الرؤية هي جوهر الشعر. وما يحمله الشاعر لقارئه عن ماهية الذات في مواجهة العالم. ومحور حديثنا عن ديوان "سفر نشيد إنشادي" للشاعرخالد البوهي. وهو الديوان الثالث له بعد "منف" و"حلم". ويحوي مجموعة من القصائد العمودية وأخري من شعر التفعيلة. ولكن لم يكون التقسيم في هذه الإضاءة علي أساس الشكل. فمن وجه نظري ان الشكل الفني هو ابن بيئته. وان جوهر الشعر هو الشاعرية وهي طريقة خاصة جداً لفهم الذات والعالم وطريقة ما للتعبير عن تلك الرؤياة. قصائد الشعر العمودي تدور عن مرثية الذات. وتقديس الحب والنزعة المثالية. ويستخدم الشاعر اللغة بمدلولاتها. ونفهم الصورة الشعرية عن طريق ادراك مدلولات عناصر الصورة. ولا يحدث هذا عملية هدم اللغة وتجريدها من مضامينها المباشرة. وإعادة تركيبها بمنطق الشاعر الخاص بقواعد من صنعه هو. وفي قصائد التفعيلة تظهر بعض ملامح الرؤية الحداثية للشاعر وذاته والحياة. في قصيدة "ليل" في مقابل مثالية الجزء الأول هنا السقوط في وحل المدينة. والضياع في الغابة المتوحشة والتطلع لمستحيل لا يدرك أبداً. ربما يرفض الواقع لكنه أيضاً لا يصل للمثال الذي يبتغيه. ويكون السقوط حتمية لا مفر منها. وتكمن مأساة رفض الواقع. "لأني أحب الخرافة والمستحيل/ وأعشق في الليل حاناته" اللجوء للوحدة في عالم أنكره. "لأني إذا الليل جاء/ عرفت الذي كنت لما أكله/ وأبصرت في كل درب دليل/ وأدركت ان النهار احتضار/ وأحببت ليلي الطويل" فنهار المدينة الممتليء بالبشر والصخب وتفاصيل الصراع الحياتية تقتله. وفي قصيدة "سقوط" تتسع هاوية الحياة لتبتلع الجميع في العدم الكامل يتساوي العاهر والقديس. وربما يكون هو أكثرهم تعاسة لأنه لا يصدق وهم الحياة ليسعد ولو حتي سعادة عابرة. فهو لا يعمل أبداً كغيره عن حقيقتها المؤلمة فيتحطم كشيء تافه بلا ملامح ولا هوية هشاً كزجاجة. وفي قصيدة "أسي" ربما يكون معتاداً أن يرثي الإنسان مصيره في الممات. وربما يهجو الموت ذاته الذي يحرمه ملذاتها. ولكن هنا حياته موتاً لم يكتمل وفناءاً لا يحتاج إلي مقبرة. "مأساتك/ ان حياتك طالت/ فوق النعش. بدون القبر" وهي لحظة مؤلمة جداً أن تظل ساكناً في نعش فلا تحيا ولا تموت. وهو ينفي الحياة عن عمره تماماً فما هي سوي موت بطيء مستمر. وفي قصيدة "انتحار" إعادة انتاج الواقع والهروب لعالم يخلقه خياله هو "تدلت من الرأس روح/ نغني أغاريد صمت جميلة/ نظوف بعيداً عن الزمن المستباح". فالحياة قاسية "سحقاً لكون نرجل فوق جباه الرجال/ ليشرب من دمع حزن العيون/ ويهدأ من نزف روح قتيلة". وإذا كان الفناء محتوماً فلن يبقي لإنسان سوي رغبته للهروب من واقعه المر "ماذا تبقي من الكون/ غير التي تدلت". وفي قصيدة "توقف" لا مفر أبداً من مصير ينتظرنا جميعاً لن يجدي معه الفرار إلي قهوة الأمسيات. ويكون السؤال المر "لماذا توقفت عن قهوة الأمسيات؟ والتي تجسد محاولة الهروب من المصير المحتوم ومحاولة إلهاء الذات عنه!. وفي قصيدة "بوح" يكون ما بداخل الروح الإنسانية من براءة وقدرة علي الحلم هي سبب تعاسة الإنسان وشقائه "عشتها مينا/ تعذبه الملائكة التي حطت علي قبر الحياة جحيمها". وفي تلك الإضاءة السريعة يتضح الفارق بين رؤية الشاعر في قصائده العمودية وقصائد التفعيلة. وتتضح بعض ملامح الحداثة الشعرية فمن الجنوح للمثالية للتورط في وحل المدينة وحماقاتها. ومن محاولة تغيير العالم للأجمل للهروب منه. ومن الاحساس بامتلاك الحقيقة وحمل مشعلها لانكسار دائم مستمر وكأن الحياة حلقة من حلقات الموت.