضافة المخرجة والمنتجة الأمريكية أيزي تشان وهي من أصل آسيوي وقد عرض لها المهرجان فيلم "التحول الكبير" كما نظم لها ندوة تتناول تجربتها كمخرجة ومنتجة مستقلة بالإضافة إلي عرض فيلمين ضمن برنامج الأفلام الأمريكية المستقلة وهما "وصاية" للمخرج جيمس لاباين ويتناول قضية تتناولها المحاكم الأمريكية حول حضانة طفل والفيلم الثاني "شيف" "Chef" من إخراج وتأليف وبطولة جون فافرو. يتضمن المهرجان أيضا عروض أفلام طلبة "معهد السينما" وأفلام طلبة "الاكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا بالإضافة إلي اقامة ندوات للمكرمين وهم ليلي طاهر. وحسن حسني. وعلي بدرخان إلي جانب ورشة للتصوير السينمائي يشرف عليها مدير التصوير كمال عبدالعزيز. اختار المهرجان ليلي علوي رئيس شرف للمهرجان لهذه الدورة "الثانية" والتي تم اهداؤها لاسم الناقد علي أبوشادي الذي رحل عن عالمنا منذ أيام. وكالمعتاد ومثل كل المهرجانات المحلية التي تقام في المدن المصرية البهية والفريدة لا يعدو أن يكون مناسبة فنية محدودة لا تحظي بتأثير يذكر ولا بنسبة مشاهدة عالية ولا تغطية إعلامية بالرغم من اشتراك عدد من أفلام للطلبة في المعاهد الفنية مع حضور نجوم وفعاليات تبدو نظرياً طموحة. إلا أن الحضور داخل قاعة العرض لم يكن يزيد علي أصابع اليد فيما عدا القليل من الاستثناءات كما في فيلم الافتتاح الذي تأجل عرضه لليوم التالي. وفيلم أمريكي بمشاركة مخرج مصري "أحلام لم تراودني". وبالنسبة للندوات الخاصة بالنجوم فكان لها الحظ الأكبر من المشاركة أما الندوات الخاصة بالأفلام فتكاد تكون معدومة. وكالعادة أيضا ضيوف المهرجان هم أنفسهم جمهوره القادم من القاهرة أو نسبة من هذا الجمهور كانت تحرص علي الحضور وهنا يظهر الفارق لافتا بين مهرجان مثل "الجونة" والمهرجانات الأخري المحلية المبعثرة باسماء مختلفة ومستويات من الأداء أقواها ضعيف. وباشراف نفر من غير المتمرسين في صناعة المهرجانات التي أصبحت بالفعل صناعة ولها متخصصون وخبراء في هذا المجال ولعل هنا يكمن الفارق بين مهرجان له "حضور" وآخر غائم ومهزوز . أجمل من كان وفينيسيا "شرم الشيخ" المطلة علي البحر الأحمر أجمل من مدن البحر المتوسط "كان" الفرنسية. و"فينيسيا" الايطالية وأكثر اشراقاً وبهاء من الاثنين بحكم مناخها ورحابتها وامكانياتها غير المحدودة ولذلك فإنها تستحق مهرجاناً عالمياً للسينما يليق بها ويضعها علي خريطة المهرجانات الكبري. مهرجانا يضاهي هذا الجلال والحسن الرباني والموقع الجغرافي المتفرد وليس مهرجاناً محدوداً فاترا وبلا مقومات قوية تضمن تطوره. مهرجان بحجم المؤتمرات الدولية الكبيرة التي تنعقد فوق أرض هذه المدينة. توليه الدولة اهتماماً كبيراً ويتولي تنظيمه هيئة لديها الامكانيات القادرة علي توفير الأفلام في عروضها الأولي وعلي استضافة نجوم عالميين علي غرار مهرجان كان وفينيسيا. "شرم الشيخ" تستحق مهرجانا يضاهي مهرجان القاهرة في عصره الذهبي وليس في سنواته الأخيرة التي تنبيء بقرب رحيله إذا لم تسارع وزارة الثقافة بعملية انقاذ حقيقية تبتعد به عن الشللية والاسماء المحروقة قليلة الموهبة أو تلك المهيمنة علي جانب من النشاط الثقافي دون أية مقومات أو مؤهلات تبرر ذلك. شهد المناخ الثقافي في سنوات ما بعد عام 2011 انتكاسات أليمة أصابت في مقتل صورة "القاهرة" كمصدر اشعاع فني ثقافي قادر علي التأثير في محيطها العربي حيث طفت علي السطح ظواهر اصابت الحالة الثقافية بالتشوهات والإنحرافات والشللية الغريبة الضعيفة احتل صدارة المشهد صناع القبح والعشوائية والفساد الأخلاقي والإنحطاط السلوكي والابتزاز كوسيلة لتحقيق المآرب والمفارقة وأن ذلك يتم تحت لافتة حرية التعبير والإبداع وبطبيعة الحال لن تنجوا هذه المؤسسات الثقافية الرسمية في مستوياتها الأعلي من سيطرة هؤلاء. فيلم الافتتاح المؤجل هل سمعت عن مهرجان يؤجل عرض الافتتاح إلي الغد؟؟ ولو كانت الأسباب خارجة عن إرادة المنظمين؟ ألا يعني ذلك "رحرحة" في إدارة "كيان" يفترض أنه "دولي" وهو نفس الأسلوب الذي يؤدي إلي تأخير حفل البداية لأكثر من ساعتين وتأخير وصول وفود المشاركين للقاعة وتعطيل العرض السينمائي أو تأجيله. لا أريد أن أقلل من الجهد المبذول الذي يقوم به حفنة من الشباب في تنظيم المهرجان ولا من اجتهاد بعض العاملين في الفريق المشارك في صنع هذا الحدث ولكنني أتحدث عن قيمة عظيمة يتم اهدارها غالباً وفي معظم المناسبات الثقافية الفنية خاصة وهي "الجدية" التي تنشد "الكمال" لله وحده.. هذا صحيح ولكن هناك "كمال" بشري نراه في انجاز المشروعات الكبري وفي انجازات الدول التي تسير بخطي سديدة علي طريق التقدم هناك أيضا قيمة "الوقت" ذلك لأن المهرجانات السينمائية ليست رحلة للاستجمام مجانية في المنتجعات السياحية أنها فرصة للتحصيل المعرفي. وللأمساك بتجارب فنية لا توجد فرصة أخري للتعرف عليها ومناسبة للوقوف أمام ثقافات تعكسها صناعة الترفيه في الدول المختلفة.. إلخ.. إلخ. النجاح بطعم الألم والغضب ورغم ذلك ضم المهرجان في دورته الثانية أعمالاً قليلة جديرة بالاهتمام حتي وأن تراوح مستواها بين المتوسط وفوق المتوسط أغلب الأحيان لأنها تجارب جديدة وتعبر عن واقع بلدان قريبة مثل المغرب والعراق عانت من مراحل التطرف وجماعات الإرهاب وما بعد الغزو الاستعماري وأيضا في زمن الهجرة إلي البر الآخر من المحيط أو العودة بعد فشل . وثمة تجارب محترمة جداً وممتازة مثل الفيلم التسجيلي الروسي "أنا جاجارين" وفيلم كوميدي إنجليزي بعنوان "عيد ميلاد سعيد توبي سيمبسون إلي جانب الفيلم المدهش الأمريكي "أنا تونيا" الذي أتوقف أمامه قبل أن أعود إلي الأعمال الأخري. اكثر ما لفت نظري في هذا الفيلم هو حجم المسافة الهائل الذي يزداد اتساعاً وعمقاً بين ما وصلت إليه صناعة السينما في الولاياتالمتحدة والمستويات التي وقفنا عندها والتي تضعنا في مكان آخر بعيد جداً عن انجازات الفن السابع في دولة متقدمة والفارق ليس فقط في استخدامات التكنولوجيا المتطورة وإنما أساسا في مستوي التفكير واختيار الموضوعات. وفي مستوي الخيال والذوق وبالمناسبة الفيلم المصري غائب في هذا الحدث. بطلة الفيلم في العشرينيات حققت بطولة فذة في رياضة التزلج علي الجليد وبلغت مستويات غير مسبوقة في لغة الحركة أثناء استعراضها الراقص فوق الجليد و قدر من الليونة والرشاقة واللف بجسدها مرات أثناء قفزها إلي ارتفاع قياسي هذه البطلة وصلت إلي درجة تؤهلها للألعاب الأوليمبية انها شخصية واقعية وحكاية جرت عام 1994م ولكن قصتها ليست عادية. قصة نجاح قياسي بأسلوب غير مسبوق لا يخلو من خسة وتآمر وتجلله فضيحة ليست من صنعها ولكن بمعرفتها. فضيحة بثتها وسائل الإعلام الأمريكية وتغذت عليها وحاصرت بطلتها ولكن هذه الفضيحة لا تشكل سوي جانب واحد من سيرة حياة بطلة التزلج الأمريكية تونيا هاردنج التي لعبت دورها ببراعة مذهلة الممثلة مارجوت روبي. الفيلم رشح لثلاث جوائز أوسكار وفاز مؤخراً بواحدة منها ذهبت للممثلة اليسون جابي التي لعبت دور الأم وجسدت الأمومة في أبشع صورها انها أكثر الأمهات ضراوة وشذوذاً ظهرت علي الشاشة. مؤلف الفيلم يقتبس سيرة حياة هذه البطلة ويعيد صياغتها من منظور يضع قيمة "النجاح" تحت الأضواء النجاح كغاية تبرر الثمن المدفوع للوصول إليه. حتي وأن اقتضي كسر ساق الشخصية المتنافسة في السباق وشل وصولها إلي نفس الغاية.. وهو ما فعلته تونيا هاردنج بمساعدة زوجها. ولكن النجاح المشوب بالعار ليس وحده موضوع الفيلم لأنه عمل متعدد الخيوط ومركب رغم أنه يتمحور حول شخصية البطلة الأمريكية التي دخلت تاريخ الرياضة مهزومة معنوياً. محرومة من ممارسة الرياضة ومنزوع عنها وسام البطولة. وعلي الرغم مما جري لا يقدمها الفيلم كضحية لأنها لا تعرف الهزيمة وتبدأ بعد عزلها في تعلم رياضة الملاكمة وتحقيق ذاتها بتوظيف قيمة "العنف" العنف البدني الذي ذاقته وتربت عليه منذ نعومة أظافرها أولاً من خلال أمها المرأة الحديدية بالغة الفظاظة سليطة اللسان المتسلطة المدمنة للنجاح وللعنف وسيلة لتحقيقه امرأة لا تتوقف عن التدخين ولا عن معايرة ابنتها بالفقر والفشل واثارتها بصب اللعنات التي تنال من كبريائها. الأم التي جسدتها اليسون جابي ونالت عليه جائزة الأوسكار عن جدارة تنتمي إلي الطبقة العاملة الفقيرة التي تشبست بالنجاح كوسيلة للخروج من الفقر وبابنتها الموهوبة إلي حد التفرد كوسيلة للوصول إلي المجد ولا يهم أن يكون مجداً ملوثاً. ولكن الأم والابنة تعيشان في مجتمع طبقي يري الفقراء غير جديرين بتمثيل صورة أمريكا. هكذا عبر أحد أعضاء لجنة تحكيم المباراة التي شاركت فيها "تونيا" ومن أجل هذا لم تكن "تونيا" بمظهرها المتواضع وسلوكها الخشن وفظاظتها المكتسبة "عنواناً" بقدر ما هي حالة كاشفة عن العنف الأسري والمجتمع الطبقي والبزنس الرياضي المعتمد علي تكتلات الشركات العاملة في هذا المجال والرعاة الحقيقيين وراء هذا النشاط. فالفيلم يعبر عن جوهر ما تعنيه أمريكا وسياستها وحقيقة ما تنطوي عليه "الحقائق" التي يفرزها الواقع وتروج لها "الميديا" وتزرعه في عقول الناس من صور ذهنية سلبية كانت أو ايجابية. "تونيا " البطلة التي دخلت تاريخ رياضة التزلج الأمريكية عاشت العنف الأسري مركباً مرة من خلال الأم التي كانت تمسك بجهاز التحكم في ابنتها عن قرب وبشراسة ومن خلال الزوج الوغد العدواني الذي أذاقها جرعات مؤلمة من العنف إلا في اللحظات الحميمة التي تعوضها أو تمنحها القدرة علي التحمل. حياة "تونيا" هي مزيج غير متكافيء من القسوة والجفاف العاطفي ومن الإمتلاء المؤقت بمشاعر الانتصار. أنها "بطلة" رباها "الإيذاء" بدنيا وسيكولوجيا وبالعنف وصلت إلي انتصار مؤقت وفي كل الأحوال رفضت بإرادة صلبة أن تكون ضحية. هذا المزيج الغريب من الصعود والهبوط والدموع والغضب. والنشوة اللحظية. والامتلاء الدائم بالثقة والتوق الذي لا تنطفيء شعلته إلي تحقيق النصر. ولد في نفس الوقت لحظات من الدموع. ومناسبة للضحك تولده شخصيات طريفة. تجمع بين بدانة التكوين وغلطة المشاعر والحماقة وممارسة الشر بدم بارد أشير هنا إلي شخصية "شون" التي لعبها الممثل بول والترز هاوسر أيضا شخصية الزوج "جيف" التي لعبها سبستيان ستان ممثلان ثانويان صحيح ولكن وجودهما في حياة البطلة والفيلم لا غناء عنه فهي شخصيات أمريكية خالصة من لحم ودم وروح حية. التسجيلي والروائي مخرج الفيلم كريج جيلسبي أذاب في معالجته لسيرة حياة البطلة "تونيا" الخط الفاصل بين التسجيلي والروائي في مزيج يجمع بين اللقاءات المباشرة بين "رواة" عايشوا هذه السيرة ولعبوا أدواراً فيها وكانوا شهوداً وصناعا لوقائعها وكل من وجهة نظره وبين حكاية "تونيا هاردنج" التي ترسم صورة امرأة سارت فوق الشوك وتجرعت الألم البدني والنفسي. بكت ورأت القسوة المفرطة من أم يفترض أنها مصدر للحنان. ولكن عندما يكون "الانتصار" غاية للخروج من شح الحياة فلا بديل عن العنف في دولة العن أحد أركان سياستها منذ أن نشأت. قوة الفيلم كعمل فني تنبع من قدرته اللامتناهية علي الاستحواذ بصرياً في مشاهد مذهلة من الاستعراض الراقص فوق الجليد ومن الإخراج المتمكن جداً لعنصر إدارة الممثل وفي بنائه غير العادي للشخصيات غير العادية والتي تمارس الشر بمنتهي الاريحية وكأنه تحصيل حاصل.. أيضا من تفوق عنصر التصوير واختيار الزوايا الكاشفة جداً عن وضعية هذه البطلة في محيطها الخارجي ودواخلها المشحونة بالقلق والتوتر. أنها دراما "الثلج" أعني البرودة الفولاذية التي تتملك الإنسان الفردو تسيطر علي إرادته وتجمد مشاعره وتوجه هوسه بالنجاح والسخونة اللاسعة لإعلام مهووس بصناعة الإثارة لا تتوقف آلات تصويره عن اصطياد الصور. الايقاع في هذا الفيلم يشدنا إلي عنصر التوليف العبقري وإلي سؤال لم أصل بعد إلي اجابته: هل الممثلة التي لعبت دور "تونيا" بطلة تزلج فعلاً ومدهشة إلي هذه الدرجة؟ وهل هذه المهارة الفائقة تم اكتسابها لأداء الدور؟ وهو الأمر المذهل أم أن الوصول إلي "الكمال" في فيلم يتناول موضوع البطولة والتفرد يقتضي بذل الجهد؟؟!!