كلما هلَّ موسم الحج وتعالت تلبية حجاج بيت الله الحرام تهفو النفس إلي نسمات المدينةالمنورة. حيث استقر المقام بسيد الخلق سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم بتلك الديار. وعندما يصل الإنسان إلي هذه البلدة لا يريد ان يرحل منها فالتمتع بطيب أهلها وسماحتهم في التعامل تجعل الاقامة بينهم أمراً محبباً للقلب. والأكثر شرفاً متعة الصلاة في ساحة الروضة الشريفة التي هي من رياض الجنة ثم تمام الكمال السلام علي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم خير خلق الله جميعاً. وغض البصر وخفض الصوت تأدباً مع الحضرة الشريفة. مهابة وتقديراً وتواضعاً لكي أنال شرف رد هذا السلام مصداقا للآثار الصحيحة عن خاتم المرسلين التي تؤكد ان من يسعده الحظ ويتمتع بإلقاء السلام عليه فإنه يحظي بالرد. ومن يفز بهذه المكانة ينل رضا رب العالمين. وأي شرف افضل من هذا حينما يسعد الانسان بتلك المكانة ويلبي قول رسول الله صلي الله عليه وسلم "من زارني في مماتي كأنه قد زارني في حياتي" أو كما قال صلي الله عليه وسلم. أمام مثوي الأعظم العطرات يقشعر البدن ويهتز الوجدان فرحاً بالقرب من الذي أرسله الله رحمة للعالمين. ثم تزداد المهابة حينما يسعدنا الحظ بالتوقف لحظات تردد اسمي العبارات تحية وسلاماً وشهادة بأن سيد الخلق قد أدي الامانة وبكل الانكسار نسأل الله ان نحظي بالشفاعة العظمي لسيد الخلق يوم الحساب وبعد خطوات قليلة يحظي الزائر بالسلام علي الصاحبين الجليلين أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وتكاد تتجمد الخطوات أمام هذين الصاحبين تقديراً لمكانتهما وعطائهما في مسيرة الدعوة المحمدية نفحات وبركات ونسمات معطرة بحب الله ورسوله فمن يطع الرسول فقد أطاع الله. فهو القدوة والأسوة الحسنة "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم. فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم". وأي قاصد لطيبة الطيبة ينل ثواباً عظيماً لانه استجاب لقول سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد مسجدي هذا. والمسجد الحرام والمسجد الأقصي بالشام" ولذلك من واجب كل مسلم تنفيذ قول الرسول الكريم. وشد الرحال والتأهب لهذه الزيارة لا يكون الا لهذه الاماكن الثلاثة فالثواب هناك يتضاعف والعمل الطيب مستحب في هذه الديار. ويجب ان يكون الالتزام بالآداب والاخلاق هي الطابع العام الذي يجب ان يتحلي به الزائر ففي المدينة ترتاح النفس ويطمئن القلب وتشرق الأنوار المحمدية في الصدور وتلك قمة المتعة الروحية في رحاب سيد الخلق. وفي جوار أولئك الذين بذلوا النفس والمال حباً في الله ورسوله. فكان لهم شرف اقامة الرسول سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم بينهم. وحينما يتحرك الانسان في طيبة الطيبة تقفز إلي الذهن ذكريات تلك الأيام المشرقة حينما التقي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم بأبناء هذه المدينة في بيعتي العقبة الأولي والثانية وتأكيدهم أنهم سوف يقفون مع سيد الخلق صلي الله عليه وسلم يفدونه بأرواحهم ويرددون علي مسامعه صلي الله عليه وسلم بأنهم سوف يمنعونه بما يمنعون نساءهم وأهليهم وكل عزيز لديهم. ولا غرو فقد نالت المدينة وأهلها الشرف الأعظم من رب العالمين حين أشاد بهم في آيات القرآن العظيم حيث قال الله تعالي: "والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاؤلئك هم المفلحون" "سورة الحشر: 9" ويحق للمدينة المنورة وأهلها ان يفتخروا بشرف المؤاخاة بين المهاجرين والانصار التي قام بها سيد الخلق صلي الله عليه وسلم في أفضل مشهد انساني وأرقي تعامل في التاريخ البشري. رجال تركوا الأهل والديار حباً في الله ورسوله "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله اولئك هم الصادقون" "الحشر: 8". وفي هذا المشهد الانساني الرائع ووسط المشاعر المفعمة بالحب والمودة رجال نذروا أنفسهم لله أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك كتب في قلوبهم الايمان وحببه إلي نفوسهم ففازوا بالمكانة الرفيعة. من الصور الرائعة التي تمت علي يد سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ان المهاجرين والانصار انصهروا جميعاً في بوتقة واحدة المهاجر شريك في كل شيء يملكه أخوه الانصاري عن طيب خاطر حتي لو كان الانصاري في أشد الحاجة للشيء الذي يحتاجه المهاجر يقدمه إليه ويكفي الاشارة من رب العالمين الذي يعلم ما تخفي الصدور "ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" انها أرقي وأسمي المشاعر الانسانية. ومن فضل الله علي أهل هذه المدينة الآمنة ان أهلها سوف يظلون في ساحة الكرم حتي آخر الدنيا. فكل إنسان يصل إلي المدينةالمنورة يرتاح للتعامل مع أهلها تقديراً واحتراما وكرما ورعاية تحوط كل زائر لبلادهم. ومن المشاهد التي لا أنساها ولا أمل من تكرارها.. انني كنت في زيارة لطيبة الطيبة في رحلة عمرة في شهر رمضان منذ اكثر من 10 سنوات وقبل موعد المغرب بنحو ساعة واثناء اجراء مكالمة تليفونية للاهل بمصر وقف بجواري فتي عمره لا يتجاوز العاشرة وظل واقفاً بكل أدب حتي انتهيت من المكالمة ثم تقدم نحوي بأسلوب جعلني أشعر بفرح وفخر واستمع إليه بكل انصات قال: هل انتهيت من التليفون؟ - نعم - أريدك في أمر - ما هو؟ - ان تكون ضيفي علي الافطار في هذا اليوم من أيام الشهر الكريم. - بكل سرور.. لكن ما اسمك؟ - عبدالرحمن.. وسأظل انتظرك - سألبي دعوتك ولا تقلق - سوف ادعو آخرين للافطار وأرجو الا تخذلني. - لن أدخر جهداً في تناول الافطار علي مائدتكم الكريمة. - فتركني عبدالرحمن.. وودعته بنظرات الحب وكلمات تحمل أطيب لهذا الفتي وحين جاء موعد الافطار وجدته يستقبلني مع والده بكل رحابة الصدر والكرم. تلك هي احدي الصور الرائعة لفتي ينتمي إلي هذه الديار المباركة مدينة الإيثار والتضحية.. وسوف تظل الرحمات والبركات تتدفق علي زوارها والله اسأل ان يتقبل منا كل عمل طيب وان يجعل كل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.. والله هو الهادي إلي سواء السبيل.