مربوطاً إلي السّرير الحديدي دفعَه النوبتجي إلي قفصٍ مظلمٍ، النوبتجي الذي صوّبَ العدساتِ علي مؤخرةِ يسارِ الجمجمة، وضغطَ علي الزِّر: جاءت حدوتة مصرية، والراهب، ويوسف شاهين، وتجار الموالح، وكل هذا الجاز، ومدرسة عبد المنعم رياض، وسجن العبدلي، وصنع الطائرات الورقية، ونشأ وترعرع، والقنابلُ المضيئة، وسُرّةُ سيدة النبع، ونزيفُ زاهية، وعبس وتوّلي، ومسلسلُ الأيام، وقوارب الزناتي للصيّد في السحر، ونسوة يرتجلن عدودة حول ناعورةٍ، وجثة سامي المليجي في الرَّياح المنوفي، ومعتقلُ القلعة، وساهمُ الطرف كأحلام المساء، وإضاءة 77، وبقراتٌ طائراتٌ علي أطراف الكازوارينا، ورعبُ المترجمات من المسحراتي، وكتاب النبي، ودفنُ عبد الغني سالم. لا أعرف لماذا التقطت، بعد ساعات من موت حلمي سالم، "مدائح جلطة المخ"، بالذات. إنها عادتي، كلما مات كاتب أحبه، أن أستدعي علي الفور كتاباً له وأبدأ قراءته بصوت عالٍ، لنفسي وله، كأنني أقرأه علي روحه. وبالنسبة لي، كان حلمي سالم أكثر من شاعر أحبه، كان مناخاً، يتجاوز شعره نفسه، وسماته الشخصية.. حلمي سالم وجه تحتفظ له ذاكرة أعوامي الخمسة والثلاثين بأكثر من عشرين عاماً من الصداقة، منذ صافحته لأول مرة في صيف عام 1991. الآن، بينما أفشل في كتابة مرثية، لأنها لن تليق به، ولأن الموت أكبر من المجازات، ولأن موته عبارة يستحيل العثور فيها علي جمال، أجدني أختار هذا الديوان، ربما لأنه ديوانه الفاصل، المكرس كلية لانفجار أولي محنه الكبيرة مع المرض، وتجربته البكر في رؤية الموت وجهاً لوجه بسبب غدر الجسد به، وليس الحروب أو حتي الأصدقاء للأسف لم أقرأ ديوانه الأخير المخطوط الذي عرفت أنه أغلق قوس تجربة المرض (والحياة معاً هذه المرة) لكنه في المرة الأولي نجا، كان ذلك قبل سبع سنوات من توجهه إلي مقبرته ( كتب مدائح جلطة المخ في العام 2005) . لكنني، في القراءة الجديدة التي جاءت علي خلفية موته الطازج، رأيت سيرته المنثورة بمهارة علي وجه القصائد، تعود فتلتم، تتضح بعد أن قرأتها في المرة الأولي غائمة، مستحية خلف وهج اللعب، الذي أدمنه حلمي سالم، وكأنه ينكر علي الشعر حياة متماسكة، أو يستكثره علي سيرة رآها، ربما، عابرة. في هذا الديوان كان حلمي سالم يصل بكل ولع يسمه إلي أقصاه، هو من أكبر دواوينه حجماً وغزارة بالقصائد، وهو أكثرها تسامحاً في مؤاخاة قصيدة النثر بالتفعيلة بل وبالشعر العمودي، وهو أشدها انفتاحاً علي فضاء السيرة الشخصية منذ الميلاد وحتي سرير المرض، وهو أيضاً أكثرها متحاً من التناصات، من كل حدب وصوب( يحوي تناصات مع شعر عربي قديم، وشعر حسن طلب ومحمود الشاذلي وأحمد شوقي وأحمد عبد المعطي حجازي وعبد المنعم رمضان والسيّاب وشعري وآخرين). لم أتخيل أن يلجأ سالم في ديوان مرضه لبعض ممن كرس قطيعته معهم جمالياً، كالتقليدي أحمد شوقي أو صاحب الحساسية المختلفة تماماً مع رؤيته للشعر أحمد عبدالمعطي حجازي. جاهدت لقراءة أكثر صفاء، كي ألتقط الألم المخبأ خلف أدغال حلمي سالم التي تفتت الدلالات الجاهزة بقسوة، علي نثارات متناهية الصغر، تجعل الخبرة الشعرية في صدارة المشهد، وما نسميه الخبرة المباشرة محض فسيفساء منثورة الشتات. الآن، تنصع الرؤيا للعالم النائم بين القصائد، تلم ما قبلها وتؤسس لما سيأتي.. ويتجلي ألم حلمي سالم صافياً. أيضاً، في "مدائح جلطة المخ"، ينتهي سالم من حيث بدأ، بالقصيدة نفسها التي اسمها "مبتدأ"، مبتدأ في الحياة ومبتدأ في الموت، في أول الديوان وآخره، في رعونة اللحم والدم وفي نعومة التراب. "إنها الرقيقةُ التي مبدؤها الإيماءُ، تطوف بالعمر من أجل أن يجدّدَ العمرُ اسمَه الحركي. إنها الناعمةُ التي مُتكؤها الشعيراتُ، حيث تسري تذكرةُ داود، من أجل أن تستيقظَ الفواكه لكي يدركَ العشّاقُ أن الدَّم خوّانٌ، وأن الرحابةَ خدعةُ العافينَ عن الناس.