عندما سئل سيدنا نوح عليه السلام قبل وفاته وقد عاش نحو ألف عام: ماذا وجدت الدنيا يا أطول الأنبياء عمراً؟! قال: وجدتها كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر!! إذن.. فالحياة الدنيا متاع قصير الأجل مهما طال العمر.. وآخرته حقيقة لا لبس فيها ولا مراء وهي "الموت" مصداقاً لقوله تعالي: "إنك ميت وإنهم ميتون". عشت زمناً طويلاً.. وأبلغ الآن الثمانين عاماً.. ودعت خلالها أصدقاء وزملاء كانوا ملء السمع والبصر.. بعضهم كان كبير السن.. والكثيرون منهم كانوا شباباً أو في أواسط العمر.. وكنت كلما اختطف الموت واحداً منهم.. أجلس وأتأمل في حال الدنيا.. يشقي الانسان ويتعب.. يفرح ويحزن.. ويتقاتل ويغضب.. وكأنه سوف يعيش للأبد.. وهو لا يدري أن ربه أقرب إليه من حبل الوريد. مات أخي وهو في سن التاسعة عشرة.. ومات أخي الثاني وهو في سن الثامنة والعشرين.. ومات أخي الثالث الذي رعاني بعد وفاة أبي وهو في سن الستين.. ومات ابنه وهو سن السادسة والأربعين.. وعشت أياماً حزينة لفقد هؤلاء الشباب.. فما أصعب علي النفس من فراق الأحبة الذين كنت تري فيهم أمل الحياة وعنفوان الشباب. وفي العمل فقدت زملاء كثيرين في صحيفة "المساء" لا أستطيع تذكر أسمائهم جميعاً.. افتقدت أصدقاء كنت أعتز بهم وأحبهم من سويداء القلب.. محمد الزيات.. حسين الرخاوي.. عايدة صالح.. ماهر حسين.. عبدالعزيز خاطر.. محمد نجيب. وفي السنوات الثلاث الأخيرة خطف الموت من بيننا مجدي يوسف.. وعبدالفضيل طه.. وصبحي الشاروني.. وسيد أحمد.. وجمال إمبابي.. وآخرهم الشاب الخلوق أحمد الشريطي. كنت لا تشعر أن أحمد موجود في العمل رغم أنه يجلس في مكتبه.. فإذا أقبل عليك ليتحدث معك تحسب انه مس شغاف قلبك بحميميته.. كان قلبه يسع بالحب كل الزملاء.. صوته رزين وكلماته محددة بما يريد قوله. لم أسمع منه أية كلمة تجرح مشاعر زميل.. عاش بيننا كالنسيم الرقيق.. يدخل ويخرج دون أن يشعر به أي أحد. قضي أحمد الشريطي السنوات العشر الأخيرة من عمره وهو يعاني مرضاً عضالا.. تحمله برضا وصبر المؤمنين.. ورغم شدة الألم فقد أصر علي ان يحضر للعمل كلما سنحت له الظروف الصحية. أريد أن اسأل جميع زملائه.. هل رأيتم أي إساءة من أحمد الشريطي في حق زميل؟!.. هل وجدتموه مغلولاً من أحد أو ناقماً عليه؟! هل بادر بشكوي من أحدهم تجعله ينفر منه؟! عاش بيننا كالنسيم الرقيق.. صافي النفس.. نقي السريرة.. عذب الفؤاد.. ميالاً للحب والعطف.. خدوماً للزملاء قدر استطاعته. أدعو الله سبحانه وتعالي أن يسكنك فسيح جناته بقدر ما صبرت وتحملت من أمراض.. وأن يجزيك خيراً وينعم عليك بوافر رحمته ويحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. نستودعك الله الحليم الغفار.. ولا نقول إلا كما قال الأولون "إنا لله وإنا إليه راجعون" يا أعز الأبناء وأنبل الزملاء.