تتوقف مذكرات الأستاذ خالد محيي الدين المنشورة في 1992 بعنوان "..والآن أتكلم" عند اقتراح الرئيس جمال عبدالناصر عليه إصدار "جريدة يسارية مصرية" ويقول مؤسس "المساء" انه لما أبدي دهشته اضاف عبدالناصر: "كل البلاد العربية فيها جرائد يسارية وعيب أن مصر لا يكون فيها جريدة يسارية.. وأنت أفضل من يصدر مثل هذه الجريدة" وأردف أي عبدالناصر قائلا: "بس ماتكونش يسارية زي خالد بكداش. عايزين حاجة يسارية معتدلة" وكان خالد بكداش عندئذ رئيس الحزب الشيوعي السوري أو أمينه العام. لم يتوقف الحوار عند هذا الحد إذ تساءل خالد محيي الدين: "ولماذا مسائية"؟ فقال أي عبدالناصر بصراحة واضحة: "لكي تكون محدودة الانتشار والتأثير".. وبناء علي هذا بدأ الاستعداد لإصدار "جريدة المساء" وعند هذا الحد قائلا: "ويحتاج الحديث عن ذلك كله.. إلي كتاب جديد آمل أن نلتقي معا علي صفحاته قريبا". ومن أسف أن هذا لم يحدث إلي الآن علي أني سمعت منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي وبعد سنوات معدودة من إصدار "..والآن أتكلم" حديثا متداولا عن إعداد لإصدار جزء ثان من مذكرات الحاج المتصوف اليساري الذي رأس تحرير أول صحيفة يسارية مسائية لثورة يوليو.. ولكن مرت السنوات ولم يحدث هذا. وإذا كانت الحقيقة كاملة عن هذا الإعداد والاستعداد قد تكون لدي الدكتور رفعت السعيد الذي قام بدور كبير في إعداد "..والآن أتكلم" فكم يتمني المرء أن تكون لديه مسودات لفصل أو لبعض فصول الجزء الثاني من مذكرات زعيم "حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي" والذي تلاه في قيادته. وقد لاحظ المرء أن السيدة سميحة محيي الدين وشقيقها السيد أمين قد نفيا في حوار صحفي منشور في 2014 أن يكون قد أكمل هذه المذكرات وقال الابن أمين: حاولنا كثيرا أن نحثه علي استكمالها ولكننا لم نفهم لماذا لم يكملها وقالت الابنة سميحة: كان لازم يكتب بقية المذكرات منذ 15 سنة أما الآن فالمسألة صعبة بسبب صحته.. وكانت "..والآن أتكلم" قد لقيت عند صدورها قبولا حسنا من المؤرخين والسياسيين والقراء وإن كان بعض الناصريين قد أدانوها وكان يقلبون حسناتها إلي سيئات.. وليس هذا حديث اليوم الذي سيبدو ناقصا لغياب الرواية الأساسية لمؤسس "المساء" وأول رئيس تحرير لها.. ومن أسف فإن الكتابات عن صحف "دار التحرير" وصحافة ثورة 23 يوليو بصفة عامة لم تكتب كاملة بعد فلم أعثر مثلا علي عنوان أو مضمون رسالة جامعية عن "المساء" بينما هناك رسائل عن صحف أخري قد تكون أخف وزنا وأقصر عمرا بكثير وحتي من عملوا في صحف الدار وهم كثيرون من كبار الصحفيين لم يكتبوا إلي الآن تجاربهم وأعمالهم وآراءهم في صحف "التحرير" و"الجمهورية" و"المساء". "التحرير" واليسار قبل الحديث عن "المساء" ومؤسسها وتجربتها قد يكون مناسبا الوقوف عند مجلة "التحرير" أولي صحف ثورة يوليو والتي عبرت عن معاركها وخلافات قادتها خاصة في سنواتها الأولي وقد كانت - من حيث يساريتها - مقدمة وشقيقة ل"المساء" وصدرت في البداية نصف شهرية ثم تحولت إلي أسبوعية وتولي رئاسة تحريرها الأستاذ أحمد حمروش أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار وأكثرهم كتابة ومن أهمها عمله المفصل عن "ثورة 23 يوليو" الذي يقع في حوالي ثلاثة آلاف صفحة وفي أحد أجزائها نسب لنفسه انه كان صاحب فكرة إصدار هذه المجلة وعرضها علي جمال عبدالناصر فوافق عليها ولكن الأستاذ خالد محيي الدين والدكتور ثروت عكاشة الذي تولي وزارة الثقافة مرتين ذكرا ان صاحب هذه الفكرة هو يوسف صديق ويقول خالد محيي الدين انه ألح "وربما بإيعاز من حدتو" أي الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني وهو تنظيم شيوعي كان علي صلة بقيادة ثورة يوليو علي أن يكون مجلس قيادة الثورة مجلة تعبر عن رأيه في الأحداث وجمع حمروش في "التحرير" العديد من الصحفيين اليساريين حسب تعبير صاحب "..والآن أتكلم" الذي يقدم شهادة مهمة تعبر عن وجهة نظره في الصحافة اليسارية العامة وفي صحفيي تلك التجربة بصفة خاصة ويقول إن الزملاء اليساريين "في التحرير" كانوا كالعادة يعشقون الألفاظ العالية الرنين والشعارات الساخنة وكانوا يتصورون أنهم بذلك يضعون الثورة أمام مسئولياتها وأمام التزاماتها السابقة وأمام برنامجها القديم "أهداف الضباط الأحرار" ناسين أن الدنيا قد تغيرت وأن الضباط الثائرين علي الحكم القديم أصبحوا حكاما وأن التأثير فيهم لا يكون بمثل هذه الحجة ولا بهذا التحدي.. لذلك وبعد ثلاثة أعداد فقط قال عبدالناصر إن المجلة شيوعية ويتعين تغيير رئيس التحرير وأبعد حمروش وجاء ثروت عكاشة وهو بدوره لم يعمر طويلا فتم تغييره بعد أن كتب بمناسبة العيد الأول للثورة في يوليو 1953 مقالا ركز فيه علي دور سلاحه أي سلاح الفرسان مما أثار ثائرة بعض أعضاء مجلس القيادة.. ونعود إلي حمروش الذي يري ان التحرير لعبت دورا في ظهور الفكر اليساري التقدمي ومخاطبة الجماهير بآراء يسارية متحررة.. ويضيف في حوار مع الأستاذ رشاد كمال منشور في كتابه "الصحافة والثورة ذكريات ومذكرات" ان "التحرير" اهتمت أيضا بقضايا الثقافة الجديدة وتابعت قضايا المجتمع متابعة موضوعية تميزت بها من غيرها من الصحف. وجاءت "المساء" هل كانت تجربة "التحرير" ومعاركها ويساريتها التي انتقدها في ذهن خالد محيي الدين وهو يؤسس "المساء" ويقود مسيرتها؟ هذا أمر طبيعي لشاب أنضجته دون شك تجربة قاسية في القيادة وفي الصراع السياسي العنيف وفي الدفاع عن الديمقراطية ثم في المنفي والبعد عن الوطن حيث انه غالبا أطل من فترة سويسرا علي تجارب صحفية يسارية واستفاد من خبرة أحزابها وأدرك بحق ما سجله من قبل عن "عبث اليسار الطفولي" وتشنجه. ومن أسف أن كل هذا سيظل ضربا من الظن طالما انه لم يرو ذكرياته بنفسه - وبالطبع فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله.. ولعل المقصود بذلك هو ما رواه خالد محيي الدين لأحمد حمروش في "شهود يوليو" وهو جزء من المجلد الثاني من "ثورة 23 يوليو".. يقول مؤسس "المساء" وأول رئيس تحرير لها: "لعبت جريدة "المساء" دورا سياسيا هاما. تبلورت فيه آراء الاشتراكيين والتقدميين المصريين.. وظلت "المساء" تواصل دورها حتي قامت ثورة العراق في 14 يوليو ..1958 وقد روي لي جمال عبدالناصر قصة زيارته لموسكو بعد ثورة العراق.. وكان قد أبلغني في مايو بأنهم علي اتصال ببعض الضباط العراقيين.. وقال لي: إن خروشوف نصحه بالتعقل لعدم معرفة ما يمكن أن يؤديه الموقف من أزمات عالمية. وبعد ذلك - ولا يزال الحديث للأستاذ خالد محيي الدين - كتب الدكتور عبدالعظيم أنيس مقالا عن "الحركة الوطنية العربية" وغضب جمال عبدالناصر واتصل بي قائلا: إن هناك "الحركة القومية العربية".. وقال لي: ان القومية العربية "يعني اذن الحركة الوطنية لا الحركة القومية".. قد انتهت بقيام ثورة العراق وقال لي: "أي عبدالناصر لخالد" بكره الجيش العراقي يدبح الشيوعيين ثم طلب منع الدكتور عبدالعظيم أنيس من الكتابة. "وعندما قامت ثورة الشواف المضادة حرصت "المساء" علي ألا تنشر غير الأخبار المؤكدة التي تجمع عليها وكالات الأنباء.. ولما فشلت المحاولة ظهرت "المساء" بمانشيت يقول: "انتهت الثورة" "أي ثورة الشواف" واعتبر جمال عبدالناصر ذلك خروجا علي الخط وتقرر إبعادي عن "المساء" وقد أبلغني بذلك أنور السادات يوم 12 مارس 1959". "الجمهورية" لماذا ؟ وفي مذكراته يقول خالد محيي الدين إن كثافة الوجود اليساري فيها ثم التصادم مع ثروت عكاشة وحمروش جعلا عبدالناصر يتجه إلي اهمال "مجلة التحرير" وإصدار جريدة "الجمهورية" والتفصيلات عديدة حول إنشاء "الجمهورية" وعرض رئاسة تحريرها علي أكثر من صحفي اختار عبدالناصر رئيس تحرير لامعا هو حسين فهمي وكان في ذلك الحين واحدا من أقرب المقربين إلي عبدالناصر ويمضي محيي الدين في روايته متحدثا عن تولي السادات "الرئيس فيما بعد" مسئولية الإدارة في "الجمهورية".. وكان عبدالناصر يتوجه كل مساء إلي دار "الجمهورية" ليراجع بنفسه المانشيتات والعناوين الرئيسية.